(نشأة الدولة الإسلامية)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الثانية
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ غشت 2021
اهتم الرسول صلى الله عليه وسلم منذ نزول الوحي بتربية الأفراد والجماعة المؤَمنة التي تكون في المستقبل نواة الدولة الجديدة وقد خضعت مسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم في تربية الأفراد وبناء الدولة وتبليغ الرسالة لتوجيهات القرآن الكريم وكذلك التعامل مع سنن الله في المجتمعات والشعوب وبناء الدول، فكانت دعوته قد مرت بمراحل ومعالم وسنن وقوانين من أهمها:
1ـ المرحلة السرية:
استمر النبي صلى الله عليه وسلم في دعوته السرية يستقطب عدداً من الأتباع، والأنصار من أقاربه، وأصدقائه وخاصة الذين يتمكن من ضمهم في سرية تامة بعد إقناعهم بالإسلام وهؤلاء كانوا نعم العون والسند للرسول صلى الله عليه وسلم، لتوسيع دائرة الدعوة في نطاق السرية، وهذه المرحلة العصيبة من حياة دعوة الرسول صلى الله عليه وسلم ظهرت فيها الصعوبة والمشقة في تحرك الرسول صلى الله عليه وسلم، ومن آمن معه بالدعوة، فهم لا يخاطبون إلا من يأمنون من شره، ويثقون به، فمن معالم هذه المرحلة الكتمان والسرية حتى عن أقرب الناس، وكانت الأوامر النبوية على وجوب المحافظة على السرية واضحة وصارمة، وكان صلى الله عليه وسلم يكوّن من بعض المسلمين أسراً "خلايا"، وكانت هذه الأسر تختفي اختفاء استعداد وتدريب، لا اختفاء جبن، وهروب، حسب ما تقتضيه الخطة الربانية، فبدأ الرسول صلى الله عليه وسلم ينظم أصحابه من أسر وخلايا صغيرة، فكان الرجل يجمع الرجل والرجلين، إذ أسلما عند الرجل به قوة، وسعة من المال، فيكونان معه ويصيبان منه فضل، ويجعل منهم حلقات، فمن حفظ شيئاً من القرآن، علَّم من لم يحفظ، فيكون من هذه الجماعات أسر أخوة وحلقات تعليم، وكان المنهج الذي سار عليه رسول الله في تربية أتباعه هو القرآن الكريم، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربي أصحابه تربية شاملة في العقائد والعبادات والأخلاق، والحس الأمني وغيرها.
ونجد النواة الأولى للتربية الأمنية كانت في مكة، وتوسعت مع توسع الدعوة ووصولها إلى دولة، ومن الآيات المكية التي أشارت إلى هذا المعنى:
ـ قوله تعالى:﴿يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ﴾ (يوسف، آية : 87).
وجه الاستدلال: أن يعقوب عليه السلام قد طلب من أبنائه أن يتحسسوا، ويبحثوا عن يوسف وأخيه، وفي هذا إقرار من أحد أنبياء الله في جمع المعلومات عن الآخرين، ويعتبر جمع المعلومات من العناصر الأساسية في علم الاستخبارات ويؤكد على مبدأ جمع المعلومات قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَيْأَسُواْ﴾(1)، ولا شك: أن الصحابة كانوا يجمعون المعلومات عمّن يريدون دعوته للإسلام، وكانت القيادة تشرف على ذلك، ولذلك قام النبي صلى الله عليه وسلم بترتيب جهاز أمني رفيع، يشرف على الاتصال المنظم بين القيادة والقواعد، ليضمن تحقيق مبدأ السرية.
2ـ مقر القيادة "دار الأرقم بن أبي الأرقم":
كان النبي صلى الله عليه وسلم يهتم بالتخطيط الدقيق المنظم، ويحسب لكل خطوة حسابها، وكان مدركاً تماماً أنه سيأتي اليوم الذي يؤمر فيه بالدعو علناً وجهراً، وأن هذه المرحلة سيكون لها شدتها وقوتها، فحاجة المسلمين المنظمة تقتضي أن يلتقي الرسول المربي مع أصحابه، فكان لابد من مقر لهذا الاجتماع، فقد أصبح بيت خديجة رضي الله عنها لا يتسع لكثرة الأتباع، فوقع اختيار النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه رضي الله عنهم على دار الأرقم بن أبي الأرقم، إذ أدرك الرسول صلى الله عليه وسلم: أن الأمر يحتاج إلى الدقة المتناهية في السرية، والتنظيم ووجوب التقاء القائد المربي بأتباعه في مكان بعيد عن الأنظار ذلك أن استمرار اللقاءات الدورية المنظمة بين القائد وجنوده هو خير وسيلة للتربية العملية والنظرية، وبناء الشخصية القيادية الدعوية وممّا يدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعد أتباعه ليكونوا بناة دولة وحملة الدعوة وقادة الأمم، حرصه الشديد على هذا التنظيم السري الدقيق، فلو كان مجرد داعية لما احتاج الأمر إلى كل هذا ولو كان يريد مجرد إبلاغ الدعوة للناس، لكان خير مكان في الكعبة حيث منتدى قريش كلها، ولكن الأمر غير ذلك، فلابد من السرية التامة في التنظيم وفي المكان الذي يلتقي فيه مع أصحابه، وفي الطريقة التي يحضرون بها إلى مكان اللقاء.(2)
وتذكر كُتب السيرة أن اتخاذ دار الأرقم مقراً لقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم كان بعد المواجهة الأولى التي برز فيها سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، قال ابن اسحاق: وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلوا ذهبوا في الشعاب، فاستخفوا بصلاتهم من قومهم، فبينما سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في نفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في شعب من شعاب مكة، إذ ظهر عليه نفر من المشركين وهم يصلون فناكروهم وعابوا عليهم ما يصنعون حتى قاتلوهم فضرب سعد بن أبي وقاص يومئذ رجلاً من المشركين بلَحَي بعير فشجه فكان أول دم أريق في الإسلام.(3)
وأصبحت دار الأرقم مركزاً جديداً للدعوة يتجمع فيها المسلمون ويتلقون عن رسول الله كل جديد من الوحي، ويستمعون له صلى الله عليه وسلم وهو يذكرهم بالله، ويتلو عليهم القرآن، ويضعون بين يديه كل ما في نفوسهم وواقعهم فيربيهم صلى الله عليه وسلم على عينه كما تربى هو على عين الله ـ عز وجل ـ وأصبح هذا الجمع هو قرّة عين النبي صلى الله عليه وسلم.(4)
3ـ شخصية النبي صلى الله عليه وسلم وأثرها في صناعة القادة:
لقد استطاع الرسول صلى الله عليه وسلم المربي الأعظم أن يربي في تلك المرحلة السرية وفي دار الأرقم أفذاذ الرجال الذين حملوا راية التوحيد والجهاد والدعوة، فدانت لهم الجزيرة، وقاموا بالفتوحات العظيمة في نصف قرن.
كانت قدرة النبي صلى الله عليه وسلم فائقة في اختيار العناصر الأولى للدعوة في خلال السنوات الثلاثة الأولى من عمر الدعوة وتربيتهم وإعدادهم إعداداً خاصاً ليؤهلهم لتسليم القيادة، وحمل الرسالة، فالرسالات الكبرى، والأهداف الإنسانية العظمى لا يحملها إلا أفذاذ الرجال، وكبار القادة، وعمالقة الدعاة وكانت دار الأرقم مدرسة من أعظم مدارس الدنيا وجامعات العالم، التقى فيها الرسول المربي بالصفوة المختارة من السابقين الأولين، فكان اللقاء الدائم تدريباً عملياً لجنود المدرسة على مفهوم الجندية والسمع والطاعة، والقيادة وآدابها، وأصولها ويشحذ فيه القائد الأعلى جنده وأتباعه بالثقة بالله، والعزيمة والإصرار، ويأخذهم بالتزكية والتهذيب، والتربية والتعليم، كان هذا اللقاء المنظم يشحذ العزائم، ويقوي الهمم، ويدفع إلى البذل والتضحية والإيثار.(5)
4ـ المادة الدراسية في دار الأرقم:
كانت المادة الدراسية التي قام بتدريسها النبي صلى الله عليه وسلم في دار الأرقم، القرآن الكريم، فهو مصدر التلقي الوحيد، فقد حرص الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على توحيد مصدر التلقي، وتفرده وأن يكون القرآن الكريم وحده هو المنهج، والفكرة المركزية التي يتربى عليها الفرد المسلم والأسرة المسلمة، والجماعة المسلمة، وكان روح القدس ينزل بالآيات غضة طرية على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيسمعها الصحابة من فم رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة، فتسكب في قلوبهم وتتسرب في أرواحهم وتجري في عروقهم مجرى الدم وكانت قلوبهم وأرواحهم تتفاعل مع القرآن، وتنفعل فيتحول الواحد منهم إلى إنسان جديد، بقيمه، ومشاعره وأهدافه وسلوكه وتطلعاته، لقد حرص الرسول صلى الله عليه وسلم حرصاً شديداً على أن يكون القرآن الكريم وحده هو المادة الدراسية، والمنهج الذي تتربى عليه نفوس أصحابه، وألا يختلط تعليمهم بشيء من غير القرآن.(6)
5ـ انتشار الدعوة في بطون قريش:
كان انتشار الإسلام في المرحلة السرية، في سائر فروع قريش بصورة متوازنة، دون أن يكون ثقل كبير لأي قبيلة، وهذه الظاهرة مخالفة لطبيعة الحياة القبلية آنذاك، وهي إذا أفقدت الإسلام الاستفادة الكاملة من التكوين القبلي، والعصبية لحماية الدعوة الجديدة ونشرها، فإنها في الوقت نفسه لم تؤلب عليه العشائر الأخرى، بحجة: أن الدعوة تحقق مصالح العشيرة التي انتمت إليها، وتعلي من قدرها على حساب العشائر الأخرى، ولعل هذا الانفتاح المتوازن على الجمع أعان على انتشار الإسلام في العشائر القرشية العديدة دون تحفظات متصلة بالعصبية، فأبو بكر الصديق من "تيم" وعثمان بن عفان من "بني أمية" والزبير بن العوام من "بني أسد" ومصعب بن عمير من "بني عبد الدار وعلي بن أبي طالب من "بني هاشم" وعبد الرحمن بن عوف من "بني زهرة" وسعيد بن زيد من "بني عدي" وعثمان ابن مظعون من "بني جُمح"، بل إن عدداً من المسلمين من هذه المرحلة لم يكونوا من قريش.(7)
لقد شق النبي صلى الله عليه وسلم طريقه بكل تخطيط ودقة وأخذ بالأسباب مع التوكل على الله تعالى، فاهتم بالتربية العميقة، والتكوين الدقيق، والتعليم الواسع، والاحتياط الأمني، والانسياب الطبيعي في المجتمع، والإعداد الشامل للمرحلة التي بعد السرية لأنه ـ عليه الصلاة والسلام ـ يعلم أن الدعوة إلى الله لم تنزل لتكون دعوة سرية، يخاطب بها الفرد بعد الفرد، بل نزلت لإقامة الحجة على العالمين، وإنقاذ من شاء الله إنقاذه من الناس، من ظلمات الشرك والجاهلية إلى نور الإسلام والتوحيد، ولذلك كشف الله تعالى عن حقيقة هذه الدعوة وميدانها منذ خطوتها الأولى، حيث إن القرآن الكريم المكي بين شمول الدعوة وعالميتها.
ـ قال تعالى: ﴿إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ (ص، آية : 87).
ـ وقال تعالى: ﴿وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ﴾ (القلم، آية : 52).
مراجع الحلقة الثانية:
(1) السيرة النبوية للصلابي (1/ 105).
(2) دولة الرسول من التكوين إلى التمكين، كامل سلامة، ص: 218.
(3) سيرة ابن هشام (1/ 281 ـ 282).
(4) التربية القيادية، منير الغضبان (1/ 198).
(5) دولة الرسول صلى الله عليه وسلم من التكوين إلى التمكين، ص: 220.
(6) السيرة النبوية للصلابي (1/ 113)
(7) السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 133).
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: