(بيعة العقبة الثانية.. دروس وعبر)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: التاسعة
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ أغسطس 2021
كان اللقاء الذي غيَّر مجرى التاريخ، في موسم الحج في السنة الثالثة عشرة من البعثة، حيث حضر لأداء مناسك الحج بضع وسبعون نفساً من المسلمين، من أهل يثرب، فلما قدموا مكة، جرت بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم اتصالات سرية، أدت إلى اتفاق الفريقين على أن يجتمعوا في أوسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة، حيث الجمرة الأولى من منى، وأن يتم هذا الاجتماع في سرية تامة في ظلام الليل.(1)
قال جابر بن عبد الله رضي الله عنهما: ... فقلنا: حتى متى يترك رسول الله صلى الله عليه وسلم، يُطرد في جبال مكة، ويخاف، فرحل إليه منا سبعون رجلاً حتى قدموا عليه في الموسم، فواعدناه شعب العقبة، فاجتمعنا عليه من رجل، ورجلين حتى توافينا فقلنا: يا رسول الله، على ما نبايعُك؟ قال: «تبايعوني على السَّمع والطاعةِ في النشاط والكسل، وعلى النفقة في العسر واليسر، وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعلى أن تقولوا في الله لا يأخذكم في الله لومةُ لائم، وعلى أن تنصروني إذا قدمتُ عليكم، وتمنعوني ما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبنائكم، ولكُمُ الجنة».(2)
قال: فقمنا إليه فبايعناه، وأخذ بيده أسعد بن زرارة ـ وهو من أصغرهم ـ فقال: رويداً يا أهل يثرب، فإنا لم نضرب أكباد الإبل إلا ونحن نعلم: أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن إخراجه اليوم مفارقة العرب كافة وقتل خياركم، وأن تعضكم السيوف، فإما أنتم قوم تصرون على ذلك، وأجركم على الله، وإما أنتم تخافون من أنفسكم جُبينة، فبينوا ذلك، فهو أعذر لكم عند الله، قالوا: أمط عنا يا أسعد، فوالله لا ندع هذه البيعة أبداً، ولا نسليها "أي: نتركها" قال: فقمنا إليه فبايعناه، فأخذ علينا وشرط ويعطينا على ذلك الجنة.(3)
وهكذا بايع الأنصار رسول الله صلى الله عليه وسلم على الطاعة والنصرة والحرب، لذلك سماها عبادة بن الصامت بيعة الحرب(4)، أما رواية الصحابي كعب بن مالك الأنصاري ـ وهو أحد المبايعين في العقبة الثانيةـ ففيها تفصيلات مهمة، قال: خرجنا في حجاج قومنا من المشركين وقد صلينا وفقهنا، ثم خرجنا إلى الحج، وواعدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة، من أوسط أيام التشريق، وكنا نكتم من بايعنا من المشركين أمرنا، فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا، حتى إذا مضى ثلث الليل، خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله صلى الله عليه وسلم، نتسلل تسلل القطا "الحمام" مستخفين، حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة ونحن ثلاثة وسبعون رجلاً، ومعنا امرأتان من نسائنا: نسيبة بنت كعب، وأسماء بنت عمرو، فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاءنا ومعه العباس ابن عبد المطلب، وهو يومئذ على دين قومه، إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه، ويتوثق له، فلما جلس، كان أول متكلم العباس بن عبد المطلب، فبين أن الرسول صلى الله عليه وسلم في منعه من قومه بني هاشم ولكنه يريد الهجرة إلى المدينة، ولذلك فإن العباس يريد التأكد من حماية الأنصار له، وإلا فليدعوه، فطلب الأنصار أن يتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فيأخذ لنفسه، ولربه ما يجب من الشروط.
قال: «أبايعكم على أن تمنعوني مما تمنعون منه نساءكم وأبنائكم»، فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم والذي بعثك بالحق، لنمنعنّا مما نمنع (5)منه أُزُرنا، فبايعنا يا رسول الله فنحن والله أهل الحرب وأهل الحَلقة " السلاح" ورثناها كابراً عن كابر، فقاطعه أبو الهيثم بن التيهان متسائلاً: يا رسول الله، إن بيننا وبين القوم حبالاً، وإنا قاطعوها "يعني: اليهود" فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك، ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك، وتدعنا؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال: «بل الدم الدم، والهدم الهدم، أنا منكم، وأنتم مني، أحارب من حاربتم وأسالم من سالمتم».
ثم قال: «أخرجوا إليّ منكم اثني عشر نقيباً، ليكونوا على قومهم بما فيهم»، فأخرجوا منهم اثني عشر نقيباً تسعة من الخزرج، وثلاثة من الأوس.
وقد طلب الرسول صلى الله عليه وسلم منهم الانصراف إلى رحالهم وقد سمعوا الشيطان يصرخ منذراً قريشاً، فقال العباس بن عبادة بن نفلة: والله الذي بعثك بالحق، إن شئت لنميلنّ على أهل منى غداً بأسيافنا.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لم نُؤمر بذلك، ولكن أرجعوا إلى رحالكم»، وفي الصباح جاءهم جمع من كبار قريش، يسألونهم عمّا بلغهم من بيعتهم للنبي صلى الله عليه وسلم، ودعوتهم له للهجرة فحلف المشركون من الخزرج والأوس، بأنهم لم يفعلوا والمسلمون ينظرون إلى بعضهم.
قال: ثم قام القوم وفيهم الحارث بن هشام بن المغيرة المخزومي وعليه نعلان جديدان، قال: فقلت له كلمة ـ كأني أريد أن أشرك بها القوم فيما قالوا: يا أبا جابر أما تستطيع أن تتخذ، وأنت سيد من سادتنا، مثل نعلي هذا الفتى من قريش؟ قال: فسمعها الحارث فخلعهما من رجليه، ثم رمى بها إليّ، وقال: والله لتنعلنّهما، قال: يقول أبو جابر: مه أحفظت " أي: أغضبت" والله الفتى، فأردد إليه نعليه، قال: قلت: لا والله لا أردهما، فأل والله صالح لئن صدق الفأل لأسلبنه(6).
ـ كانت هذه البيعة العظمى بملابساتها وبواعثها وآثارها وواقعها التاريخي، فتح الفتوح، لأنها كانت الحلقة الأولى في سلسلة الفتوحات الإسلامية التي تتابعت حلقتها في صور متدرجة، مشدودة بهذه البيعة، منذ اكتمل عقدها، بما أخذ فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم من عهود ومواثيق على أقوى طليعة من طلائع أنصار الله الذين كانوا أعرف الناس بقدر مواثيقهم وعهودهم، وكانوا أسمح الناس بالوفاء بما عاهدوا الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، من التضحية مهما بلغت متطلباتها من الأرواح والدماء والأموال، فهذه البيعة في بواعثها هي بيعة الإيمان بالحق ونصرته، وهي ملابساتها قوة تناضل قوى هائلة تقف متألية عليها ولم يغيب عن أنصار الله قدرها ووزنها، في ميادين الحروب والقتال، وهي آثارها تشميرٌ ناهض بكل ما يملك أصحابها من وسائل الجهاد القتالي في سبيل إعلاء كلمة الله، على كل عالٍ مستكبر في الأرض، حتى يكون الدين كله لله، وهي في واقعها التاريخي صدق، وعدل ونصر واستشهاد وتبليغ لرسالة الإسلام(7).
ـ ويظهر التخطيط العظيم في بيعة العقبة، حيث تمت في ظروف غاية في الصعوبة وكانت تمثل تحدّياً خطيراً وجريئاً لقوى الشرك في ذلك الوقت، ولذلك كان التخطيط النبوي لنجاحها في غاية الإحكام والدقة على النحو التالي:
ـ سرية الحركة والانتقـال لجماعة المتابعين، حتـى لا ينكشف الأمـر، فقـد كان وفد المبايعة المسلم سبعين رجلاً وامرأتين من بين وفد يثربي قوامه نحو خمسمائة مما جعل حركة هؤلاء السبعين صعبة، وانتقالهم أمراً غير ميسور، وقد تحدد موعد اللقاء في ثاني أيام التشريق، بعد ثلث الليل، حيث النوم قد ضرب أعين القوم، وحيث قد هدأت الرّجل كما تم تحديد المكان في شعب الإيمان، بعيداً عن عين من قد يستيقظ من النوم لحاجة(8).
ـ الخروج المنظم لجماعة المبايعين إلى موعد ومكان الاجتماع، فقد خرجوا يتسللون مستخفين، ورجلاً رجلاً، أو رجلين رجلين.
ـ ضرب السرية التامة على موعد، ومكان الاجتماع، بحيث لم يعلم به سوى العباس بن عبد المطلب، الذي جاء مع النبي صلى الله عليه وسلم ليتوثق له(9)، وعلي بن أبي طالب الذي كان عيناً للمسلمين على فم الشعب وأبو بكر الذي كان على فم الطريق ـ وهو الآخر ـ عيناً للمسلمين(10)، أما من عداهم من المسلمين وغيرهم، فلم يكونوا يعلمون عن الأمر شيئاً، وقد أمر جماعة المبايعين ألا يرفعوا الصوت، وألا يطيلوا في الكلام، حذراً من وجود عين تسمع صوتهم، أو تجس حركتهم(11).
ـ متابعة الإخفاء والسرية حيث كشف الشيطان أمر البيعة، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يرجعوا إلى رحالهم، ولا يحدثوا شيئاً رافضاً الاستعجال في المواجهة المسلحة التي لم تتهيأ لها الظروف بعد؛ وعندما جاءت قريش تستبرئ الخبر، مَرَّ المسلمون عليهم بالسكوت، أو المشاركة بالكلام الذي يشغل عن الموضوع(12).
ـ اختيار الليلة الأخيرة في ليالي الحج، وهي الليلة الثالثة عشرة من ذي الحجة حيث سينفر الحجاج إلى بلادهم ظهر اليوم التالي، وهو يوم الثالث عشر، ومن ثم تضيق الفرصة أمام قريش في اعتراضهم أو تعويقهم، إذا انكشف أمر البيعة، وهو أمر متوقع، وهذا ما حدث(13).
ـ وكانت البنود الخمسة للبيعة من الوضوح والقوة بحيت لا تقبل التمييع والتراخي، إنه السمع والطاعة في النشاط والكسل، والنفقة في اليسر والعسر، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والقيام في الله لا تأخذهم فيه لومة لائم، ونصر لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحمايته إذا قدم المدينة(14).
ـ يؤخذ من اختيار النقباء دروس مهمة، منها:
ـ أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يعين النقباء، وإنما ترك طريق اختيارهم إلى الذين بايعوا، فإنهم سيكونون عليهم مسؤولين وكفلاء، والأولى أن يختار الإنسان من يكفله، ويقوم بأمره، وهذا أمر شورى، وأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أن يمارسوا الشورى عملياً من خلال اختيار نقبائهم.
ـ التمثيل النسبي في الاختيار فمن المعلوم أن الذين حضروا البيعة من الخزرج أكثر من الذين حضروا البيعة من الأوس ثلاثة أضعاف من الأوس بل يزيدون ولذلك كان النقباء ثلاثة من الأوس وتسعة من الخزرج.
ـ جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم النقباء مشرفين على سير الدعوة في يثرب، حيث استقام عود الإسلام هناك، وكثر مثقفوه ومعتنقوه، فأراد الرسول صلى الله عليه وسلم أنهم لم يعودوا غرباء لكي يبعث إليهم أحداً من غيرهم وأنهم غدوا أهل الإسلام، وحماته وأنصاره(15).
لقد صدق هؤلاء الأنصار عهدهم مع الله، ورسوله صلى الله عليه وسلم، فمنهم من قضى نحبه، ولقي ربه شهيداً، ومنهم من بقي حتى ساهم في قيادة الدولة المسلمة، وشارك في أحداثها الجسام، بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبمثل هذه النماذج قامت دولة الإسلام، النماذج التي تعطي ولا تأخذ، والتي تقدم كل شيء، ولا تطلب شيئاً إلا الجنة، ويتصاغر التاريخ في جميع عصوره ودهوره، أن يحوي في صفحاته أمثال هؤلاء الرجال والنساء(16).
مراجع الحلقة التاسعة
([1]) التحالف السياسي لمنير محمد الغضبان، ص: 71.
(2) صحيح ابن حبان، الحديث رقم: 7012.
(3) السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 199).
(4) مستند الإمام أحمد (5/ 316) بإسناد صحيح لغيره.
(5) السيرة النبوية للصلابي (1/ 342).
(6) مسند أحمد (3/ 460 ـ 462).
(7) محمد رسول الله، لمحمد صادق عرجون (2/ 400).
(8) الهجرة النبوية المباركة، عبد الرحمن البر، ص: 61.
(9) المصدر نفسه، ص: 62.
(10) التربية القيادية لمنير الغضبان (2/ 109).
(1[1]) الهجرة النبوية المباركة، ص: 62.
(2[1]) المصدر نفسه، ص: 62.
(3[1]) الهجرة النبوية المباركة، ص: 67.
(4[1]) التحالف السياسي، ص: 82.
(5[1]) دراسات في السيرة النبوية، د.عماد الدين خليل، ص: 132.
(6[1]) السيرة النبوية للصلابي (1/ 348)،
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: