(فقه التدرج في دعوة النبي صلى الله عليه وسلم)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الثالثة
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ غشت 2021
إن بناء الدول، وتربية الأمم، والنهوض بها يخضع لقوانين وسنن، ونواميس تتحكم في مسيرة الأفراد والشعوب والأمم والدول، وعند التأمل في سيرة الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم نراه قد تعامل مع السنن، والقوانين بحكمة وقدرة فائقة.
إن السنن الربانية هي أحكام الله تعالى الثابتة في الكون على الإنسان في كل زمان ومكان، وهي كثيرة جداً، والمتدبر لآيات القرآن الكريم يجدها حافلة بالحديث عن سنن الله تعالى، التي لا تتبدل ولا تتغير، ويجد عناية ملحوظة بإبراز تلك السنن، وتوجيه النظر إليها، واستخراج العبرة منها، والعمل بمقتضياتها لتكوين المجتمع المسلم المستقيم على أمر الله.
والقرآن الكريم حينما يوجه أنظار المسلمين إلى سنن الله تعالى في الأرض، فهو بذلك يردهم إلى الأصول التي تجري وفقها، فهم ليسوا بدعاً في الحياة، فالنواميس التي تحكم الكون والشعوب والأمم والدول والأفراد جارية لا تتخلف والأمور لا تمضي جزافاً، والحياة لا تجري في الأرض عبثاً، وإنما تتبع هذه النواميس، فإذا درس المسلمون هذه السنن وأدركوا مغازيها تكشفت لهم الحكمة من وراء الأحداث، وتبينت لهم الأهداف من وراء الوقائع واطمأنوا إلى ثبات النظام التي تتبعه الأحداث، أو إلى وجود الحكمة الكامنة وراء هذا النظام واستشرفوا خط السير على ضوء ما كان في ماضي الطريق، ولم يعتمدوا على مجرد كونهم مسلمين، لينالوا النصر والتمكين بدون الأخذ بالأسباب المؤدية إليه.(1)
إن سنة التدرج هي من سنن الله تعالى في خلقه وكونه، وهي من السنن المهمة التي يجب على الأمة أن تراعيها، وهي تعمل للنهوض والتمكين لدين الله عز وجل ومنطلق هذه السنن: أن الطريق طويل لاسيما في هذا العصر الذي سيطرت فيه الجاهلية وأخذت أهبتها واستعدادها، كما أن الشر والفساد قد تجذر في الشعوب واستئصاله يحتاج إلى تدرج، وبدأت الدعوة الإسلامية الأولى مندرجة تسير بالناس سيراً دقيقاً، حيث بدأت بمرحلة الاصطفاء والتأسيس ثم مرحلة المواجهة والمقاومة، ثم مرحلة النصر والتمكين، وما كان يمكن أن تبدأ هذه جميعها في وقت واحد، وإلا كانت المشقة والعجز، وما كان يمكن كذلك أن نقدم واحداً منها على الأخرى، وإلا كان الخلل والإرباك.(2)
فالتغيير المنشود لا يكون بين عشية وضحاها، والواقع لا يتبدل في طرفة عين، دون النظر في العواقب، ودون فهم للظروف والملابسات المحيطة بهذا الواقع، ودون إعداد جيد للمقومات أو للأساليب والوسائل.(3)
وقد وجه الله تعالى أنظارنا إلى هذه السنة في أكثر من موقع، فالله تعالى خلق السماوات والأرض في ستة أيام، يعلمها سبحانه وتعالى ويعلم مقدراها، وكان جل شأنه قادراً على خلقها في أقل من لمح البصر، وكذلك لأطوار خلق الإنسان والحيوان والنبات، كلها تتدرج في مراحل حتى تبلغ نموها وكمالها ونضجها، وفق سنة الله تعالى الحكيمة.
وسنة التدرج مقررة في التشريع الإسلامي بصورة واضحة ملموسة، وهذا من تيسير الإسلام على البشر، حيث أنه راعى معهم سنة التدرج فيما شرعه لهم إيجاباً وتحريماً، فتجده حين فرض الفرائض كالصلاة والصيام والزكاة فرضها على مراحل ودرجات حتى انتهت إلى الصورة الأخيرة التي استقرت عليها.(4)
إننا إذا درسنا القرآن الكريم، والسنة المطهرة، دراسة عميقة علمنا كيف وبأي تدرج وانسجام تم التغيير الإسلامي في بلاد العرب، ومنها إلى العالم كله على يد النبي صلى الله عليه وسلم، ولقد كانت الأمور تسير رويداً رويداً على حسب مجراها الطبيعي، حتى تستقر في مستقرها الذي أراده الله رب العالمين.(5)
وهذه السنة الربانية في رعاية التدرج ينبغي أن تتبع في سياسة الناس، وعندما يراد تطبيق الإسلام في الحياة واستئناف حياة إسلامية متكاملة، يكون التمكين ثمرتها، فإذا أردنا أن نقيم مجتمعاً إسلامياً حقيقياً فلا نتوهم: أن ذلك يمكن أن يتحقق بقرار يصدر من رئيس أو ملك أو مجلس قيادي أو برلماني، وإنما يتحقق ذلك بطريقة التدرج، أي بالإعداد والتهيئة الفكرية والنفسية والاجتماعية، وذلك هو المنهج الذي سلطه النبي صلى الله عليه وسلم لتغيير الحياة الجاهلية إلى الحياة الإسلامية، فقد ظل ثلاثة عشر عاماً في مكة، كانت مهمته الأساسية فيها تنحصر في تربية الجيل المؤمن، الذي يستطيع أن يحمل عبء الدعوة، وتكاليف الجهاد، لحمايتها ونشرها في الآفاق، ولهذا لم تكن المرحلة المكية مرحلة تشريع بقدرما كانت مرحلة تربية وتكوين.(6)
مراجع الحلقة الثالثة
([1]) سيد قطب، في ظلال القرآن (1 / 478).
(2) محمد السيد يوسف، التمكين للأمة الإسلامية ص: 227.
(3) السيرة النبوية للصلابي (1 / 121).
(4) محمد السيد يوسف، التمكين للأمة الإسلامية، ص: 227.
(5) المصدر نفسه، ص: 229.
(6) يوسف القرضاوي، الخصائص العامة بالإسلام، ص: 168.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: