من كتاب الوسطية في القرآن الكريم:
(الوسطيَّة في اللغة والاصطلاح)
الحلقة: الأولى
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1442 ه/ سبتمبر 2020
1-معنى الوسطيَّة في اللغة
مادة (وسط):
تدل على معانٍ متقاربةٍ كما يقول ابن فارس: (الواو، والسين، والطاء بناء صحيح يدل على: العدل، والنصف، وأعدل الشيء: أوسَطُه، ووسَطَهُ..).
فـ (كلمة: وسط) تضبط على وجهين:
الأول: (وسْط) بسكون السين، فتكون ظرفاً بمعنى (بين) قال في لسان العرب: (وأما الوسْط بسكون السين؛ فهو ظرف لا اسم، جاء على وزن نظيره في المعنى، وهو (بين) نقول: جلست وسْط القوم؛ أي: بينهم..).
ومنه قول سَوَّار بن المُضَرَّب:
إنِّي كأني أرى مَنْ لا حياءَ له ولا أمانةَ وسْط الناسِ عُرياناً
الثاني: (وسَط) بفتح السين.
وتأتي لمعانٍ متعددةٍ متقاربةٍ، فتكون:
1 ـ اسماً لما بين طرفي الشيء وهو منه، فنقول: قبضت وسَط الحبل، وكسرت وسَط القوس، وجلست وسَط الدار.
2 ـ تأتي صفة بمعنى (خيار) وأفضل، وأجود، فأوسط الشيء: أفضله، وخياره كوسط المرعى خير من طرفيه، ومرعى وسط، أي: خيار، ومنه:
إن لها فوارساً وفَرَطاً ونضرة الحي ومرعىً وسَطا
وواسطة القلادة: الجوهر الذي وسطها وهو أجودها، ورجل وسَط، ووَسِيط: حسَن.
3 ـ وتأتي وسط: بمعنى: (عدل) كما تقدم قول ابن فارس: إنه يدل على العدل.. وأن أعدل الشيء أوسطه.
وفي لسان العرب: (ووسط الشيء، وأوسطه: أعدله).
وفي القاموس: (الوسط محركة: من كل شيء أعدله) وكذلك قال الجوهري في الصحاح.
4 ـ وتأتي وسط بمعنى: الشيء بين الجيد والرديء. قال الجوهري: (ويقال أيضاً: شيء وسط؛ أي: بين الجيد والرديء).
وقال صاحب المصباح المنير: (الوسَط بالتحريك: المعتدل، يقال: شيء وَسَط؛ أي: بين الجيد والرديء..).
وكيفما تصرفت هذه اللفظة؛ تجدها لا تخرج في معناها عن معاني العدل، والفضل، والخيرية، والنصف، والبينية، والمتوسط بين الطرفين، فتقول:
(وَسُوطاً) بمعنى: المتوسط المعتدل، ومنه قول الأعرابي: (علمني ديناً وسوطاً لا ذاهباً فُرُوطاً، ولا ساقِطاً سُقُوطاً، فإن الوَسُوط ههنا المتوسط بين العالي، والتالي.
و(وسيطاً) أي: حسيباً شريفاً، قال الجوهري: فلان وسيط في قومه: إذا كان أوسطهم نسباً، وأرفعهم محلاً، قال العَرْجِي:
كأني لم أكُن فيهم وسِيطاً ولم تَكُ نِسْبتي في آلِ عَمْرٍو
و(الوسيط) أي: المتوسط بين المتخاصمين.
و(التوسط) بين الناس من الوساطة .
و(التوسيط) أي: تجعل الشيء في الوسط.
و(التوسيط): قطع الشيء نصفين.
و(وسوط الشمس): توسُّطُها السماء.
و(واسطة القلادة): الجوهر الذي هو في وسطها، وهو أجودها.
وقال فريد عبد القادر: استقر عند العرب: أنهم إذا أطلقوا كلمة: (وسط) أرادوا معاني الخير، والعدل، والجودة، والرفعة، والمكانة العلية.
والعرب تصف فاضل النسب بأنه وسط في قومه، وفلان من واسطة قومه؛ أي: من أعيانهم، وهو من أوسط قومه؛ أي: من خيارهم، وأشرافهم.
ومن خلال ما سبق اتضح لنا المعنى اللغوي لكلمة (وسط) وما تصرف منها، وأنها تؤول إلى معانٍ متقاربة. ولله الحمد!
2- الوسطيَّة في استعمال الشارع
وردت مادة (وسط) في القرآن الكريم في عدَّة مواضع، وذلك بتصاريفها المتعددة، حيث وردت بلفظ: (وسطاً) و(الوسطى) و(أوسط) و(أوسطهم) و(وَسَطْن).
وسنبين معنى كل كلمة على وَفق ورودها في القرآن الكريم مسترشدين بأقوال المفسرين، وببعض أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم في توضيح معاني تصاريف كلمة الوسط.
أولاً: كلمة: وسطاً:
وردت في قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة: 143] وقد ورد تفسير هذه الكلمة في السنة، كما ذكر لها المفسرون عدَّة معان، وتفصيل ذلك كما يلي:
1 ـ ورد تفسير هذه الكلمة عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «يُدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك، وسعديك يا رب! فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم، فيقال لأمته: هل بلغكم؟ فيقولون:ما أتانا من نذير، فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد، وأمته، فيشهدون أنه قد بلغ» ،{وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} فذلك قوله ـ جل ذكره ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} والوسَط: العدل .
وروى الطبريبإسناده عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} قال: عدولاً .
وقد ساق الطبري عدداً من الروايات في هذا المعنى: ثم ذكر تفسير هذه الآية منسوباً إلى بعض الصحابة، والتابعين، كأبي سعيد، ومجاهد، وغيرهما، حيث فسروها بـ (عدولاً).
2 ـ قال الإمام الطبري:
وأما الوسط فإنه من كلام العرب: الخيار، يقال منه: فلان وسط الحسب في قومه، أي متوسط الحسب، إذا أرادوا بذلك الرفعة في حسبه.
وهو وسط في قومه، وواسط، قال زهير بن أبي سُلمى في الوسط:
هم وسطٌ يرضى الأنام بحكمهم إذا نزلت إحدى الليالي بمعظم
قال: وأنا أرى: أن الوسط في هذا الموضوع هو الوسط الذي بمعنى الجزء الذي هو بين الطرفين، مثل: وسط الدار، وأرى: أن الله ـ تعالى ذكره ـ إنما وصفهم بأنهم وسط لتوسطهم في الدين، فلا هم أهل غلوٍّ فيه، كغلوِّ النصارى الذين غلوا بالترهُّب، وقولهم في عيسىما قالوا فيه، ولا هم أهل تقصير فيه، كتقصير اليهود الذين بدَّلوا كتاب الله، وقتلوا أنبياءهم، وكذبوا على ربهم، وكفروا به، ولكنهم أهل توسط، واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك ؛ إذ كان أحب الأمور إلى الله أوسطها.
وأما التأويل فإنه جاء بأنه الوسط العدل ـ كما سبق ـ وذلك معنى الخيار؛ لأن الخيار من الناس عدولهم.
3 ـ قال محمد رشيد رضافي تفسيره: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة: 143] هو تصريح بما فهم من قوله: {وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ}[البقرة: 213].
أي على هذا النحو من الهداية جعلناكم أمة وسطاً.
قالوا: إن الوسط هو العدل والخيار، وذلك لأن الزيادة على المطلوب في الأمر إفراط، والنقص عنه تقصير، وتفريط، وكل من الإفراط والتفريط ميل عن الجادة القويمة، فهو شرٌّ، ومذموم، فالخيار هو الوسط بين طرفي الأمر، أي: المتوسط بينهما.
4 ـ وقال الشيخ عبد الرحمن السعدي ـ رضي الله عنه ـ في تفسير قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا} أي: عدلاً خياراً. وما عدا الوسط فأطراف داخلة تحت الخطر، فجعل الله هذه الأمة وسطاً في كل أمور الدين، وسطاً في الأنبياء بين من غلا فيهم كالنصارى، وبين من جفا منهم كاليهود، بأن امنوا بهم كلِّهم على الوجه اللائق بذلك.
و(وسطاً) في الشريعة: لا تشديدات اليهود، واصارهم، ولا تهاون النصارى. وفي باب الطهارة، والمطاعم: لا كاليهود الذين لا تصحُّ لهم صلاة إلا في بِيَعهم، وكنائسهم، ولا يطهِّرهم الماء من النجاسات، وقد حرمت عليهم طيباتٌ عقوبة لهم.
ولا كالنصارى الذين لا ينجِّسون شيئاً، ولا يحرمون شيئاً؛ بل أباحوا ما دبَّ، ودرج، بل طهارتهم ـ
أي: هذه الأمة ـ أكمل طهارة، وأتمها، وأباح لهم الطيبات من المطاعم، والمشارب، والملابس، والمناكح، وحرم عليهم الخبائث من ذلك.
فلهذه الأمة من الدين أكمله، ومن الأخلاق أجلُّها، ومن الأعمال أفضلها، ووهبهم من العلم، والحلم، والعدل، والإحسان ما لم يهبه لأمة سواهم، فلذلك كانوا {أُمَّةً وَسَطًا} كاملين معتدلين؛ ليكونوا {شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ}، بسبب عدلهم وحكمهم بالقسط، يحكمون على الناس من سائر الأديان، ولا يحكم عليهم غيرهم.
5 ـ ويقول سيد قطب ـ رضي الله عنه ـ في تفسيره لهذه الآية: وإنها للأمة الوسط بكل معاني الوسط، سواء من الوساطة بمعنى الحسن، والفضل، أو من الوسط بمعنى الاعتدال، والقصد، أو الوسط بمعناه المادي، والحسيِّ. أمة وسطاً في التصوُّر، والاعتقاد، أمة وسطاً في التفكير، والشعور، أمة وسطاً في التنظيم، والتنسيق، أمة وسطاً في الارتباطات، والعلاقات، أمة وسطاً في الزمان، أمة وسطاً في المكان.
هذه أهم أقوال المفسرين في تفسير هذه الآية، ومن خلال هذا التفسير تبينت معانٍ لها أهمِّيتها عند الحديث عن منهج القرآن في تقرير الوسطيَّة في مباحث قادمة.
ثانياً: كلمة (الوسطى):
وقد وردت هذه الكلمة في قوله تعالى في سورة البقرة: {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ *}[البقرة: 238 ]
ومن أقوال المفسرين في هذه الآية نجد: أن لها علاقة بمعنى الوسط؛ حيث سنبين سبب تسميتها بذلك، هل لأنها متوسطة بين الصلوات، أو لأنها أفضل الصلوات، أو لكليهما معاً؟ دون الوقوف عند أيِّ الصلوات هي، وما سيرد في هذه المسألة، فهو لإيضاح المعنى فقط.
1 ـ ذكر الإمام الطبري أقوال العلماء في الصلاة الوسطى، وأطال في ذكر أدلة من قال: إن الصلاة الوسطى هي العصر، ثم قال بعد أن رجَّح: أن الصلاة الوسطى هي العصر: وإنما قيل لها: الوسطى؛ لتوسطها الصلوات المكتوبات الخمس، وذلك: أنَّ ما قبلها صلاتين، وبعدها صلاتين، وهي بين ذلك وسطاهن، والوسطى: الفعلى من قول القائل: وسطت القوم، أوسطهم (وسطة) ووسوطاً: إذا دخلت وسطهم، ويقال للذكر فيه: هو أوسطنا، وللأنثى: هي وسطانا
وعندما ذكر الطبري من قال: إن الوسطى هي صلاة المغرب؛ عقَّب على هذا القول، فقال: إن أصحابه وجهوا قوله: (الوسطى) إلى معنى التوسط، الذي يكون صفة للشيء يكون عدلاً بين الأمرين، كالرجل المعتدل القامة، الذي لا يكون مفرطاً طوله، ولا قصيرة قامته، ولذلك قال: ألا ترى: أنها ليست بأقلها، ولا أكثرها. والذين ذهبوا إلى أن الصلاة الوسطى هي المغرب، قالوا: ألا ترى: أنها ليست بأقلها، ولا أكثرها، ولا تقصر في السفر، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤخرها عن وقتها، ولم يعجلها.
2 ـ وجَّه ابن الجوزي أقوال العلماء في المراد بالصلاة الوسطى قائلاً: وفي المراد بالوسطى ثلاثة أقوال:
أحدها: أنها أوسط الصلوات محلاًّ.
والثاني: أوسطها مقداراً.
والثالث: أفضلها.
ووسط الشيء: خيره وأعدله، ومنه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا}[البقرة:143].
فإن قلنا: إنَّ الوسطى بمعنى الفضلى؛ جاز أن يَدَّعي هذا كلُّ ذي مذهب فيها، وإن قلنا: إنها أوسطها مقداراً، فهي المغرب ؛ لأن أقلَّ المفروضات ركعتان، وأكثرها أربع. وإن قلنا: إنها أوسطها محلاً، فللقائلين: إنها العصر ؛ أن يقولوا: قبلها صلاتان في النهار، وبعدها صلاتان في الليل، فهي الوسطى.
ومن قال: هي الفجر، قال عكرمة: هي وسط بين الليل والنهار. ومن قال: هي الظهر، قال: هي وسط النهار. فأما من قال: هي المغرب، فاحتج بأن أول صلاة فرضت الظهر، فصارت المغرب وسطى. ومن قال: هي العشاء، فإنه قال: هي بين صلاتين لا تقصران. ومن خلال ما ذكرنا يتأكد ارتباط كلِّ قول بمعنى الوسط في ضوء المعاني التي سبق بيانها.
3 ـ وقال القاسميفي تفسيره: (الصلاة الوسطى): أي: الوسطى بين الصلوات، بمعنى المتوسطة، أو الفضلى منها، من قولهم للأفضل: الأوسط.
فعلى الأولى يكون الأمر لصلاة متوسطة بين صلاتين، وهل هي: الصبح، أو الظهر، أو العصر، أو المغرب، أو العشاء، أقوال مأثورة عن الصحابة، والتابعين.
وعلى الثاني: فهي صلاة الفطر، أو الأضحى، أو الجماعة، أو صلاة الخوف، أو الجمعة، أو المتوسطة بين الطول والقصر، أقوال أيضاً عن كثير من الأعلام.
ثم قال: سنح لي ـ عرض لي ـ وقوي بعد تمعُّنٍ احتمال قوله تعالى: { وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى}بعد قوله: {حافظوا على الصلوات} لأن يكون إرشاداً ، وأمراً بالمحافظة على أداء الصلاة أداءً متوسطاً، لا طويلاً، ولا مملاً، ولا قصيراً مخلاً؛ أي: والصلاة المتوسطة بين الطول، والقصر، ويؤيده الأحاديث المروية عنه صلى الله عليه وسلم في ذلك قولاً، وفعلاً.
ثم مرَّ بي في القاموس حكاية هذا قولاً، حيث ساق في مادة (وسط) الأقوال في الآية، ومنها قوله: أو المتوسطة بين الطول، والقصر. قال شارحه الزبيدي: وهذا القول رده أبو حيان في البحر المحيط. ثم سنح لي احتمال وجه آخر، وهو أن يكون قوله: {وَالصَّلاَةِ الْوُسْطَى}، أريد بها وصف الصلاة المأمور بالمحافظة عليها بأنها فضلى، أي: ذات فضل عظيم عند الله، فالوسطى بمعنى الفضلى من قوله للأفضل: الأوسط.
4 ـ أما محمد رشيد رضا ـ رضي الله عنه ـ فقال: (والصلاة الوسطى هي إحدى الخمس، والوسطى مؤنث الأوسط، ويستعمل بمعنى التوسط بين شيئين، أو أشياء لها طرفان متساويان، وبمعنى الأفضل، وبكلٍّ من المعنيين قال قائلون ؛ ولذلك اختلفوا في أيِّ الصلوات أفضل، وأيتها المتوسطة).
5 ـ وأما ابن عاشور ـ رضي الله عنه ـ فقال: وأما الذين تعلقوا بالاستدلال بوصف الوسطى؛ فمنهم من حاول جعل الوصف من الوسط بمعنى الخيار، والفضل، فرجع إلى تتبع ما ورد في تفضيل بعض الصلوات على بعض، ومنهم من حاول جعل الوصف من الوسط، وهو الواقع بين جانبين متساويين من العدد، فذهب يتطلَّب الصلاة التي هي بين صلاتين من كل جانب، وبهذا التفسير لمعنى (الوسطى) من أقوال المفسرين المتقدِّم نلاحظ الارتباط بين هذه الكلمة وموضوع الوسطيَّة الذي هو مدار هذا البحث، سواء أكانت بمعنى التوسط بين شيئين، أم بمعنى الخيار الأفضل. وسيأتي مزيد بيان لهذه القضية ـ إن شاء الله ـ بعد عرض جميع الآيات.
ثالثاً: كلمة (أوسط):
وقد وردت هذه الكلمة في ايتين: الأولى في قوله تعالى: {فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] والثانية في سورة القلم في قوله تعالى: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ *}[القلم : 28].
وقد ذكر المفسرون معنى كلِّ كلمة في مواضعها، فمنهم من جعل معناهما واحداً، ومنهم من فرَّق بين مدلوليهما، وإليك تفصيل ذلك:
الأولى: آية سورة المائدة:
1 ـ قال الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} أعدله. قال عطاء ـ رضي الله عنه ـ: أوسطه: أعدله.
وقال بعضهم: معناه: من أوسط ما يطعم من أجناس الطعام الذي يقتاته أهل بلد المكفِّر أهليهم، ومن ذلك قول ابن عمرمن أوسط ما يطعم أهله الخبز، والتمر، والخبز، والسمن، والخبز، والزيت، ومن أفضل ما يطعمهم: الخبز، واللحم.
وقال آخرون: من أوسط ما يطعم المكفِّر أهله، قال: إن كان ممَّن يشبع أهله؛ أشبع المساكين العشرة، وإن كان ممَّن لا يشبعهم لعجزه عن ذلك؛ أطعم المساكين على قدرما يفعل من ذلك في عسره، ويسره. ثم عقب الطبري على ذلك بقوله: (وأولى الأقوال عندنا قول من قال: من أوسط ما تطعمون أهليكم في القلَّة، والكثرة).
2 ـ وقال ابن الجوزي:
في قوله: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}قولان:
أحدهما: من أوسطه في القَدْرِ، قاله عمر، وعليٌّ.
الثاني: من أوسط أجناس الطعام، قاله ابن عمر، وعبيدة والحسن، وابن سيرين رحمهم الله جميعاً.
3 ـ وقال القرطبي ـ رضي الله عنه ـ:
تقدم في سورة البقرة: أن الوسط بمعنى الأعلى، والخيار، وهو هنا منزلةٌ بين المنزلتين، ونصفٌ بين طرفين.
وعن ابن عباس ، قال: كان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه سعة، وكان الرجل يقوت أهله قوتاً فيه
شدة، فنزلت: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} [المائدة: 89] وهذا يدلُّ على الوسط ما ذكرناه، وهوما كان بين شيئين.
4 ـ وقال الزمخشري ـ رضي الله عنه ـ: {مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ} من أقصده؛ لأن منهم من يسرف في إطعام أهله، ومنهم من يَقْتُر.
5 ـ وقال سيد قطب ـ رضي الله عنه ـ في ظلال القرآن : وأوسط تحتمل: من أحسن، أو من متوسط، فكلاهما من معاني اللفظ، وإنْ كان الجمع بينهما لا يخرج عن القصد ؛ لأن المتوسط هو الأحسن، فالوسط هو الأحسن في ميزان الإسلام.
الثانية: آية سورة القلم:
1 ـ قال الطبري ـ رضي الله عنه ـ: وقوله: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [القلم: 28]، يعني: وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. قال ابن عباس: أوسطهم: أعدلهم، وبمثل ذلك قال مجاهد، وسعيد بن المسيب، رحمهم الله تعالى.
وقال قتادة ـ رضي الله عنه ـ: أي: أعدلهم قولاً، وكان أسرع القوم فزعاً، وأحسنهم رجعة.
2 ـ وقال القرطبي: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}، أي أمثلهم ، وأعدلهم، وأعقلهم.
3 ـ وقال ابن كثير: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} قال ابن عباس، ومجاهد، وسعيد بن جبير، وعكرمة، وقتادة: أعدلهم، وخيرهم.
4 ـ وقال ابن الجوزي: {قَالَ أَوْسَطُهُمْ}، أي: أعدلهم وأفضلهم.
5 ـ وقال القاسمي: أي: أعدلهم، وخيرهم رأياً.
مما سبق ذكره من أقوال المفسرين اتَّضح: أن كلمة (أوسط) في آة المائدة فسرت على عدة أوجه، وبعدَّة معاني، منها: الأفضل، وبين القليل والكثير، وبين الجيد والرديء، أو الشدة والسعة، أما آية القلم؛ فاتفق المفسرون على تفسيرها بمعنى الأفضل، والخيار، وهو الأعدل.
رابعاً: كلمة (فوسطن):
وردت في قوله تعالى: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا *}[العاديات: 5]
وقد ذكر المفسرون: أنَّ معناها من التوسط في المكان، وهذه جملة من أقوالهم:
1 ـ قال الطبري ـ رضي الله عنه ـ: يقول تعالى ذكره: فوسطن بركبانهنَّ جمع القوم، يقال: وسطت القوم ـ بالتخفيف ـ ووسطته بالتشديد، وتوسطته بمعنىً واحد.
2 ـ وقال ابن الجوزي ـ رضي الله عنه ـ: (وقال ابن مسعود: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا *} يعني: مزدلفة).
3 ـ وقال القرطبي ـ رضي الله عنه ـ: {جمْعًا}مفعول به {فَوَسَطْنَ}أي: فوسطن بركبانهم ، يقال: وسطت القوم، أوسطهم وسطاً، وسطةً؛ أي: صرت وسطهم، ويقال: وسطت القوم ـ بالتشديد، والتخفيف ـ وتوسطتهم بمعنىً واحد. وقيل: معنى التشديد: جعلها الجمع قسمين، والتخفيف: صرن وسط الجمع.
4 ـ وقال القاسمي ـ رضي الله عنه ـ: أي: {فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا *}، ودخلن في وسط جمع الأعداء ففرقنه، وشتتنه. يقال: وسطت القوم ـ بالتخفيف ـ ووسطته بالتشديد، وتوسطته بمعنىً واحد .
5 ـ قال سيد قطب ـ رضي الله عنه ـ: وهي تتوسط صفوف الأعداء على غِرَّة، فتوقع بينهم الفوضى، والاضطراب.
ومما سبق ذكره اتضح: أنَّ معناها: التوسط، والوسط. ومن المفيد أن أذكر أحاديث نبوية في بيان معنى الوسط ؛ ذلك لأن السنة النبوية شارحة للقران الكريم، ومبينة له، ومن ثَمَّ نبين علاقة ذلك بالوسطيَّة التي هي موضوع بحثنا، وذلك يعطينا فهماً دقيقاً على مدلول مصطلح الوسطيَّة.
1 ـ عن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
«يدعى نوح يوم القيامة، فيقول: لبيك، وسعديك يا رب! فيقول: هل بلغت؟ فيقول: نعم. فقال لأمته: هل بلغكم؟ فيشهدون: ما أتانا من نذير. فيقول: من يشهد لك؟ فيقول: محمد، وأمته، فيشهدون: أنه قد بلغ». {وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا}
فذلك قوله ـ جل ذكره ـ: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا} والوسَط: العدل
والمراد بهذا الحديث واضح، وهو أنَّ الوسط فسر هنا بالعدل، وهو المقابل للظلم، حيث إن أمة محمد صلى الله عليه وسلم شهدوا بما علموا: {وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا} [يوسف: 81] وهو الحق ، فلم تكن شهادتهم لهوىً مع نوح عليه السلام ـ وحاشاهم من ذلك ـ ولم يشهدوا مع قوم نوح بالباطل، وأنَّى لهم ذلك، وهذا هو العدل؛ لأن الظلم له طرفان، والعدل وسط بينهما، فالشهادة مع أحد الخصمين بدون حقٍّ ظلم، والشهادة بالحق دون النظر لصاحبه عدلٌ، فأمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن قال الله فيهم: {وَمِمَنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ *}[الأعراف:181]
2 ـ روى الترمذي ـ رضي الله عنه ـ قال: (لما نزل قوله تعالى: {آلم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ}[الروم:1 ـ 4] خرج أبو بكر الصديق يصيح في نواحي مكة: {آلم *غُلِبَتِ الرُّومُ *فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ *فِي بِضْعِ سِنِينَ } قال ناس من قريش لأبي بكر: فذلك بيننا ، زعم صاحبك: أن الروم ستغلب فارس في بضع سنين، أفلا نراهنك على ذلك؟! قال: بلى! ـ وذلك قبل تحريم الرهان ـ فارتهن أبو بكر ـ رضي الله عنه ـ والمشركون، وتواضعوا الرهان، وقالوا لأبي بكر: كم تجعل البضع ثلاث سنين إلى تسع سنين، فَسَمَّ بيننا وبينك وسطاً تنتهي إليه، قال: فسموا بينهم ستَّ سنين). والست هنا هي الوسط بين ثلاث وتسع، فقبلها، وبعدها ثلاث.
3 ـ عن عبد الله بن معاوية الغاضري ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ثلاث من فعلهن؛ فقد طعِم طعْم الإيمان: من عبد الله وحدَهُ، وعلم: أنه لا إله إلا الله، وأعطى زكاةَ ماله طيبةً بها نفسه، رافدة عليه كل عام، ولم يعط الهرمة، ولا الدرنة، ولا المريضة، ولا الشرط اللئيمة، ولكن من وسط أموالكم، فإن الله لم يسألكم خيره، ولم يأمركم بشرِّه».
والوسط هنا: ما بين أجود الغنم، وبين السيأى والمعيب، وهو مثل قوله تعالى: {أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ}[المائدة: 89].
4 ـ عن جابر بن عبد الله ـ رضي الله عنه ـ قال: (كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فخطَّ خطّاً، وخطَّ خطين عن يمينه، وخطَّ خطين عن يساره، ثم وضع يده على الخط الأوسط، فقال: «هذه سبيل الله» ثم تلا هذه الآية: {وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ}[الأنعام: 153 ].
والوسط هنا: هو الشيء بين الشيئين، متوسط بينهما. ونجد بيان هذا الصراط في الحديث الاتي: عن النواس بن سمعان ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى كنفي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى الصراط داعٍ يدعو يقول: يا أيها الناس اسلكوا الصراط جميعاً، ولا تعرجوا! وداعٍ يدعو على الصراط، فإذا أراد أحدكم فتح شيء من تلك الأبواب؛ قال: ويلك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه؛ تلجه. فالصراط الإسلام، والستور حدود الله، والأبواب المفتَّحة محارم الله، والداعي الذي على رأس الصراط كتاب الله، والداعي من فوقه واعظ الله، يذكر في قلب كل مسلم».
5 ـ وقال صلى الله عليه وسلم : «إن في الجنة مئة درجة، أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله، ما بين الدرجتين كما بين السماء والأرض، فإذا سألتم؛ فاسألوه الفردوس؛ فإنه أوسط الجنة، أو أعلى الجنة».
قال الحافظ ابن حجر رضي الله عنه : أوسط الجنة، أو أعلى الجنة ، والمراد بالأوسط هنا: الأعدل، والأفضل ، كقوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمةً وَسَطَا}.
6 ـ وقال صلى الله عليه وسلم : «البركة تنزل في وسط الطعام، فكلوا من حافتيه، ولا تأكلوا من وسطه».
والوسط هنا: أشبه ما يكون بمركز الدائرة، ومنتصفها؛ أي: هي نقطة الالتقاء بين أطراف متساوية.
7 ـ وعن عبد الله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ: أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم خط خطّاً مربعاً، وخطّاً وسط الخط المربع، وخطوطاً إلى جانب الخط الذي وسط الخط المربع، وخطّاً خارجاً من الخط المربع، فقال: «أتدرون ما هذا؟» قالوا: الله، ورسوله أعلم! قال: «هذا الإنسان الخط الأوسط، وهذه الخطوط إلى جانبه الأعراض تنهشه».
والوسط هنا: هو ما كان بين عدة أطراف، والمسافة بينه وبين كل طرف متساوية.
8 ـ وقال صلى الله عليه وسلم : «وسطوا الإمام، وسدُّوا الخلل» أي: اجعلوه وسط الصف ـ في منتصفه ـ من أمامه، بحيث يكون طرفا الصف متساويين بالنسبة لموقف الإمام.
9 ـ وقال صلى الله عليه وسلم : «لعن الله من جلس وسط الحلقة» وهو الذي يجلس في وسط الحلقة، ولو لم يكن في منتصفها تماماً، وأن من جلس في داخلها بعيداً عن أطرافها فهو في وسطها.
10 ـ وقال صلى الله عليه وسلم : «أنا زعيم ببيت في ربض الجنة لمن ترك المراء؛ وإن كان محقّاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب؛ وإن كان محقّاً، وببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً، وببيت في أعلى الجنة لمن حسن خلقه». والوسط هنا ما كان بين الربض، والأعلى.
11 ـ وقال صلى الله عليه وسلم : «لأن أمشي على جمرة، أو سيف، أو أخصف نعلي برجلي أحبُّ إليَّ من أن أمشي على قبر مسلم، وما أبالي أوسط القبور قضيت حاجتي، أو وسط السوق» والمراد بالوسط هنا: الوسط المكاني.
12 ـ وقال صلى الله عليه وسلم : «ليس للنساء وسط الطريق» ومعنى الوسط كما في الحديث الذي سبقه من الوسط المكاني، وهو ما كان بين الشيئين؛ وهو منه ؛ لأن المشروع في حق المرأة أن تكون بجانب الطريق لا في وسطه، لما يحدث من فتنة بسبب بروزها، وتعرضها للرجال.
هذه بعض الأحاديث التي وردت فيها لفظ (الوسط) ومعناه، ومنها ما يدلُّ على معنى الوسطيَّة، ومنها ما ليس كذلك؛ إذ لا تلازم بين الوسط، والوسطيَّة، فكل وسطية هي وسط، ولا يلزم من كلِّ وسط أن يكون دليلاً على الوسطيَّة، فقد يكون من الوسط المكاني، أو الزماني، ونحوه، كما سيأتي بيانه، إن شاء الله.
يمكنكم تحميل كتاب: الوسطية في القرآن الكريم
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي