الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

تعامل النبي صلى الله عليه وسلم مع سنة الأخذ بالأسباب

من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: السابعة
بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي
محرم 1443 ه/ أغسطس 2021


إن من أهم السنن في بناء الدول وفي حركة الحياة سنة الأخذ بالأسباب ولقد تعامل معها رسول الله صلى الله عليه وسلم في تربية المجتمع وبناء الدولة، كما أن الإيمان بالقدر لا يعارض الأخذ بالأسباب المشروعة، بل الأسباب مقدرة أيضاً كالمسببات فمن زعم أن الله تعالى قدر النتائج والمسببات من غير مقدماتها وأسبابها، فقد ذهل عن حقيقة القدر، فالأسباب مقدرة كالمسببات، وحياة الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه كانت قائمة على الأخذ بالأسباب وسيرته تشهد بأنه كان يتخذ كل الوسائل والتدابير وأسباب العمل.(1)
إن من سنن الله في كونه وشرعه تحتم علينا الأخذ بالأسباب كما فعل ذلك أقوى الناس إيماناً بالله وقضائه وقدره وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، لقد قاوم الفقر بالعمل، وقاوم الجهل بالعلم، وقاوم المرض بالعلاج، وقاوم الكفر والمعاصي بالجهاد، وكان يستعيذ بالله من الهم والحزن، والعجز والكسل، وتعاطي أسباب الأكل والشرب، وادخر لأهله قوت سنه، ولم ينظر أن ينزل عليه الرزق من السماء، وقال للذي سأله، أيعقل ناقته أم يتركها ويتوكل؟ قال: «أعقلها وتوكل»(2)، وقال: «فر من المجذوم فرارك من الأسد»(3)، وما غزواته المظفرة صلى الله عليه وسلم إلا مظهر من مظاهر إرادته العليا التي تجري حسب مشيئة الله وقدره، فقد أخذ الحذر وأعد الجيوش، وبعث الطلائع والعيون، وظاهر بين درعين، ولبس المغفر على رأسه، وأقعد الرماة على فم الشعب، وخندق حول المدينة وأذن في الهجرة إلى الحبشة وإلى المدينة، وهاجر بنفسه واتخذ أسباب الحيطة في هجرته، أعد الرواحل التي يمتطيها والدليل الذي يصحبه وغير ذلك الطريق واختبأ في الغار(4). وكان إذا سافر في جهاد أو عمرة حمل الزاد والمزاد وهو سيد المتوكلين وحركة النبي صلى الله عليه وسلم ترجمان وتفسير عملي للقرآن الكريم الحافل بالآيات التي توجب على المسلمين الأخذ بالأسباب في شتى مناحي الحياة والعمل على استقصاء تلك الأسباب للوصول إلى المراد، خاصة في تلك المواقف الصعبة التي تواجه الأمم والأفراد ومن النماذج القرآنية في هذا الصدد.(5)
ــ قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾ (الأنفال ، آية : 60).
إن الله سبحانه وتعالى أمرنا بالإعداد الشامل في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ﴾ (الأنفال ، آية : 60).
وإعداد القوة في حقيقته الأخذ بالأسباب الشاملة، كقوة العقيدة والإيمان وقوة الصف والتلاحم وقوة السلاح والساعد، إن الآية الكريمة تضع أذهان المسلمين على الإعداد الكامل المعنوي والمادي، والعلمي والفقهي على مستوى الأفراد والجماعات ويدخل في طياتها، الإعداد التربوي والسلوكي، والإعداد المالي، والإعداد الإعلامي والسياسي والأمني والعسكري.(6)
إن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بسنن الله تعالى منذ البعثة حتى وفاته، ولم يفرِّط في أي منها، فتعامل مع سنة الله في تغيير النفوس، وسنة الله في التدافع مع الباطل، وسنة التدرج في بناء الجماعة، ثم الدولة، وسنة الابتلاء، واستفرغ صلى الله عليه وسلم جهده في الأخذ بالأسباب التي توصل للتمكين فكانت هجرتا الحبشة وذهابه للطائف وعرضه للدعوة على القبائل، ثم هجرته إلى المدينة، فأقام الدولة وحافظ عليها وسار أصحابه من بعده على نهجه، وتعاملوا مع السنن بوعي وبصيرة، وصنعوا حضارة لم يعرف التاريخ البشري مثلها حتى يومنا هذا.
إن حركة النبي صلى الله عليه وسلم في تربية الأمة، وإقامة الدولة نور يهتدي، وسنة يقتدي بها في البحور المتلاطمة، والمناهج المتغايرة، والظلام البهيم، وإنها ليسيرة على من يسَّرها الله عليه.

مراجع الحلقة السايعة
([1]) الإيمان بالكتب السماوية والرسل والقدر (2/ 599).
(2) رواه ابن حيان بإسناد صحيح عن عمرو بن أمية.
(3) البخاري، ك الطب، باب: 19 (5/ 5380).
(4) عقيدة التوحيد سعاد ميبر، ص: 212.
(5) الإيمان بالكتب السماوية والرسل والقدر (2 / 600).
(6) فقه النصر والتمكين في القرآن الكريم لعلي محمد الصلابي، ص: 214.

يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022