(بيعة العقبة الأولى حدث تأسيسي في تاريخ الإسلام)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الثامنة
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ أغسطس 2021
من الحقائق التي لا يقع عليها أي ـ خلاف ـ ن هذا الاجتماع
أن هذا المجتمع السياسي أو (الدولة) قد بدأ حياته الفعلية وأخذ يؤدي وظائفه، ويحول المبادئ النظرية إلى أعمال، بعد أن استكمل حريته وسيادته، وضم إليه عناصر جديدة ووجد له موطناً، على إثر "بيعة العقبة الأولى والثانية" بين رسول الله صلى الله عليه وسلم ووفود المدينة، والواقع أن هاتين البيعتين كانتا نقطة التحول في حياة الإسلام، ولم تكن الهجرة إلا إحدى النتائج التي ترتبت عليهما والنظرة الصحيحة إليهما أن ينظر إليهما على أنهما حجر الزاوية في بناء الدولة الإسلامية ومن ثم تتضح أهميتهما، وما أشبههما بالعقود الاجتماعية التي بدأ لبعض فلاسفة السياسة في العصور الحديثة أن يفترضوا حدوثها معتبرين أنها الأساس الذي قامت عليه الدول والحكومات، ولكن "العقد الاجتماعي" الذي تحدث عنه "روسو" وأمثاله كان مجرد نظرية، أما العقد الذي حدث هنا مرتين عند العقبة، وقامت على أساسه الدولة الإسلامية، فهو عقد تاريخي: هو حقيقة يعرفها الجميع تمَّ فيه الاتفاق بين إرادات إنسانية حرة وأفكار واعية ناضجة، من أجل تحقيق رسالة سامية.
فقد ولدت الدولة الإسلامية إذن في وضح النهار، وتم تكونها في ضوء التاريخ، وإذ بدأت عملها لم تكن هناك أية وظيفة من الوظائف التي يمكن أن يقال عنها إنها سياسية: من إعداد الأداة لتنفيذ العدالة، أو تنظيم للدفاع أو بث للتعلم، أو جباية للمال، أو عقد معاهدات أو إنفاذ سفارات إلا كانت هذه الدولة تؤديها، ومن المجال أن ينكرها أحد، إلا إذا كان يباح له أن يجحد أية حقيقة أو حقائق تاريخية وقعت في أي عصر من العصور، وأجمع عليها الناس قاطبة، ومن هذه الحقائق التي ذكرنا يتألف البرهان التاريخي الذي رأينا على الطبيعة السياسية للنظام الإسلامي.(1)
كانت بيعة العقبة الأولى بعد عام من المقابلة الأولى، التي تمت بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأهل يثرب عند العقبة، وافى الموسم من الأنصار اثنا عشر رجلاً، فلقوه صلى الله عليه وسلم بالعقبة، وبايعوه العقبة الأولى، عشرة من الخزرج، واثنان من الأوس، مما يشير إلى أن نشاط وفد الخزرج الذين أسلموا في العام الماضي، تركز على وسطهم القبلي بالدرجة الأولى، لكنهم تمكنوا في الوقت نفسه من اجتذاب رجال الأوس وكان بداية ائتلاف القبيلتين تحت راية الإسلام.(2)
وقد تحدث عبادة بن الصامت الخزرجي عن البيعة، في العقبة الأولى، فقال: كنت فيمن كان حضر العقبة، وكنا اثني عشر رجلاً، فبايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على بيعة النساء، وذلك قبل أن تفرض علينا الحرب، على ألا نشرك بالله، ولا نسرق، ولا نزني، لانقتل أولادنا، ولا نأتي ببهتان نفتريه من بين أيدينا، وأرجلنا، ولا نعصيه في معروف، فإن وفيتم فلكم الجنة، وإن غشيتم من ذلك شيئاً، فأمركم إلى الله ـ عز وجل - إن شاء غفر، وإن شاء عذب.(3)
وبنود هذه البيعة، هي التي بايع الرسول صلى الله عليه وسلم عليها النساء فيما بعد، ولذلك عرفت باسم بيعة النساء(4)، وقد بعث الرسول صلى الله عليه وسلم مع المبايعين مصعب بن عمير يعلمهم الدين، ويقرئهم القرآن، فكان يسمى بالمدينة "المقرئ" وكان يؤمهم في الصلاة، وقد اختاره رسول الله صلى الله عليه وسلم عن علم بشخصيته من جهة، وعلم بالوضع القائم في المدينة من جهة أخرى، حيث كان بجانب إلمامه لما نزل من القرآن يملك من اللياقة والهدوء، وحسن الخلق، والحكمة قدراً كبيراً فضلاً عن قوة إيمانية، وشدة حماسه للدين، ولذلك تمكن خلال أشهر أن ينشر الإسلام في معظم بيوتات المدينة، وأن يكسب للإسلام أنصاراً من كبار زعمائها، كسعد بن معاذ، وأسيد بن حضير، وقد أسلم بإسلامهما خلق كثير من قومهم(5)، واستطاع السفير مصعب رضي الله عنه أن يهيىء البيئة الصالحة، لانتقال الدعوة والدولة إلى مقرها الجديد، حيث استطاع ترجمة روح بيعة العقبة الأولى عملياً وسلوكياً والتي تعني الالتزام التام بنظام الإسلام.(6)
وبذل الرسول صلى الله عليه وسلم كل ما يملك من جهد لتعبئة الطاقات الإسلامية في المدينة، ولم يكن هناك أدنى تقصير للجهد البشري الممكن في بناء القاعدة الصلبة، التي تقوم على أكتافها الدولة الجديدة، واحتل هذا الجهد سنتين من الدعوة والتنظيم.
ـ ونجحت التعبئة الإيمانية في نفوس من أسلم من الأنصار، وشعرت الأنصار بأنه قد آن الأوان لقيام الدولة الجديدة وكما يقول جابر رضي الله عنه، وهو يمثل هذه الصورة الرفيعة الرائعة، حتى متى نترك، رسول الله صلى الله عليه وسلم يُطرد في جبال مكة ويخاف.
ـ وصل مصعب رضي الله عنه إلى مكة قبيل موسم الحج، من العام الثالث عشر للبعثة، ونقل الصورة الكاملة التي انتهت إليها أوضاع المسلمين هناك، والقدرات والإمكانات المتاحة، أو كيف تغلغل الإسلام في جميع قطاعات الأوس والخزرج، وأن القوم جاهزون لبيعة جديدة، قادرة على حماية رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنعته.(7)
مراجع الحلقة الثامنة
([1]) النظريات السياسية الإسلامية، د. محمد ضياء الدين الرئيسي، ص: 31.
(2) السيرة النبوية الصحيحة للعمري (1/ 197).
(3) أخرجه البخاري، الحديث رقم:18، 92، وأخرجه مسلم، الحديث رقم: 1709.
(4) الغرباء الأولون لسلمان العودة ، ص: 185.
(5) المصدر نفسه، ص: 186، 187.
(6) النظرية السياسية الإسلامية لمحمد ضياء الدين الرئيسي ، ص: 339.
(7) التحالف السياسي لمنير محمد الغضبان، ص: 71.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: