الخميس

1446-11-03

|

2025-5-1

(وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُم)

الحلقة: الثامنة و الأربعون

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

رمضان 1441 ه/ أبريل 2020

إنَّ القرآن الكريم تحدث عن محاولة اليهود قتل عيسى عليه السلام في ثلاث مواضع بثلاث سور:
- إشارة سريعة إلى كف بني إسرائيل عنه لما جاءهم بالبينات، وذلك في سورة المائدة:﴿... إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَٰذَا إِلَّا سِحْرٌ مُّبِينٌ﴾ (المائدة:110).
- حديث مجمل في حماية عيسى عليه السلام منهم، بأن ألقى عليه النوم في رفعه إليه وذلك في سورة آل عمران:﴿ إِذ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ...﴾(آل عمران:55). والحديث أكثر تفصيلًا -لكنه ما زال مجملًا-عن نفي قتل اليهود وصلبهم لعيسى عليه السلام، لأن الله رفعه إليه وقيامهم بقتل وصلب شبيه له وذلك في آيات سورة النساء والتي سنشرحها بإذن الله تعالى.
- قال تعالى: ﴿يَس‍َٔلُكَ أَهلُ ٱلكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيهِم كِتَٰبا مِّنَ ٱلسَّمَاءِ فَقَد سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهرَة فَأَخَذَتهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلمِهِم ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلعِجلَ مِن بَعدِ مَا جَاءَتهُمُ ٱلبَيِّنَٰتُ فَعَفَونَا عَن ذَٰلِكَ وَءَاتَينَا مُوسَىٰ سُلطَٰنا مُّبِينا * وَرَفَعنَا فَوقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَٰقِهِم وَقُلنَا لَهُمُ ٱدخُلُواْ ٱلبَابَ سُجَّدا وَقُلنَا لَهُم لَا تَعدُواْ فِي ٱلسَّبتِ وَأَخَذنَا مِنهُم مِّيثَٰقًا غَلِيظا * فَبِمَا نَقضِهِم مِّيثَٰقَهُم وَكُفرِهِم بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ وَقَتلِهِمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيرِ حَقّ وَقَولِهِم قُلُوبُنَا غُلفُ بَل طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيهَا بِكُفرِهِم فَلَا يُؤمِنُونَ إِلَّا قَلِيلا * وَبِكُفرِهِم وَقَولِهِم عَلَىٰ مَريَمَ بُهتَٰنًا عَظِيما * وَقَولِهِم إِنَّا قَتَلنَا ٱلمَسِيحَ عِيسَى ٱبنَ مَريَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُم وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱختَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مِّنهُ مَا لَهُم بِهِۦ مِن عِلمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا * بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيما * وَإِن مِّن أَهلِ ٱلكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤمِنَنَّ بِهِۦ قَبلَ مَوتِهِۦ وَيَومَ ٱلقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيهِم شَهِيدا﴾ (النساء: 153: 159).
1. من مسلسل جرائم اليهود:
تتحدث أول آيتين من هذه الآيات الثمانية عن بعض جرائم اليهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعض مخالفاتهم لنبيهم موسى عليه السلام.
- يذكر الله لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم سوء تعامل اليهود مع الأنبياء فقد سألوه أن ينزل عليهم كتابًا من السماء (يَسأ‍َٔلُكَ أَهلُ ٱلكِتَٰبِ أَن تُنَزِّلَ عَلَيهِم كِتَٰبا مِّنَ ٱلسَّمَاءِ) ويواسيه على ما يواجه من قبائح اليهود، مُخبرًا إياه بأن أسلافهم من بني إسرائيل قد سألوا موسى عليه السلام من قبل سؤالًا أكبر وأفظع، فقد طلبوا منه أن يروا الله جهرة عيانًا، وأن يقف أمامهم مجسّمًا ويقول أنا الله: (فَقَد سَأَلُواْ مُوسَىٰ أَكبَرَ مِن ذَٰلِكَ فَقَالُواْ أَرِنَا ٱللَّهَ جَهرَة) وعاقبهم الله على ذلك السؤال القبيح، فأخذتهم الصاعقة بسبب ذلك الظلم الفاجر: (فَأَخَذَتهُمُ ٱلصَّٰعِقَةُ بِظُلمِهِم).
- ومن جرائمهم مع موسى عليه السلام أيضًا أنهم اتخذوا العجل إلهًا لما غاب عنهم وذهب إلى جبل الطور لمناجاة الله (ثُمَّ ٱتَّخَذُواْ ٱلعِجلَ مِن بَعدِ مَا جَاءَتهُمُ ٱلبَيِّنَٰتُ فَعَفَونَا عَن ذَٰلِكَ وَءَاتَينَا مُوسَىٰ سُلطَٰنا مُّبِينا). وقد أخذ الله عليهم الميثاق الغليظ، لما رفع فوقهم جبل الطور في حياة موسى عليه السلام: (وَرَفَعنَا فَوقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَٰقِهِم)، وأخذ عليهم الميثاق الغليظ بعد وفاة موسى عليه السلام، عندما أمرهم أن يدخلوا باب الأرض المقدسة ساجدين شاكرين لله (وَقُلنَا لَهُمُ ٱدخُلُواْ ٱلبَابَ سُجَّدا...)، وأخذ عليهم الميثاق الغليظ بعد ذلك عندما نهاهم عن الاعتداء على حرمة يوم السبت ونهاهم عن صيد السمك فيه: (وَقُلنَا لَهُم لَا تَعدُواْ فِي ٱلسَّبتِ..)، ولم يلتزموا بالميثاق الغليظ الذي أخذه عليهم عند جبل الطور ولم يدخلوا باب الأرض المقدسة ساجدين وإنما دخلوا محرفين يزحفون على أسنانهم ولم يلتزموا بحرمة يوم السبت فمسخهم الله قردة خاسئين.
- وسجلت الآيات التالية (155: 159) جرائم اليهود التي استحقوا بها لعنة الله وسخطه ومن أفظع هذه الجرائم تصميمهم على قتل وصلب عيسى عليه السلام، ولولا أن الله رفعه إليه لقتلوه وصلبوه، وبدأت الآيات بذكر نقضهم الميثاق الغليظ:﴿فَبِمَا نَقضِهِم مِّيثَٰقَهُم لَعَنَّٰهُم وَجَعَلنَا قُلُوبَهُم قَٰسِيَة﴾ (المائدة:13).
2. من أسباب لعنة الله لليهود:
تكلفت الآيات الآنفة الذكر بتسجيل تلك الأسباب:
‌أ- (فَبِمَا نَقضِهِم مِّيثَٰقَهُم): ونقض الميثاق الغليظ يقود إلى لعنة الله.
‌ب- (وَكُفرِهِم بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ): كفروا بالحق لما جاءهم وهذا الكفر أوقع بهم اللعنة.
‌ج- (وَقَتلِهِمُ ٱلأَنبِيَاءَ بِغَيرِ حَقّ): اليهود قتلة الأنبياء وفعلوا ذلك بغيًا وعدوانًا بدون حق، ولا يمكن أ يقتل نبيّ بحق وهذا سبب في لعنتهم.
‌د- (وَقَولِهِم قُلُوبُنَا غُلفُ): رفضوا قبول الحق الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم، وزعموا أن قلوبهم عليها أغطية سميكة، فلا تفقه ولا تعقل ما يقوله عليه الصلاة والسلام.
وقد كذبهم الله في قولهم هذا، فأخبر أنه هو سبحانه الذي طبع وختم عليها، بسبب كفرهم، ولذلك لا تهتدي مهما جاءها من الهدى: (بَل طَبَعَ ٱللَّهُ عَلَيهَا بِكُفرِهِم)، وبما أن الله طبع على قلوبهم بسبب كفرهم، فإنهم لم يؤمنوا الإيمان الصحيح الكامل الذي أوجبه الله عليهم، وإنما آمنوا إيمانًا (قَلِيلا) وهو إيمان مزاجي (تجزيئي) فهذا لا يقبل في الإيمان (فَلَا يُؤمِنُونَ إِلَّا قَلِيلا)، وإيمانهم التجزيئي القليل تمثل في إيمانهم ببعض كتب الله كالتوراة، لكنهم كفروا ببعض كتب الله كالإنجيل والقرآن.
كما تمثل ذلك الإيمان القليل المرفوض في إيمانهم ببعض رسل الله، كموسى وهارون وداوود وسليمان عليهم الصلاة والسلام لكنهم كفروا ببعض رسل الله، كعيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام. ومعلوم أن من كفر ببعض كتب الله فهو كافر بها كلها ومن كفر ببعض رسل الله فقد كفر بها كلها، ولا ينفع في ذلك الإيمان التجزيئي القليل.
‌ه- (وبِكُفرِهِم) لعن الله اليهود بسبب كفرهم وليس السبب الخامس هذا (بِكُفرِهِم) تكرارًا للسبب الثاني (وَكُفرِهِم بِ‍َٔايَٰتِ ٱللَّهِ)؛ لأنه لا تكرار في العرض القرآني، والسبب الثاني ذكر كفرهم مقيّدًا وهو كفرهم بآيات الله، ومعلوم أن الكفر بآيات الله أو بعضها، كفر بالله، مخرج من دين الله.
وأما هذا السبب الخامس فقد أطلق كفرهم ولم يقيده (وبِكُفرِهِم) لكن عندما نربطه مع ما بعده من مكرهم بعيسى عليه السلام، فإنه يدل على أن المراد به كفرهم برسل الله، لأنهم أرادوا قتل أحد رسله، فكفر اليهود بآيات الله بسبب لعنتهم، وكفرهم برسل الله سبب آخر خاص للعنتهم.
‌و- (وَقَولِهِم عَلَىٰ مَريَمَ بُهتَٰنًا عَظِيما): موقف اليهود المجرمين من مريم العفيفة البتول عليها السلام، سبب مستقل من أسباب لعنتهم يضاف للأسباب الأخرى. والبهتان العظيم الذي قالوه عليها هو: فريتهم عليها واتهامها بالزنا وهي الطاهرة العفيفة وتصريحهم بأن ابنها عيسى عليه السلام ابن زنا لعائن الله عليهم.
‌ز- (وَقَولِهِم إِنَّا قَتَلنَا ٱلمَسِيحَ عِيسَى ٱبنَ مَريَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ...) هذا القول الكبير الفاجر الذي قالوه يسجل جريمتهم الشنيعة التي أقدموا عليها وهي تصميمهم على قتل عيسى عليه السلام، بل قتلهم شخصًا يظنونه المسيح عيسى بن مريم وقد لعنهم الله بسبب هذا القول الفظيع، وقد جمعوا في هذا القول بين التفاخر فيما صمّموا عليه من قتل عيسى عليه السلام والتباهي به وبين السخرية بعيسى عليه السلام والتهكم عليه والسخرية في الصفات التي أطلقوها على عيسى عليه السلام.
(إِنَّا قَتَلنَا ٱلمَسِيحَ عِيسَى ٱبنَ مَريَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ...) لقد عرّفوه بالكلمات الأربع التي أطلقوها عليه، ومع أنها حقيقة في إطلاقها عليه، فهو المسيح، وهو عيسى، وهو ابن مريم، وهو رسول الله، لكنهم لم يطلقوها عليه من باب الإيمان بما فعلوا كانوا مؤمنين بها لما صمّموا على قتله، إنما أطلقوها عليه ساخرين متهكمين.
قال الإمام ابن كثير: (وقولهم إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله)أي: هذا الذي يدّعي لنفسه هذا المنصب قتلناه، وهذا منهم من باب التهكم والاستهزاء، وهذا كقول المشركين لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَقَالُواْ يَٰأَيُّهَا ٱلَّذِي نُزِّلَ عَلَيهِ ٱلذِّكرُ إِنَّكَ لَمَجنُون ﴾ (الحجر:6).
3. اليهود ما قتلوا عيسى ولا صلبوه:
سجل الله تعالى عليهم جرائمهم السبعة الفظيعة التي استحقوا بها لعنته وغضبه وسخطه، كذَّبهم في زعمهم قتل عيسى عليه السلام فقال الله سبحانه وتعالى:﴿ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُم وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱختَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مِّنهُ مَا لَهُم بِهِۦ مِن عِلمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا * وَإِن مِّن أَهلِ ٱلكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤمِنَنَّ بِهِۦ قَبلَ مَوتِهِۦ وَيَومَ ٱلقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيهِم شَهِيدا﴾(النساء:157-159).
فبيَّن الله تعالى كذب اليهود فيما زعموه وأنهم لم يقتلوا اليهود عيسى ولم يصلبوه، ولكن قتلوا وصلبوا شبيهه، والصلب هو تعليق الإنسان للقتل، والصليب: أصله الخشب الذي يصلب عليه، والصليب الذي يتقرب به النصارى وسُمي بذلك لكونه على هيئة الخشب الذي زعموا أنه صُلب عليه عيسى عليه السلام.
واليهود من مكر الله بهم لم يقتلوا عيسى وإنما قتلوا الشبيه وصلبوه ظانين بأنهم قتلوا عيسى، والذي شبه لهم هو الشخص المقتول، حيث ألقى الله شبه عيسى عليه السلام على الشخص الآخر فأخذوه وقتلوه وهم يوقنون أنه عيسى، مع أنه لم يكن عيسى في الحقيقة.
4. ما الذي جرى ليلة القبض على الشبيه؟
إنَّ قضية قتل عيسى عليه السلام وصلبه، قضية يخبط منها اليهود. كما يخبط فيها النصارى بالظنون، فاليهود يقولون: إنهم قتلوه، ويسخرون من قوله: إنه رسول الله، فيقررون له هذه الصفة على سبيل السخرية. والنصارى يقولون: إنه صُلب ودفن ولكنه قام بعد ثلاثة أيام.
وما من أحد من هؤلاء أو هؤلاء يقول ما يقول عن يقين، فلقد تتابعت الأحداث سراعًا، وتضاربت الروايات وتداخلت في تلك الفترة، بحيث يصعب الاهتداء فيها إلى يقين، إلا ما يقصّه رب العالمين.
وتروي الأناجيل الأربعة قصة القبض على المسيح وصلبه وموته ودفنه وقيامته، كلها كتبت بعد فترة من عهد المسيح، كانت كلها اضطهاد لديانته ولتلاميذه يتعذر معها تحقيق الأحداث في جو السرية والخوف والتشريد وقد كتبت معها أناجيل كثيرة، ولكن هذه الأناجيل الأربعة اختيرت قرب نهاية القرن الثاني للميلاد، واعتبرن رسمية واعترف بها، لأسباب ليست كلها فوق مستوى الشبهات.
وهكذا لا يستطيع الباحث أن يجد خبرًا يقينيًا عن تلك الواقعة التي حدثت في ظلام الليل قبل الفجر، ولا يجد المختلفون فيها سند يرجح رواية عن رواية (وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱختَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مِّنهُ مَا لَهُم بِهِۦ مِن عِلمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ)، وأما الله تعالى في كتابه العزيز فقد قرّر قراره الفصل: (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُم)، (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيما).
وقد اهتم مؤرخو الإسلام بهذه الحادثة، وخيرُ من لخص تلك الأحداث المفسر والمؤرخ الكبير ابن كثير (وهو من علماء بلاد الشام المطلعين على تاريخها)، وإليك ما فصله حول هذه الحادثة في تفسيره حيث قال: وكان من خبر اليهود - عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه- أنه لما بعث الله عيسى ابن مريم بالبينات والهدى، حسدوه على ما آتاه الله من النبوة والمعجزات الباهرة، التي كان يبرئ بها الأكمه والأبرص ويحيي بها الموتى بإذن الله إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه، ومع هذا كذبوه وخالفوه، وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم، حتى جعل عيسى - عليه السلام - لا يساكنهم في بلدة، بل يكثر السياحة هو وأمه، ثم لم يقنعهم ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان - وكان رجلاً مشركاً من عبدة الكواكب، وكان يقال لأهل ملته اليونان - وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلاً يفتن الناس ويُضلهم ويفسد على الملك رعاياه، فغضب الملك من هذا، وكتب إلى نائبه بالقدس أن يحتاط على هذا المذكور، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه، ويكف أذاه على الناس فلما وصل الكتاب امتثل والي المقدس ذلك.
وذهب هو وطائفة من اليهود إلى البيت الذي فيه عيسى، عليه السلام، وهو في جماعة من أصحابه، اثني عشر أو ثلاثة عشر -وقيل: سبعة عشر نفرًا -وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت، فحصروه هناك. فلما أحس بهم وأنه لا محالة من دخولهم عليه، أو خروجه إليهم، قال لأصحابه: أيكم يلقى عليه شبهي، وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم، فكأنه استصغره عن ذلك، فأعادها ثانية وثالثة وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب -فقال: أنت هو-وألقى الله عليه شبه عيسى، حتى كأنه هو، وفتحت روزنة من سقف البيت، وأخذت عيسى عليه السلام سنة من النوم، فرفع إلى السماء وهو كذلك، كما قال الله تعالى: (إِذ قَالَ ٱللَّهُ يَٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ...).
فلما رفع عيسى من سقف البيت، خرج أولئك النفر من البيت فلما رأى اليهود والجنود ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى، فأخذوه في الليل وصلبوه، ووضعوا الشوك على رأسه، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك، لجهلهم وقلة عقلهم، ما عدا من كان في البيت مع المسيح، فإنهم شاهدوا رفعه، وأما الباقون فإنهم ظنوا كما ظن اليهود أن المصلوب هو المسيح ابن مريم، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت وهذا كله من امتحان الله عباده، بماله في ذلك من الحكمة البالغة وقد أوضح الله الأمر وجلّاه وبيّنه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم، حيث بيّن أنهم ما قتلوا عيسى عليه السلام وما صلبوه ولكن شبه لهم، حيث ألقى الله شبهه على ذلك الشاب، فبدا لهم عيسى، فقتلوا الشاب وصلبوه ظانين أنه عيسى.
وأخبر الله الذين اختلفوا في عيسى عليه السلام من اليهود الذين ادعوا قتله والنصارى الجهال الذين سلَّموا لهم بذلك كلهم في شك وحيرة وضلال من ذلك وأخبر الله أنهم ما قتلوه، متيقنين أنه هو، وإنما كانوا شاكين متوهمين وأما عيسى عليه السلام فقد رفعه الله إليه والله هو العزيز الحكيم.
وفي رواية عبد الله بن عباس رضي الله عنهما: لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء، خرج عليهم من عين في البيت، ورأسه يقطر ماء، فقال: إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة، بعد أن آمن بي. ثم قال: أيكم يلقى عليه شبهي، فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثهم سناً، فقال له: اجلس. ثم أعاد عليهم فقام ذلك الشاب، فقال: اجلس، ثم أعاد عليهم فقام الشاب، فقال: أنا. فقال: هو أنت. فألقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء وجاء الطلب من اليهود فأخذوا الشبه فقتلوه، ثم صلبوه، فكفر بعيسى بعضهم اثنتي عشر مرة، كما قال لهم.
- وافترق النصارى في عيسى ثلاث فرق:
فقالت فرقة منهم: كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء. وهؤلاء هم اليعقوبية. وقالت فرقة أخرى:كان ابن الله فينا ما شاء، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء النسطورية. وقالت فرقة أخرى: كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء، ثم رفعه الله إليه. وهؤلاء هم المسلمون. فتظاهرت الفرقتان الكافرتان على الفرقة المسلمة، فقتلوها، فلم يزل الإسلام طامسًا حتى بعث الله محمدًا صلى الله عليه وسلم، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس.
5. ترتيب أحداث مسلسل تلك الليلة:
من خلال النظر فيما سبق، يمكننا تصّور تلك الليلة وتصوير ما جرى فيها بإيجاز:
- نجح اليهود في أقناع الحاكم الروماني في إلقاء القبض على عيسى وقتله، حيث أمر الحاكم بتنفيذ ذلك.
- توجهت مجموعة من الجنود الرومان واليهود إلى المكان الذي يوجد فيه عيسى عليه السلام لتنفيذ أمر الحاكم.
- المكان الذي كان يقيم فيه عيسى كان في بيت المقدس، حسب سياق أحداث القتل والصلب ودرب الآلام بعد ذلك.
- كان عيسى عليه السلام في أحد بيوت القدس في تلك الليلة مع اثني عشر رجلًا من الحواريين -كما قال ابن عباس رضي الله عنهما-.
- علم عيسى عليه السلام بقدوم الجنود واليهود لاعتقاله وقتله وصلبه، فلم يخف ولم يحزن ولم يقلق لأنه يوقن أن الله معه يحفظه ويحميه.
- أخبر الله عيسى عليه السلام أنهم لن يصلوا إليه ولن يؤذوه، وأنه سيلقي شبهه على أحد تلاميذه الحواريين وأنه سيرفعه إليه، وطلب منه أن يسألهم ليتبرع أحدهم ليلقي الله عليه شبه عيسى عليه السلام فيكون المصلوب الشهيد.
- أخبر عيسى عليه السلام الحواريين أن الله سحميه من الجنود واليهود، وأنه سيرفعه إليه، وذلك ليطمئنهم عليه.
- عرض عيسى عليه السلام على الحواريين الاثني عشر أن يتبرع أحدهم ليفديه بنفسه بأن يلقي شبهه عليه، فيؤخذ ويقتل ويُصلب ويموت شهيدًا، وضمن لذلك الفدائي أن يكون معه في الجنة.
- استجاب لعرض عيسى عليه السلام شاب، لعلّه كان من أصغر الموجودين سنًا، فاستصغره عيسى عليه السلام وأراد من هو أكبر منه، ولكن لم يستجب له في المرات الثلاثة التي انتدبهم فيها إلا هو، فقال له عيسى عليه السلام: هو أنت!
- لم يذكر اسم ذلك الشاب المتطوع العظيم، الذي بذل نفسه وحياته وعمره لله، فهو من مبهمات القصة.
- أجرى الله على ذلك الشاب أمره، وأوقع عليه آيته الخارقة، حيث حوله الله من ملامحه الأصلية التي خلقه عليها، إلى ملامح عيسى عليه السلام، فما هي إلا لحظات حتى تحول الشخص إلى شبه عيسى وكل من رآه لا يشك أنه عيسى ولا يعرف كيف فعل الله ذلك، لأننا لا نعرف كيفيات أفعال الله.
- نظر الحواريون الذين في البيت إلى ذلك الشخص فإذا هو عيسى، لأنه أشبهه شبهًا كاملًا وهم يعلمون أن الله ألقى شبه عيسى عليه.
- لما وصل اليهود والجنود إلى ذلك البيت كان فيه شخصان، كل منهما عيسى، عيسى الحقيقي النبي الكريم عليه الصلاة والسلام وعيسى الآخر المتقمص لشخصيته، الذي ألقى الله شبه عيسى عليه والحواريون يرون الشخصين.
- لما أراد اليهود والجنود دخول البيت، أجرى الله آية أخرى باهرة حيث فتح سقف البيت فتحة معجزة بأمره سبحانه وتعالى.
- ألقى الله على عيسى عليه السلام سنة من النوم، وهو بين تلاميذه وحوارييه، تمهيدًا لرفعه إلى السماء من الفتحة التي في سقف البيت والحواريون الذين في المنزل ينظرون إليه ويلاحظون هذه الآية الباهرة من آيات الله وقد اطمأنوا على نجاة نبيهم وحبيبهم عيسى عليه السلام.
- دخل اليهود والجنود البيت، ورأوا أمامهم (عيسى) وهو في الحقيقة عيسى الثاني، عيسى المتحول شبيه عيسى النبي الذي رفع إلى السماء، ونظروا إليه وهم لا يشكون لحظة أنه عيسى.
- أخذا الجنود عيسى الشبه المتحول لقتله وصلبه، ويبدو أنه لم يكلمهم واحدة، ولم ينف أنه عيسى ولم يخبرهم أن عيسى الحقيقي النبي في السماء وأنهم فشلوا في القبض عليه وقتله، فإنه استعد للقتل والاستشهاد.
- لا نعرف ماذا جرى للحواريين الاحد عشر الآخرين الذين كانوا في المنزل، هل اعتقلوا أم هربوا أم قتل بعضهم وأخرج عن الآخرين، فهذا من مبهمات القصة.
- أخذا الجنود واليهود عيسى الثاني الشبه، وصلبوه على الخشبة، وقتلوه على الصليب، وخرجت روح هذا الفدائي المؤمن -وهو على الصليب -ولقي الله شهيدًا، بينما كان عيسى النبي في السماء عليه الصلاة والسلام.
- كان الناس يأتون إلى الشاب المصلوب الشهيد ينظرون إليه، فإذ به عيسى، ولا يشكون لحظة أنه عيسى؛ لأن الله ألقى شبه عيسى عليه، وهم لا يعرفون لا يعرفون المعجزة التي أجراها الله، وكانوا بين فرح شامت وبين حزين متألم وبعد حين أنزلوا الشهيد المصلوب ودفنوا جثته.
- كانوا اليهود فرحين شامتين؛ لأنهم قتلوا عيسى وصلبوه -وهو في الحقيقة عيسى الشبه -وأذاعوا في الناس، وقالوا: ساخرين: إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله.
- لم تعلم النصارى ماذا جرى من معجزات ربانية في تلك الليلة، فأيقنوا أن الذي شاهدوه ميتًا على الصليب هو نبيهم عيسى بن مريم، فصدقوا اليهود في تبجحهم في قتله، وقالوا: قتلوا وصلبوا نبينا عيسى.
- صبَّ اليهود والرومان العذاب على الحواريين، وعلى كل من آمن بعيسى عليه السلام، وقتلوا منهم وصلبوا وسجنوا وشرّدوا، ولم يلتقط النصارى أنفاسهم ليفكروا بتأن وتمهل فيما جرى في تلك الليلة ووقع اختلاف شديد بين النصارى في أحداث الليلة، المذكورة، فصدّقوا اليهود في ادعائهم أنهم قتلوا عيسى عليه السلام ودخل الشرك على النصرانية، فاختلفوا في عيسى عليه السلام، فمنهم من اعتبره إلهًا ومنهم من اعتبره ابنًا لله.
- بقيت أحداث تلك الليلة الحقيقة خافية على اليهود والنصارى وكل ظنهم أن المقتول المصلوب هو عيسى بن مريم رسول الله، حتى بعث الله محمدًا رسولًا صلى الله عليه وسلم، وأنزل عليه القرآن، وذكر في آياته حقيقة ما جرى.
6. نظرات في الآيات التي تحدثت عن قتل الشبيه:
بعد تلخيص تلك الأحداث في النقاط السابقة المتسلسلة نفهم معنى قول الله تعالى: ﴿وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُم وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱختَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مِّنهُ مَا لَهُم بِهِۦ مِن عِلمٍ إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا* بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيما * وَإِن مِّن أَهلِ ٱلكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤمِنَنَّ بِهِۦ قَبلَ مَوتِهِۦ وَيَومَ ٱلقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيهِم شَهِيدا﴾ (النساء: 157-159) .
- (وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ): لم يقتل اليهود عيسى عليه السلام، ولم يصلبوه على الصليب.
- (وَلَٰكِن شُبِّهَ لَهُم): ألقى الله شبه عيسى بن مريم على تلميذه الفدائي، فصار ذلك التلميذ المشبّه أمام الناس المشبه به تمامًا، وأخذ اليهود والجنود عيسى الثاني الشبه وقتلوه وصلبوه لكن عيسى بن مريم الحقيقي رسول الله لم يقتلوه، ولم يصلبوه.
- (وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱختَلَفُواْ فِيهِ لَفِي شَكّ مِّنهُ): فهناك شخص مقتول مصلوب، يشبه عيسى تمامًا، لكن من هو؟ أهو عيسى الحقيقي أم عيسى الشبه؟ اختلفوا في ذلك القتل والصلب على من وقع.
- (وَإِنَّ ٱلَّذِينَ ٱختَلَفُواْ): ينطبق على الطائفتين: اليهود الذين قالوا: إنا قتلنا المسيح عيسى بن مريم رسول الله والنصارى الذين قالوا: رسولنا عيسى قتله وصلبه اليهود. لقد كانت الطائفتان في شك من هوية المقتول المصلوب.
- (مَا لَهُم بِهِۦ مِن عِلمٍ): ليس عند اليهود والنصارى علم حازم يقيني في المقتول المصلوب، هل هو عيسى أم غيره.
- (إِلَّا ٱتِّبَاعَ ٱلظَّنِّ): بعد ما نفى على اليهود والنصارى العلم بهوية المقتول، أثبت لهم الظن فيه، وأنكر عليهم اتباع ذلك الظن الذي لا يقود إلى اليقين وإنما إلى الحيرة والشك، والمعنى: شاهد اليهود والنصارى شخصًا مقتولًا مصلوبًا يشبه عيسى شبهًا تامًا كاملًا، فاختلفوا في تحديد هويته، أهو عيسى أم غيره، ولم يحققوا في ذلك علمًا وصاروا في شك وحيرة، لأنهم اتبعوا الظن، واتباع الظن يقود للشك، ولا يوصل صاحبه إلى علم.
- ومعنى قوله: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا): بعدما نفى عنهم العلم بهوية المقتول، نفى عن اليهود القتل اليقيني لعيسى عليه السلام فقال: (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا)، والضمير الهاء في (وَمَا قَتَلُوهُ) يعود على عيسى عليه السلام: أي: ما قتلوا عيسى متيقنين أنه عيسى، بل كانوا في ذلك شاكين متوهمين.
لقد قتلوا شخصًا ظنوه عيسى، لكنهم ما قتلوا عيسى يقيناً، وإذا كانوا ما قتلوا عيسى ابن مريم رسول الله فأين عيسى إذًا؟ وماذا كانت نهايته؟ وماذا جرى له في تلك الليلة؟
الجواب في قوله تعالى:﴿ بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيهِ وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيما ﴾(النساء:158).
- (بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيهِ): بل: حرف إضراب وإبطال، فقد تمّ فيها الإضراب عن الكلام السابق وإبطاله وإلغاؤه وهو مزاعم اليهود بقتل عيسى، وإن قوله: (بَل رَّفَعَهُ ٱللَّهُ إِلَيهِ): إبطال وإلغاء لقول اليهود: (إنا قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله)، وهو صريح في أن الله رفعه بروحه وبدنه حيًا من سقف البيت إلى السماء.
لقد وعد الله عيسى قبل تلك الحادثة أن يتوفاه، ويرفعه إليه وذلك في قوله تعالى): يَٰعِيسَىٰ إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ) أي: إني سألقي عليك النوم، ثم أرفعك إليّ، وبذلك أطهرك من الذين كفروا ولما صار عيسى في الخطر وجاء اليهود والجنود لقتله وصلبه حقق الله له وعده، وتوفّاه وألقى عليه النوم، ثم جعل فتحة في سقف البيت ورفعه إليه في السماء وكان رفعه بروحه وبدنه، رفعًا ربانيًا خاصًا، وهو آية بينة ومعجزة باهرة.
- (وَكَانَ ٱللَّهُ عَزِيزًا حَكِيما): عقبت الآية على رفع عيسى إلى السماء بالإشارة إلى عزّة الله وحكمته، وهذا تعقيب يتناسب مع ما قبله، فالله عزيز قوي قادر قاهر، ينصر أولياءه ويحفظهم ويفرج عنهم ويحميهم من أعدائهم، كل ذلك بعزّته، ولذلك رفع عيسى عليه السلام إليه ونجاه من مكر اليهود بعزّته، والله حكيم في تدبيره وتقديره وقضائه وتصريف أمور خلقه ومن حكمته إنجاء رسوله عليه السلام بتلك الطريقة الباهرة، وإيقاع أعدائه في الحيرة والظن والشك والوهم.
وعندما ننظر في حديث القرآن عن أحداث تلك الليلة فإننا نرى تأكيد اليهود على قتل عيسى، وذلك التأكيد الذي ظهر في قولهم: (إِنَّا قَتَلنَا ٱلمَسِيحَ عِيسَى ٱبنَ مَريَمَ رَسُولَ ٱللَّهِ) حيث جمعوا بين اسمه ولقبه ووصفه، للتأكيد على جزمهم بقتله. ونرى أيضًا تأكيد القرآن على كذبهم في تأكيدهم باستخدام ثلاث جمل منفية (وَمَا قَتَلُوهُ)، (وَمَا صَلَبُوهُ)، (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا)، لقد نفى قتلهم له، ثم أكد ذلك بنفي صلبهم له والنفيان متلازمان، فبما أنهم لم يقتلوه، فإنهم لم يصلبوه، والنفي الثالث (وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينَا)، وبما أن اليهود لم يقتلوا عيسى رسول الله، وإنما رفعه الله إليه، فهو حي عنده في السماء، لم يمت وسينزل في آخر الزمان بأمر الله ويعيش باقي عمره الذي قدره الله له، وسيؤمن به أهل الكتاب الذين يكونون أحياء عند نزوله على أنه عبد الله ورسوله وقد أشار إلى هذا المعنى قول الله تعالى: ﴿ وَإِن مِّن أَهلِ ٱلكِتَٰبِ إِلَّا لَيُؤمِنَنَّ بِهِۦ قَبلَ مَوتِهِۦ وَيَومَ ٱلقِيَٰمَةِ يَكُونُ عَلَيهِم شَهِيدا ﴾ (النساء:159). وسيأتي الحديث عن هذه الآية عندما نتكلم عن نزول عيسى عليه السلام في آخر الزمان.

مراجع البحث:
- علي محمّد محمّد الصّلابيّ، المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام (الحقيقة الكاملة)، 2019م، (345:332)
- صلاح الدين الخالدي، القصص القرآني عرض وقائع وتحليل أحداث، د. ، دمشق: دار القلم، بيروت: الدار الشامية، ط1، 1419ه، 1998م. 4/381.
- محمد أبو زهرة، محاضرات في النصرانية، ، المملكة العربية السعودية، الرياض: الرئاسة العامة لإدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، ط4، 1404ه.، 2/802.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022