(سياسة النبي صلى الله عليه وسلم في كسب الأعداء)
من كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها:
الحلقة: الثامنة والأربعون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
من فقه الرسول صلى الله عليه وسلم في بناء الدولة القدرة في التعامل مع النفوس وكسب الأعداء فمثلاً:
أ ـ أبو سفيان بن حرب زعيم قريش:
جاء أبو سفيان الذي خرج يلتقط الأخبار عندما سمع بقدوم رسول الله لفتح مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم بصحبة عمه العباس رضي الله عنه فلم ينشغل النبي صلى الله عليه وسلم في محاسبة أبي سفيان ولم يسرف في مقاضاته وهو كالأسير داخل معسكر المسلمين، بل توجه ليحدثه عن هدفٍ سامٍ عاش النبي صلى الله عليه وسلم لأجله هو الدعوة إلى الله، فوجه كلامه لأبي سفيان: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أنه لا إله إلا الله»، قال: بأبي أنت وأمي، ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، والله لقد ظننت أن لو كان مع الله إله غيره لقد أغنى عني بعد، قال: «ويحك يا أبا سفيان، ألم يأن لك أن تعلم أني رسول الله؟» قال: بأبي أنت وأمي ما أحلمك وأكرمك وأوصلك، أما هذه والله في النفس منها حتى الآن شيئاً، فقال له العباس: ويحك أسلم قبل أن تضرب عنقك، قال: فشهد شهادة الحق فأسلم، قال العباس: قلت يا رسول الله إن أبا سفيان رجل يحب الفخر فاجعل له شيئاً، قال: «نعم من دخل دار أبي سفيان فهو آمن، ومن أغلق بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن»(1).
لقد كان لتلك الطريقة المحمدية أثرها في أبي سفيان الذي تغير إلى الولاء الكامل للدعوة الجديدة وكانت له مواقف كبيرة في الجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في معركة حنين، كما كان هذا الأسلوب النبوي الكريم عاملاً في امتصاص الحقد من قلب أبي سفيان زعيم قريش، وبرهن له بأن المكانة التي كانت عند قومه لن تنتقص شيئاً في الإسلام، إن هو أخلص له وبذل في سبيله(2)، وجعل صلى الله عليه وسلم لدار أبي سفيان مكانة خاصة كي يكون أبو سفيان ساعده في إقناع المكيين بالسلم والهدوء، ويستخدمه كمفتاح أمان يفتتح أمامه الطريق إلى مكة دون إراقة دماء، ويشيع في نفسه عاطفة الفخر التي يحبها أبو سفيان حتى يتمكن الإيمان في قلبه(3)، لقد دخل أبو سفيان إلى مكة مسرعاً، ونادى بأعلى صوته: يا معشر قريش هذا محمد جاءكم فيما لا قبل لكم به، فمن دخل دار أبي سفيان فهو آمن، قالوا: قاتلك الله وما تغني عنا دارك؟ قال: ومن أغلق عليه بابه فهو آمن، ومن دخل المسجد فهو آمن، وتفرق الناس إلى دورهم وإلى المسجد(4).
ولقد دخلت قوات المسلمين مكة دون مقاومة تذكر إلا ما كان من جهة خالد بن الوليد الذي قابل عكرمة بن أبي جهل في نفر خافوا الانتقام فهزمهم خالد فهربوا خارج مكة، ثم عاد عكرمة ليأخذ أماناً وعفواً من رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسلم ويشارك في الجهاد في فتوحات الشام ويقتل في اليرموك شهيداً.
ب ـ يوم بر ووفاء مع عثمان بن طلحة:
كان مفتاح الكعبة مع عثمان بن طلحة قبل أن يسلم فأراد علي رضي الله عنه أن يكون المفتاح له مع السقاية، لكن النبي صلى الله عليه وسلم دفعه إلى عثمان بعد أن خرج من الكعبة، ورده إليه قائلاً: «اليوم يوم بر ووفاء»(5)، وكان صلى الله عليه وسلم قد طلب من عثمان بن طلحة المفتاح قبل أن يهاجر إلى المدينة، فأغلظ له القول ونال منه، فحلم عنه، وقال: «يا عثمان، لعلك ترى المفتاح يوماً بيدي، أضعه حيث شئت»، فقال: لقد هلكت قريش يومئذٍ وذُلَّت، فقال: «بل عَمَرت وعُزّت يومئذٍ»، ووقعت كلمته من عثمان بن طلحة موقعاً، وظن أن الأمر سيصير إلى ما قال(6)، ولقد أعطى له رسول الله صلى الله عليه وسلم مفاتيح الكعبة قائلاً له: «هاك مفتاحك يا عثمان، اليوم يوم بر ووفاء(7)، خذوها خالدة تالدة، لا ينزعها منكم إلا ظالم»(. وهكذا لم يشأ النبي صلى الله عليه وسلم أن يستبد بمفتاح الكعبة، بل ولم يشأ أن يضعه في أحد من بني هاشم، لما في ذلك من الإثارة أولاً ولما به من مظاهر السيطرة وبسط النفوذ، هذا هو مفهوم الفتح الأعظم في شرعة رسول الله صلى الله عليه وسلم البر والوفاء، حتى للذين غدروا ومكروا وتطاولوا.
ومهما تعاظمت الاختلافات بين أبناء الوطن الواحد، ومهما توالت الإساءات والمظالم، فالعفو والصفح والتغافر هو الأفضل للمتخاصمين، وللوطن وللأجيال القادمة وهذا بالطبع ما سطره لنا التاريخ في فتح مكة.
إن الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم شرف لنا قبل أن يكون حلاً ناجحاً لمشاكلنا واختلافاتنا(9).
ج ـ إعلان العفو العام:
نال أهل مكة عفواً عاماً برغم أنواع الأذى التي ألحقوها بالرسول صلى الله عليه وسلم ودعوته، ورغم قدرة الجيش الإسلامي على إبادتهم، وقد جاء إعلان العفو عنهم، وهم مجتمعون قرب الكعبة ينتظرون حكم الرسول صلى الله عليه وسلم فيهم، فقال: «ما تظنون أني فاعل بكم»، فقالوا: خيراً، أخ كريم وابن أخ كريم، فقال: «﴿لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ (يوسف، آية : 92)(1: اذهبوا فأنتم الطلقاء».
وقد ترتب على هذا العفو العام حفظ الأنفس من القتال أو السبي، وأيضاً الأموال المنقولة، والأراضي بيد أصحابها، وعدم فرض الخراج عليها(11).
إلى جانب ذلك الصفح الجميل، كان هناك الحزم الأصيل الذي لابد أن تتصف به القيادة الحكيمة الرشيدة، ولذلك استثنى قرار العفو الشامل بضعة عشر رجلاً أمر بقتلهم ـ وإن وجدوا معلقين بأستار الكعبة ـ لأنه عظمت جرائمهم في حق الله ورسوله وحق الإسلام، ولما كان يخشاه منهم من إثارة الفتنة بين الناس(12) بعد الفتح، ومن هؤلاء من قتل، ومنهم من جاء مسلماً تائباً فعفا عنه الرسول صلى الله عليه وسلم وحسن إسلامه(13).
وكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم قدرة رفيعة في التعامل مع الخصوم فدخلت هند في الإسلام، وسهيل بن عمرو، وعكرمة بن أبي جهل، وصفوان بن أمية، وفضالة بن عمير وغيرهم كثير.
د ـ شاعر قريش عبد الله بن الزبعرى:
لما فتحت مكة فرّ عبد الله بن الزبعرى السهمي إلى نجران، فلحقته قوافي حسّان، فقد كان خصماً عنيداً للإسلام، فراح يعيره بالجبن والفرار فقال له:
لا تعد من رجلاً أحلك بغضُهُ
نجران في عيش أحذّ لئيم(14)
أي: فليبق الله لنا محمداً صلى الله عليه وسلم هذا الرجل العظيم الذي أحلك بغضه ديار نجران، وليُدم الله عليك ابن الزبعرى عيشاً مهيناً أشأم ثم راح حسان يستنزل غضب الله ومقته على ابن الزبعري ونجله، ويسأله الله أن يخلده في سوء العذاب وأليمه(15)، فتطايرت تلك الأبيات ووصلت إلى ابن الزبعرى وقام ولم يقعد وقلب أموره، ثم أراد الله به الخير، فعزم على الدخول في الإسلام، ثم توجه إلى مكة، وقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلن إسلامه، وطلب من رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يستغفر له كل عداوة له وللإسلام، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الإسلام يجب ما قبله»(16)، ثم أدناه رسول الله صلى الله عليه وسلم منه وآنسه، ثم خلع عليه حلة، وقد أجمع الرواة أن ابن الزبعرى رضي الله عنه قال بعد إسلامه شعراً كبيراً حسناً يعتذر فيه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم(17).
قال ابن كثير: كان من أكبر أعداء الإسلام ومن الشعراء الذين استعملوا قواهم في هجاء المسلمين، ثم منّ الله عليه بالتوبة والإنابة والرجوع إلى الإسلام والقيام بنصره والذّب عنه(18).
ومن القصائد الرائعة التي قالها في مدح النبي صلى الله عليه وسلم وندمه على محاربة الإسلام، وتأخره في الدخول فيه:
منع الرُّقاد بلابل وهموم
والليل معتلج(19) الرّواق(2 بهيم(21)
ممّ أتاني أن أحمد لامني
فيه فبت كأنني محموم
يا خير من حملت على أوصالها
عيرانه(22) سرح اليدين غشوم(23)
إني لمعتذر إليك من الذي
أسديت إذ أنا في الضلال أهيم
أيام تأمرني بأغوى خطة
سهم وتأمرني بها مخزوم
وأمد أسباب الرّدى ويقودني
أمر الغواة وأمرهم مشؤوم
فاليوم آمن بالنبي محمد
قلبي مخطئُ هذه محروم
مضت العداوة وانقضت أسبابها
ودعت أواصر بيننا وحلوم
فاغفر فدى لك والديّ كلاهما
زللي فإنك راحم مرحوم
وعليك من عِلْم المليك علامة
نور أغر وخاتم مختوم
أعطاك بعد محبة برهانه
شرفاً وبرهان الإله عظيم
ولقد شهدت بأن دينك صادق
حق وإنك في العباد جسيم
والله يشهد أن أحمد مصطفى
مستقبل في الصالحين كريم
قَرْمٌ علا بُنيانُهُ من هاشم
فرْعٌ تمكن في الذُّرا وأُرُوم(24)
وأسلم فيما بعد كعب بن زهير ونستطيع القول بأن الشعراء المعارضين للدعوة الإسلامية قد انتهى دورهم، فقد أسلم ضرار بن الخطاب، وعبد الله بن الزبعرى، وأبو سفيان بن الحارث بن هشام، والعباس بن مرداس، وتحولوا إلى الصف الإسلامي، واستظلوا بلوائه عن قناعة وإيمان، ولم يكتف بعضهم بأن تكون كلمته في الدفاع عن الإسلام بل كان سيفه إلى جانب كلمته(25).
مراجع الحلقة الثامنة والأربعون
([1]) السيرة النبوية للصلابي (2/ 399).
(2) العدالة والمصالحة الوطنية للصلابي، ص: 82.
(3) دراسات في السيرة، د. عماد الدين خليل، ص: 245.
(4) البداية والنهاية لأبن كثير (4/ 29.
(5) السيرة النبوية لابن هشام (2/ 413
(6) السيرة النبوية للصلابي (2/ 407).
(7) السيرة النبوية لابن هشام (4/ 82).
( السيرة النبوية للصلابي (2/ 407).
(9) العدالة والمصالحة الوطنية للصلابي، ص: 87.
(0[1]) البيهقي في السنن الكبرى (9/ 118).
(1[1]) السيرة النبوية للصلابي (2/ 408).
(2[1]) السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 451).
(3[1]) السيرة النبوية لأبي شهبة (2/ 451).
(4[1]) السيرة النبوية للصلابي (2/ 424).
(5[1]) المصدر نفسه (2/ 424).
(6[1]) المغازي (2/ 848).
(7[1]) السيرة النبوية (2/ 424).
(8[1]) البداية والنهاية (4/ 308).
(9[1]) معتلج: ملتطم.
(2 الرّواق: مقدم الليل.
(21) بهيم: لا ضوء فيه إلى الصباح.
(22) عيرانه: راحلة.
(23) غشوم: شجاع لا يثنيه أمر عن عزمه.
(24) البداية والنهاية (4/ 307 ـ 308)، أروم: أصل.
(25) من معين السيرة، ص: 431، 432، 433.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الحديثة المسلمة دعائمها ووظائفها
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/Book157.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: