(سنة تغيير النفوس في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الرابعة
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ أغسطس 2021
من السنن المهمة على طريق النهوض السنة التي يقررها قول الله تعالى: ﴿لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ﴾ (الرعد ، آية : 11).
إن التغيير الذي قاده النبي صلى الله عليه وسلم بمنهج الله تعالى بدأ بالنفس البشرية، وصنع منها العظماء، ثم انطلق بهم ليحدث أعظم تغيير في شكل المجتمع حيث نقل الناس من الظلمات إلى النور، ومن الجهل إلى العلم، ومن التخلف إلى التقدم، وأنشأ بهم أروع حضارة عرفتها الحياة، لقد قام النبي صلى الله عليه وسلم ـ بمنهجه القرآني ـ بتغيير في العقائد والأفكار والتصور، وعالم المشاعر والأخلاق في نفوس أصحابه، فتغير ما حوله وفي دنيا الناس، فتغيرت المدينة ثم مكة ثم الجزيرة ثم بلاد فارس والروم في حركة عالمية تسبح وتذكر خالقها بالغدو والآصال.
كان اهتمام المنهج القرآني في العهد المكي بجانب العقيدة، فكان يعرضها بشتى الأساليب، فغمرت قلوبهم معاني الإيمان وحدث لهم تحول عظيم، قال تبارك وتعالى موضحاً ذلك الارتقاء العظيم: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام ، آية : 122).
حقاً أنه تصوير رائع عجيب تقف الأقلام حائرة في وصفه، وكذلك الأسلوب الإسلامي في كل حين تنهل منه الألباب وتصدر عنه الأساليب، وتعجز عن إيفائه حقه في التعبير، من الموت إلى الحياة، ومن الظلمات إلى النور، هل يستويان مثلاً؟ مسافة هائلة ونقلة عظيمة لا يعرف عظمتها ويدرك مقدارها إلا من تغرس في حالهم في ضوء هذا البيان القرآني المعجز.(1)
لقد جاء القرآن الكريم لترسيخ العقيدة الصحيحة، وتثبيتها في قلوب المؤمنين وإيضاحها للناس أجمعين، وذلك ببيان توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، وتوحيد الأسماء والصفات، والإيمان بكل ما أخبر الله به من الملائكة، والكتاب والنبيين، والقدر خيره وشره واليوم الآخر وإثبات الرسالة للرسل ـ عليهم لسلام ـ والإيمان بكل ما أخبروا به.(2)
فقد عرّف القرآن المكي الناس من هو الإله الذي يجب أن يعبدوه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يربيهم على تلك الآيات العظيمة، فقد حرص صلى الله عليه وسلم منذ اليوم الأول على أن يعطي الناس التصور الصحيح عن ربهم، وعن حقه عليهم مدركاً: أن هذا التصور سيورث التصديق واليقين عند من صفت نفوسهم واستقامت فطرتهم.(3)
ـ وكان الصحابة يخافون الله تعالى ويخشونه ويرجونه، وكان لتربية الرسول صلى الله عليه وسلم أثر في نفوسهم عظيم، وكان المنهج القرآني الذي سار عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يفعل الأفاعيل في نفوس الصحابة، لأن القرآن الكريم وصف أهوال يوم القيامة، ومعالمها من قبض الأرض ودكها وطي السماء، ونسف الجبال، وتفجير البحار، وتسجيرها ومور السماء وانفطارها وتكوير الشمس، وخسوف القمر، وتناثر النجوم، وصوَّر القرآن الكريم حال الكفار وذلتهم وهوانهم وحسرتهم، ويأسهم وإحباط أعمالهم، وتخاصم العابدين والمعبودين، وتخاصم الأتباع وقادة الضلالة، وتخاصم الضعفاء والسادة، وتخاصم الكافر وقرينه الشيطان، ومخاصمة الكافر أعضاءه، وتخاصم الروح والجسد، وتحدَّث القرآن الكريم عن الشفاعة وبيَّن شروطها، والمقبول منها والمرفوض، والمراد بالحساب والجزاء، وعن مشهد الحساب، وهل يسأل الكفار ولماذا يسألون، وتحدث القرآن الكريم عن الاقتصاص في المظالم بين الخلق، وكيف يكون الاقتصاص في يوم القيامة، وبيّن المولى عز وجل في القرآن الكريم عظم شأن الدماء، وبيّن: أن هناك يوم القيامة توضع الموازين التي توزن بها الأعمال، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم عن الحوض ومن الذين يردون عليه، والذين يُذادون عنه، وتحدث القرآن الكريم عن حشر الكفار إلى النار، ومرور المؤمنين والمنافقين على الصراط، وخلاص المؤمنين وحدهم.(4)
لقد ربى النبي صلى الله عليه وسلم صحابته على المنهج الكريم، منهج تزكية الأرواح وتنوير العقول، والمحافظة على الأجساد وتقويتها، لإعداد الشخصية الربانية المتوازنة.
ولقد نجحت تربيته صلى الله عليه وسلم في تحقيق أهدافها المرسومة وإعداد أفراد الأمة رجالاً ونساءً لتبليغ رسالات الله بين الناس من خلال دولة العدالة والمساواة والحرية والقانون، وحقوق الإنسان، والكرامة التي تم تأسيسها على أسس متينة وقيم راسخة، وعقيدة صحيحة، وأخلاق حميدة بالمدينة.
ولقد اهتم المنهج الرباني الذي سار عليه رسول الله بالأخلاق الرفيعة، فالعقيدة الصحيحة لا تكون بغير خلق، وقد ربى رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابته على مكارم الأخلاق، بأساليب متنوعة، وكان صلى الله عليه وسلم يتلو عليهم ما ينزل من قرآن فإذا سمعوه وتدبروه عملوا بتوجيهاته، والمتدبر للقرآن الكريم يجده مليئاً بالحث على مكارم الأخلاق وعلى تنقية الروح وتصفيتها من كل ما يعوق سيرها إلى الله تعالى، ورسول الهدى صلى الله عليه وسلم القدوة الكاملة والمربي الناصح للأمة كان على خلق عظيم.(5)
ــ قال تعالى: ﴿وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ﴾ (القلم ، آية : 4)، ومعنى الآية واضح، أي: ما كان يأمر به من أمر الله وينهي عنه من نهي الله، والمعنى: إنك على الخلق الذي آثرك الله به في القرآن.(6)
وعن عائشة رضي الله عنها عندما سئلت عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم، قالت: "إن خلق النبي صلى الله عليه وسلم كان القرآن".
وقد جمع الله لنبينا مكارم الأخلاق في قوله تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأعراف ، آية : 199).
قال مجاهد في معنى الآية: يعني: خذ العفو من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تخصيص، مثل قبول الأعذار والعفو والمساهلة، وترك الاستقصاء في البحث والتفتيش عن حقائق مواطنهم.
لقد سار النبي صلى الله عليه وسلم على المنهج القرآني في تربية أصحابه على الأخلاق الكريمة، وكانت الأخلاق تعرض مع العبادة، والعقائد في وقت واحد، لأن العلاقة بين الأخلاق والعقيدة واضحة في كتاب الله تعالى، وقد بين سبحانه وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم وللمسلمين الأخلاقيات الإيمانية التي ينبغي أن يكون عليها المؤمنون بـ"لا إله إلا الله"، والأخلاقيات الجاهلية التي ينبغي أن ينبذها المؤمنون، والحقيقة: أن التنديد بأخلاقيات الجاهلية قد بدأ منذ اللحظة الأولى مع التنديد بفساد تصوراتهم الاعتقادية، واستمر معه حتى النهاية.
إن الأخلاق ليست شيئاً ثانوياً في الإسلام، وليست محصورة في إطار معين من نطق السلوك البشري، إنما هي ركيزة من ركائزه، كما أنها شاملة للسلوك البشري كله، كما أن المظاهر السلوكية كلها ذات الصبغة الخلقية الواضحة هي الترجمة العملية للاعتقاد، والإيمان الصحيح لأن الإيمان ليس مشاعر مكنونة في داخل الضمير، فحسب إنما هو عمل سلوكي ظاهر كذلك، بحيث يحق لنا حين لا نرى ذلك السلوك النظري أو حين نرى عكسه أن نتساءل أين الإيمان إذن؟ وما قيمته إذا لم يتحول إلى سلوك.(7)
ولذلك نجد القرآن الكريم يربط الأخلاق بالعقيدة ربطاً قوياً، والأمثلة على ذلك كثيرة، منها:
ــ قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاء ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُوْلَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ * الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ (المؤمنون ، آية : 1 ـ 11)، فالسورة تبدأ بتقرير الفلاح للمؤمنين بهذا التوكيد ﴿قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ثم تصف هؤلاء المؤمنون بذلك الوصف المطول المفصل، الذي يعني بإبراز الجانب الخلقي لأولئك المؤمنين، موحياً إيحاءً واضحاً أن هذه الأخلاقيات ـ من جهة ـ هي ثمرة الإيمان، وأن الإيمان ـ من جهة أخرى ـ هو سلوك ملموس يترجم عن العقيدة المكنونة إنهم بادىء ذي بدء خاشعون في صلاتهم، فذلك أوّل مظهر للمؤمن الصادق: أن تكون صلاته ـ وهي اللحظة التي يقف فيها متعبداً لربه ذاكراً له في قلبه، متصلاً به بروحه ـ صلاة خاشعة بما ينبئ عن صدق الصلة بالله، التي يرتفع نبضها وحرارتها في أثناء الصلاة، ثم تثني السورة بصفة سلوكية أخرى ذات دلالة، هي: أنهم عن اللغو معرضون، فاللغو لا ينبىء عن نفس جادة، والإيمان الصحيح يورث النفس الجد بما يشعرها من ثقل التكاليف، وحديتها والجد ليس تقطيباً دائماً ولا عبوساً، ولكن اللغو ـ من جانب آخر ـ لا يستقيم مع جدية الشعور بعظم الأمانة التي يحملها الإنسان أمام خالقه، ثم إن هؤلاء المؤمنين لابد أن تكون في قلوبهم الحساسية لحق الله في أموالهم وهو الزكاة، ولابد أن يكونوا ملتزمين بأوامر الله في علاقات الجنس، فلا يتعدون حدود الله، وملتزمين بأوامره في علاقتهم الاجتماعية، فيحفظون الأمانة، ويرعون العهد، وبهذا نفهم فهم الصحابة للأخلاق فهي ثمرة طبيعية للعقيدة الصحيحة، وكذلك العبادة الحية الخاشعة لله، هكذا تعلموا من القرآن الكريم ومن هدي حبيبهم الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم.
لقد أولى المنهاج النبوي الكريم ـ المستمد من كتاب رب العالمين ـ الأخلاق أهمية كبيرة، وحث على التمسك بفضائلها بمختلف الأساليب، وحذر من ارتكاب مرذولها بشتى الطرق ونظرة القرآن إلى الأخلاق منبثقة من نظرته إلى الكون والحياة والإنسان، فإذا كانت العقائد تشكل أركان الصرح الإسلامي، فإن التشريعات تكون تقسيمات حجراته وممراته ومداخله، والأخلاق تضفي البهاء والرونق والجمال على الصرح المكتمل، وتصبغه الصبغة الربانية المتميزة، وإذا كانت العقيدة الإسلامية تشكل جذور الدوحة الإسلامية وجذعها، فإن الشريعة تمثل أغصانها وتشعباتها، والأخرى تكون ثمارها اليانعة، وظلالها الوارفة، ومنظرها البهيج النضير.(8)
مراجع الحلقة الرابعة
([1]) الانحرافات العقدية والعلمية، علي الزهراني (1 / 25، 26).
(2) أهمية الجهاد في نشر الدعوة لعلي العلياني، ص: 125.
(3) السيرة النبوية للصلابي (1/ 125).
(4) السيرة النبوية (1/ 136).
(5) أهمية الجهاد في نشر الدعوة، ص: 64، 65.
(6) تهذيب مدارج السالكين، عبد المنعم العربي (2 / 653).
(7) دراسات قرآنية لمحمد قطب، ص: 130.
(8) المنهاج القرآني في التشريع، عبد الستار فتح الله سعيد، ص: 245.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: