الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

نبي الله يونس (عليه السلام)

د. عقيل حسين عقيل

بسم الله الرحمن الرحيم

تقديم

أقدم للقراء والنقّاد الكرام كتاب الشيخ الدكتور علي محمَّد محمَّد الصّلابي عن نبي الله يونس (عليه السَّلام)؛ إذ بدأ الدكتور الصّلابي مؤلّفه كعادته بأسلوبه المتميّز، والسَلس، والمريح، واللين، كليونة الماء بين اليدين، فلا يشعر القارئ بثقل المعلومات، بل يجد نفسه يتنقّل بين صفحات الكتاب بسلاسة، مستمتعًا بعمق التحليل، ورقّة الأسلوب، ودقّة الطّرح.

لقد حرص المؤلف على أن يكون التَّاريخ حيًّا في ذهن القارئ، فلم يقتصر على السّرد، بل أضفى على النّصوص روحًا من التأمّل والتدبّر؛ حيث تتداخل المعاني العميقة مع التحليل الرّصين؛ فتضيء أمام القارئ مسارات جديدة لفهم سيرة النّبي يونس عليه السَّلام.

إنَّ ما يميّز هذا الكتاب هو أنَّ المؤلِّفَ لم يكتفِ بجمع الرّوايات، بل عرضها بروح الباحث المتقصّي، الذي يحقّق، وينقّح، ويوازن بين الرّوايات المختلفة، ليصل إلى أكثرها دقّة وصحة، مستشهدًا بالقرآن الكريم، والسنة النبويَّة الكريمة، وأقوال العلماء الثقات.

وبأسلوبه المرن، ومنهجه التحليلي العميق، تمكّن من تقديم رؤية وافية لقصّة النّبي يونس عليه السَّلام، بما فيها من معجزات وعبر، وكيف يمكن للقارئ أن يستلهم منها في حياته اليوميَّة.

وإنَّ هذا الكتاب رحلة روحيّة تأخذ القارئ في أعماق القصّة، ليعيش مع نبي الله يونس عليه السَّلام، ويتعلّم من تجربته كيف يكون الصّبر عند البلاء، والتوبة عند الزلل، والتوكّل على الله عند الشدائد، وكيف أنَّ رحمة الله دائمًا أقرب مما يتصوّر العبد.

ولم يغفل الدكتور الباحث المتقصّي علي الصّلابي عن تلك الجهود القيّمة التي بذلها العلماء والفقهاء والباحثون الذين سبقوه في دراسة قصّة نبي الله يونس عليه السَّلام، بل وقف عندها باحثًا ومتأمّلًا، ومستخلصًا للدروس والعبر. وقد استوقفته العظائم والمعجزات التي خصّ الله بها يونس عليه السَّلام، كما استوقفته العظائم التي اختص بها كل نبي ورسول، فرأى في ذلك منهجًا إلهيًّا متكاملًا يجدر دراسته بعمق وتحليل دقيق.

لقد كان الدكتور الصّلابي جريئًا في بحثه، دقيقًا في تقصّيه، بارعًا في سبر أغوار الحقائق في مكامنها؛ إذ لم يكتفِ بالنّقل والاستعراض، بل أعمل فكره وقلمه في تحليل المعجزات والابتلاءات، واستخرج منها دلالاتٍ إيمانيَّة وتاريخيَّة عظيمة، تُسهم في فهم سُنن الله في خَلقه، وتساعد في إدراك أسرار النبوّة والرّسالة.

وفي تناوله لسيرة النّبي يونس عليه السَّلام، كان المؤلِّف متنقّلًا بين محطّات مليئة بالمعجزات، إلى محطات أخرى مليئة بالآيات والحِكم، وكأنَّه يتنقّل بين أزهار المعرفة، ليأخذ من كلِّ زهرة عبيرًا فريدًا، ليقدّمه للقارئ بأسلوبٍ ممتع ومؤثّر.

إنَّ هذا الكتاب رحلة فكريَّة وروحيَّة تغوص في عمق القصّة، وتكشف عن معاني الصّبر والتوبة والرّجوع إلى الله؛ فمع أنَّ يونس كان ملتقم في فم الحوت؛ فإنَّه لم يفقد الأمل في رحمة الله؛ ومن هنا يسعى الدكتور الصّلابي من خلال كتابه إلى بعث الأمل في القلوب، وترسيخ الإيمان بقدرة الله على كشف الكربات، وإنارة الظّلمات، وهداية القلوب الباحثة عن الحقِّ.

إنَّه كتابٌ يجمع بين التحليل البيّن، والتأمل الإيماني، والتوثيق العلمي، ليكون مرجعًا مهمًّا لكلِّ من يسعى إلى فهم قصّة يونس عليه السَّلام ليس كحدثٍ تاريخي فحسب، بل كتجربة إنسانيَّة عظيمة تحمل في طيَّاتها دروسًا خالدة لكلِّ من يمرّ بابتلاءات الحياة.

لقد تمكّن الدكتور علي الصّلابي من الوقوف على بعض المغالطات التي أحاطت بسيرة نبي الله يونس عليه السّلام؛ فلم يمرّ عليها مرور الكرام، بل تصدّى لها ببحثٍ عميقٍ وتحليلٍ دقيق، فقام بتصويبها وتصحيحها وفق ميزان العلم والنّقل الصّحيح.

ولذا فلم يكن جهده مقتصرًا على جمع الرّوايات فحسب، بل كان محقّقًا ومدقّقًا، ومتفحّصًا للحجج، ومستشهدًا بالأدلة القاطعة، ومنسِبًا كلّ قول إلى أهله، ومعتمدًا في ذلك على القرآن الكريم والسنّة النبويَّة الكريمة. وقد أضاف إلى ذلك تحليله الخاصّ المبني على فهم دقيقٍ للآيات الكريمة، ليكشف عن السّند الحقيقي والحقائق الرّاسخة التي تبني تصوّرًا تامًّا لسيرة نبي الله يونس عليه السَّلام.

لقد تعامل المؤلِّف مع سيرة نبي الله يونس عليه السّلام كرحلة إيمانيَّة مليئة بالحِكم والعبر؛ فتوقّف عند المحطّات الحاسمة في حياة النّبي، محاولًا استنباط أسرار الابتلاء، وحِكمة الخلاص، وسُنن الله في العقاب والنّجاة، ليخرج القارئ من صفحات الكتاب ليس فقط بمعلومات تاريخيَّة، ولكن بدروس إيمانيَّة تنير له دروب الحياة.

إنَّ هذا الكتاب يمثّل عملًا علميًّا جادًّا، يستند إلى أصول التحقيق والبحث الأكاديمي، لكنَّه في الوقت ذاته يحمل روحًا تربويَّةً ووعظيّةً، تجعل منه كتابًا يصلح لكلِّ باحث عن الحقيقة، ولكلّ متأمّل في سنن الله في الأنبياء والمجتمعات.

إنَّ الكتابة عن الأنبياء ليست مجرّد استعراض تاريخي لسيرهم وأحداث حياتهم، بل هي رحلة في أعماق الحِكمة الإلهيَّة، ومحاولة لفهم الرّسائل الربّانيَّة التي حملوها، واستخلاص العبر التي تنير دروب الأجيال.

يأتي هذا الكتاب في هذا الوقت ليقدّم لنا دراسة متأنّية، قائمة على البحث العلمي الرّصين، والاستقراء العميق للنّصوص القرآنيَّة والحديثيّة، مع الغوص في كتب التَّاريخ والتفسير، في محاولة لتقديم رؤية رفيعة عن نبي الله يونس عليه السَّلام.

الدكتور الصّلابي ليس مجرّد مؤرّخ ينقل الرّوايات، بل هو باحث دقيق، يتقصى المعلومة بالمعلومة، ويحاجج الحُجّة بالحجّة، ويسبر أغوار النّصوص تدبّرًا وتحليلًا، ليصل إلى أقرب صورة ممكنة تمكّن من معرفة الحقيقة؛ فهو لا يكتفي بالسّرد، بل يتّبع منهجًا تحليليًّا ونقديًّا يُميّز كتبه، ويجعلها ذات طابع خاصّ؛ حيث ينطلق من القرآن والسنّة، ليضع القارئ أمام فهم شمولي للأحداث، بعيدًا عن التفسيرات المتناقضة التي قد تكون علقت ببعض الروايات التاريخيَّة.

لقد كُتب الكثير عن نبي الله يونس عليه السّلام، لكن ما يميّز هذا الكتاب هو قدرة مؤلِّفه على الجمع بين الدّقة الموضوعيَّة والوضوح المنهجي، وبين التحليل التَّاريخي والعمق الإيماني؛ بحيث لا يكون الكتاب مجرّد استعراض لحياة يونس عليه السَّلام، بل دراسة معمّقة تكشف عن سُنن الله في الابتلاء والتمكين، وعن دروس الصّبر والتوبة، وعن معنى اليقين والثِّقة بالله حتى في أحلك اللحظات.

يأخذنا الدكتور الصّلابي في رحلة تبدأ من نشأة نبي الله يونس عليه السَّلام، وظروف دعوته، ورفض قومه لها، ثم انتقاله إلى محنته العظيمة حين التقمه الحوت، وما في ذلك من دروس إيمانيّة خالدة، وصولًا إلى نجاته وإكماله لمسيرة الدّعوة. ويعرض لنا هذا كلّه وفق رؤية تجمع بين النّصوص الشرعيَّة، والتحليل التَّاريخي، والاستنتاجات العميقة التي تُثري الفكر، وتُحفّز القارئ على التأمّل في معاني القصّة.

إنَّ هذا الكتاب هو دعوة للتدبّر، وتأمّل أقدار الله في خلقه، ورؤية كيف أنَّ الابتلاءات قد تكون بوابة للنّصر والتمكين، وكيف أنَّ اليأس قد يتحوّل إلى أمل متجدّد إذا ما استمسك الإنسان بحبل الله المتين؛ فالنّبي يونس عليه السَّلام، في لحظته الحالكة في أثناء التقام الحوت إليه، لم يكن نبيًّا منسيًّا أو متروكًا، بل كان في عين العناية الإلهيَّة؛ ليدرك بعد ذلك أنَّ الفرج قد يأتي حين تنقطع كل الأسباب، وأنَّ نور الرّحمة قد ينبثق من قلب الظّلمات.

فهذه من جواهر هذا الكتاب، وهذه هي رسالته العميقة، التي تمكّن الدكتور علي الصّلابي في تقديمها بأسلوبه المتميّز، ومنهجه القائم على تحليل المعلومة بالمعلومة، ونقد الرواية بالرواية، وإثبات الحقيقة بالحجّة والبرهان؛ وهو بذلك يقدّم للقارئ كتابًا لا يُقرأ لمجرد المعرفة، بل للتدبّر والتأمّل، ولإعادة النظر في فهمنا للنبوّة، وللابتلاء، وللرحمة الإلهيّة التي تسري في كلِّ تفاصيل الحياة.

إنَّ القراءة في هذا المؤلّف ليست فقط اطلاعٍ على سردٍ أو عرضٍ للأحداث، بل هي رحلة غنيّة بالتأمّلات والتدبُّرات العميقة، يأخذنا فيها الدكتور علي عبر كلماتٍ مصوغةٍ ببلاغةٍ أخاذة، وجُملٍ محكمةٍ تجذب القارئ المتفحّص لجمال المعنى وروعة المبنى، حتى يجد نفسه وكأنَّه يعايش تلك الأزمنة التي عاشها الأنبياء عليهم الصَّلاة والسَّلام، متنقّلًا بين محطّاتٍ حافلةٍ بالآيات، وكأنَّه يقطف من زهرةٍ إيمانيّةٍ جميلةٍ إلى أخرى أكثر بديعًا وبهاءً.

هذا الكتاب عملٌ تحليليٌّ رصينٌ، يتجاوز ظاهر الأحداث إلى ما وراءها من حِكم وأسرار؛ إذ إنَّ المؤلِّف، بمنهجه القائم على تحليل المعلومة بالمعلومة، واستجلاء الحقائق بالنّصوص المحكمة، وبيان السُنن الإلهيَّة في الخلق والدّعوة والابتلاء، يجعل القارئ يقف على الممكن والمستحيل، والمعجزة والسنّة الكونيَّة، في رؤية تنفذ إلى العمق لتكشف عن القيم الإيمانيَّة والدّروس الواعظة.

ومع أنَّ أسلوب المؤلّف مرنٌ وسلسٌ؛ فإنَّه مشبعٌ بالحكمة والمعرفة، فلا يُثقل القارئ بالمعلومة الجافّة، بل ينساب به عبر صفحات الكتاب كما تنساب المياه العذبة في نهرٍ رقراق. فحينما يتتبّع سير الأحداث، يغوص في تحليلها، ويُسند حُججه إلى آيات القرآن الكريم، محاورًا ومستدلًّا، ومستنيرًا بالسّنة النبويَّة والتَّاريخ الموثّق، مما يجعل القارئ لا يقرأ فحسب، بل يتفاعل ويعيش القصّة وكأنَّها جزءٌ من واقعه.

هذا الكتاب زادٌ فكريٌّ وروحيٌّ، يمنح القارئ الطّمأنينة والسّكينة الربّانيَّة؛ فمن خلال التأمّل في سيرة نبي الله يونس عليه السَّلام، وما مرّ به من دعوة وابتلاء، ويأس ورجاء، وظلمة ونور، يدرك القارئ أنَّ الحياة، بكلِّ تقلّباتها، تجري وفق سُنن إلهيّةٍ محكمةٍ، وأنَّ الفرج قد يولد من رحم الشدّة، وأنَّ الثبات على الحقِّ هو مفتاح النّجاة، حتى في أحلك الظروف.

بهذا المنهج التحليلي وضوحًا، وبهذا الأسلوب اللين مرونة، يضع الدكتور الصّلابي بين أيدينا كتابًا لا يقرأ لمجرد المعرفة، بل للارتقاء بالفكر والإيمان؛ الذي استلهمه من تلك الآيات المنزّلة، وتلك الدروس من قصص الأنبياء عليهم السّلام.

لقد بدأ الأستاذ الدكتور مؤلّفه الزاخر بالمعلومات النّفيسة باسم الله، ثم تعمَّق في متن الكتاب بأسلوبه المتميّز، باحثًا في جوهر القضايا الإيمانيَّة الكبرى، مستجليًا العلاقة الارتباطيَّة بين (لا إله إلَّا الله) و(إيّاك نعبد وإيّاك نستعين). هذه العلاقة التي تكشف تداخل المفاهيم واستقلاليتها في آنٍ واحد؛ حيث يتجلّى في هذا الطّرح الدّقيق عمق التحليل، ودقّة الاستدلال، وحُسن الاستنباط من النّصوص الشرعيَّة.

لم يكتف المؤلِّف بسرد سيرة نبي الله يونس عليه السَّلام، بل يُحلّق بالقارئ في رحاب آياتٍ كريمة، ويلفت الانتباه إلى مضامينها العميقة، ثم ينقله برفق إلى أهميّة العمل بمقتضياتها، والتفاعل مع دلالاتها، وتجسيدها في الواقع؛ فهو لا يقتصر على تقديم المعلومة، بل يسعى إلى تفعيلها في وجدان القارئ، مما يجعل الكتاب رؤية متماسكة لفهم الرّسالة الإلهيَّة ومقاصدها الكبرى.

وعليه: فإنَّ هذا المؤلّف يبرز أهميَّة الاقتداء بسنن الرُّسُل في أثناء الدعوة إلى التوحيد، مؤكّدًا أنَّ الدّعوة تقوم على الحكمة والموعظة الحسنة، وأنَّه (لا إكراه في الدين). فكما واجه نبي الله يونس عليه السَّلام تحدّياتٍ في دعوته، فإنَّ كل داعية إلى الحقّ سيجد أمامه اختباراتٍ للصّبر والثبات والإخلاص لتكون النتيجة من بعدها في مرضاة الله سدادًا وتوفيقًا.

لقد جاء هذا الكتاب يجمع بين التحليل والاستنتاج، وبين التأصيل العلمي والاستشهاد القرآني، مما يجعله تجربةً تُنير الصدور، وتُحفّز العقول، وتُرشد الباحثين إلى ما يأملون؛ فمن خلال تتبّع رحلة نبي الله يونس عليه السَّلام، نكتشف كيف تتجلّى السّنن الإلهيَّة في النصر بعد الابتلاء، وكيف يكون اليقين بالله نورًا يبدد ظلمات الشّك والظنون.

لم يغفل الأستاذ الدكتور الصّلابي في مؤلّفه الزاخر عن إبراز الأهميَّة العظيمة الرّابطة بين (بسم الله) التي افتتح بها كتابه، و(الحمد لله) التي اختتم بها، فجعل من البداية والنهاية مفتاحًا لفهم السُّنن الإلهيَّة ومسار الدّعوة إلى التوحيد. فـ(بسم الله) هي فاتحة السُّبل، وهي التي بها يبدأ كل عمل، توكّلًا واستعانةً وتسليمًا للمشيئة الإلهيَّة، أمَّا (الحمد لله)، فهي بابٌ مفتوحٌ لمن يُدرك أنّ كل شيء يعود إليه تعالى، وأنَّه هو الغاية والمبتدأ، والمنعم المستحق للحمد والشكر في كلّ الأحوال.

هذا الترابط العميق بين البداية والنّهاية ليس مجرّد تفصيل لغوي أو أسلوب بلاغي، بل هو مدلول عقدي عظيم يرسّخه الصّلابي في كتابه، ليبيّن أنَّ رحلة نبي الله يونس عليه السَّلام، كما هي حال كل الأنبياء، كانت رحلة تبدأ بالتوكّل وتنتهي بالتسليم التام لحكمة الله؛ ومن هنا يُبرز المؤلف كيف أنَّ هذه العلاقة بين الاستعانة بالله في البداية، والحمد له في الختام، هي جوهر التوحيد والإيمان الرّاسخ الذي لا تزلزله الابتلاءات ولا تغيّره الظروف والأحوال.

ما أجمل وأعظم صفات يونس عليه السَّلام؛ ذلك النّبي الكريم الذي جسّد في سيرته أروع معاني الصّبر، والتوكّل، والتوبة، والرجوع إلى الله؛ فقد كان مثالًا للعابد الخاشع، والدّاعي إلى الحقّ، والمتضرّع في الشّدائد؛ فعندما وقع في البلاء العظيم، لم يكن له ملجأ إلَّا الله، فأنجاه بإيمانه الصّادق ودعائه الخالد: (لا إله إلَّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين).

وما أروع اهتمام الدكتور الصّلابي بهذه الصّفات؛ حيث لم يكتفِ بسردها، بل تعمّق في تحليلها، واستخراج الدّروس والعبر منها، داعيًا القارئ إلى التأمّل فيها والاقتداء بها؛ فقد قدّم صورة تامّة عن نبي الله يونس عليه السّلام، كأنموذجٍ حيٍّ يُلهم كل من يقرأ عنه؛ فهو لم ييأس من رحمة الله ولم يقنط؛ فظل متعلّقًا بحبل النّجاة الإلهي حتى كشف الله كربه ونجّاه من الظّلمات.

لقد تعامل المؤلّف مع هذه القيم العظيمة برؤية تحليليّة رفيعة؛ حيث أبرز كيف يمكن للإنسان في أيّ زمانٍ ومكان أن يستلهم من قصّة يونس عليه السَّلام أنَّ الصّبر هو مفتاح التحدِّي، والأمل في أحلك اللحظات، والتسليم المطلق لله عند كلّ حال. هذا الكتاب دراسة تفسيريَّة، ورسالة من صفاء نفس، تدعو إلى التأمّل في الصّفات النبيلة، والعمل بها، والاقتداء بأنبياء الله في صبرهم وثباتهم وتوكّلهم، ليكون القارئ أكثر وعيًا بحكمة الله في خلقه، وأكثر قربًا من نوره وهدايته.

ولأن الكمال لله وحده، فإنَّنا - نحن البشر - مهما كتبنا وقرأنا، ومهما حللنا وفسّرنا، ومهما تعمّقنا في اللغة والمفهوم والفقه والمعرفة؛ فإنَّه لا كمال في اجتهاداتنا. فكل جهد بشري يبقى قابلًا للتطوير والمراجعة، ومفتوحًا أمام مزيد من البحث والنّظر؛ إذ تتجدّد القضايا والمسائل في كلِّ عصر، وتظل هناك آفاق لم تُكتشف بعد، وأسرار لم تُفهم تمامًا؛ فالحقيقة المطلقة لا تكون إلَّا في كلام الله سبحانه وتعالى.

وهذا ما وعاه الدكتور علي محمَّد الصّلابي في مؤلّفه؛ حيث لم يدّعِ الإحاطة المطلقة، وإنَّما قدّم دراسة تحليليَّة عميقة، تستند إلى القرآن الكريم والسّنة النبويَّة، لكنَّها في الوقت نفسه تفتح المجال أمام القارئ للتأمّل، والاستزادة، والبحث المستمرّ؛ فكل جيلٍ يأتي، يجد في آيات الله معاني جديدة، ويكتشف فيها نورًا يضيء له دربه، لأنَّها كلام الله الحقّ، الباقي، الصالح لكلِّ زمانٍ ومكان؛ قال تعالى: {وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ، إِلَّا مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَٰلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ} .

وعليه: تظل كلمة (الالتقام) كما فسّرها الدكتور الصّلابي قابلة للمزيد من البحث والتأمّل؛ إذ إنَّ المعاني العميقة في القرآن الكريم لا تنضب، بل تتجدّد مع الأزمان، ويظل باب الاجتهاد مفتوحًا، لأنَّه جزء من سُنن الله في الكون والمعرفة.

فلا أحد يمتلك مفاتيح الفهم والتفسير لوحده، بل إنَّ أقفال العلم تنفتح بمفاتيح متعدّدة، وفي أزمنة مختلفة، وعلى أيدٍ متنوّعة؛ وذلك تبعًا لتطوّر العقول، وتجدّد الأسئلة، واتساع المدارك. وهذا ما يؤكّد عالميّة الإسلام وصلاحيّته لكلِّ زمان ومكان؛ فهو ليس دينًا جامدًا، بل منهجًا حيًّا يتفاعل مع العصور، ويمنح الباحثين مساحة للتدبُّر والاجتهاد في ضوء النّصوص المحكمة.

لقد أبرز الدكتور الصّلابي هذه الحقيقة من خلال تحليله العميق لقصّة النبي يونس عليه السَّلام، فلم يكتفِ بالسّرد التقليدي، بل بحث في الألفاظ، واستنطق النّصوص، واستخلص منها معاني تتجاوز حدود الزّمن، ليبيّن كيف أنَّ القرآن الكريم يحمل في مضامينه ومفاهيمه وحِكمه معاني لا تفنى، وإشارات تحتاج إلى مزيد من التدبّر عبر العصور؛ ومن هنا تنبثق بعض التساؤلات التي تدعو إلى مزيد من البحث والتأمّل:

ـ ألا يدلّ الالتقام بالفمِ على سلامة الملتَقَم؛ بحيث لم يتعرّض للتمزيق بالأنياب أو الطّحن بالضروس؟

ـ أليس هناك فرق شاسع بين المفهومين (ملام) و(مُليم)؟

ـ ألا يكون (الملام) صادرًا من الغير، في حين (المليم) يكون لومًا نابعًا من الإنسان لنفسه؟

ـ ألا يشير مفهوم (مغاضبًا) إلى كونه مغاضبًا من الغير، في حين (غاضب) تدل على غضبه من نفسه؟

ـ ألا يكون التقام الحوت للنّبي يونس قد حدث في أثناء قفزه في الهواء، قبل أن يسقط في الماء، مما يعني أنَّه لم يختلط بمياه البحر أو يغرق؟

ـ ألا تكون نجاة يونس عليه السَّلام قد تحقّقت من خلال الالتقام، بحيث لم يبتلعه الحوت ليُهضم، بل كان في حالة حماية إلهية في فم الحوت الملتقم به؟

ـ ألا تكون مغاضبة قوم يونس له مبررًا لخروجه من بينهم، حتى لا يترك في نفوسهم ضيقًا أو حرجًا، أو حتى لا يقدم على أيِّ فعل قد يحمل طابع الإكراه أو الإلزام في دعوتهم؟

ـ ألا يكون هذا المؤلَّف فاتحة لآفاق جديدة تأتي من بعده، بحيث يصبح أساسًا لدراسات أعمق حول القصص القرآني، واللغويّات، والتفسير التحليلي، وفلسفة المفاهيم المستنبطة للحِكم؟

ـ ألا يسهم في تعزيز منهجيَّة التدبر والتفكير النّقدي، مما يتيح للباحثين إعادة النظر في كثير من المفاهيم بوعي جديد؟

ـ ألا يكون بمثابة دعوة للقرّاء والدّارسين لمواصلة البحث والاستقصاء، وعدم الاكتفاء بالمألوف، بل التعمق في التفاصيل التي قد تحمل معاني غير مكتشفة بعد؟


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022