الثلاثاء

1447-02-04

|

2025-7-29

الصفات القيادية في شخصية عماد الدين زنكي

"انتقاء الرجال الأكفاء وتقديره لهم"

بقلم: د. علي محمد الصلابي

كان عماد الدين زنكي يختار الرجال الأكفاء الذين أخلصوا له وكانوا دعائم دولته، ودولة أبنائه من بعده، فقد كانت له همَّةٌ عالية، ورغبة في الرجال ذوي الرأي والعقل، ويرغبهم ويخطبهم، ويوفر لـهم العطاء. وقـال ابن الأثير: «حكى لي والدي: قيل للشهيد: إنَّ هذا كمال الدين ، ويحصل له في كل سنة ما يزيد على عشرة الاف دينار أميرية ، وغيره يقنع منه بخمسمئة دينار. فقال لهم: بهذا العقل ، والرأي تدبرون دولتي؟! إنَّ كمال الدين يقل له هذا القدر ، وغيره يكثر له خمسمئة دينار ، إن شغلاً واحداً يقوم به كمال الدين خير من مئة ألف دينار ، وكان كما قال ـ رحمه الله ـ» (1).

وكان يتعهد أصحابه ، ويمتحنهم ، فقد أعطى يوماً خُشكُنانكه إلى طشت دار له وقال: احفظ هذه. فبقي نحو سنة لا يفارقه خوفاً أن يطلبها منه ، فلما كان بعد سنة سأله عنها ، فأخرجها من منديل كان لا يفارقه خوفاً من أن يطلب منه ، فاستحسن ذلك ، وجعله داراً لقلعة كواشي (2). وهي قلعة حصينة في الجبال الواقعة شرقي الموصل (3)، وكان يخطب الرجال ذوي الهمم والآراء الصائبة ، والأنفس الأبية ويوسع في الأرزاق، فيسهل عليهم فعل الجميل ، واصطناع الرجال ، ومن أسباب توفيقه: أنه كان نقاداً للرجال ، يعرف كيف يختار الأكفاء الصالحين منهم ، ويوليهم ثقته (4)، فمن هؤلاء:

أ ـ بهاء الدين الشهرزوري الذي يقول عنه ابن القلانسي: وكان صاحب عزيمة وهمة نافذة ويقظة ثابتة.

ب ـ ومنهم وزيره ضياء الدين أبو سعيد ابن الكفرتوثي ، وكان على ما حكي عنه: حسن الطريقة جميل العقل كريم النفس مرضي السياسة مشهوراً للنفاسة والرئاسة.

ج ـ ومنهم نصير الدين جقر ، وقد كان لنصير الدين أخبار في العدل والإنصاف وتجنب الجور والاعتساف ، أخباره متداولة بين التجار والمسافرين ، ومتناقلة بين الواردين ، والصادرين من السفار ، وقد كان رأيه جمع الأموال من غير جهة حرام ، لكنه يتناولها بألطف مقال ، وأحسن فعال ، وأرفق توصل واحتيال ، فهذا محمود من ولاة الأمور وقصد سديد في سياسة الجمهور ، وهذه هي الغاية في مرضيِّ السياسة ، والنهاية في قوانين الرياسة (5).

ويظهر تقديره للرجال من تولية نائبه بالموصل، فبعد مقتل نصير الدين ارتاب في من يقيمه في موضعه ، ويخلفه في منصبه، فوقع اختياره على الأمير علي كوجك، لعلمه بشهامته ومضائه في الأمور وبسالته ، فولاه مكانه، وعهد إليه أن يقتفي اثاره في الاحتياط والتحفظ ، وتتبع أفعاله في التحرز واليقظة ، وإن كان لا يغني غناءه ولا يضاهي كفاءته ومضاءه ، فتوجه نحوها ، وحصل بها وساس أمورها سياسة سكتت معها نفوس أهلها ، وبذل جهده في حماية المسالك وأمن السوابل ، وقضاء حوائج ذوي الحاجات ، ونصرة المظلومين ، فاستقام الأمر ، وحسنت بتدبيره الأحوال ، وتحققت بيقظته في أعماله الأمان (6).

وكان عماد الدين الزنكي رحمه الله قليل التلون والتنقل ، بطيء الملل والتغير ، شديد العزم ، لم يتغيَّر على أحد من أصحابه مُذْ مَلَك إلى أن قتل إلا بذنب يوجب التغيُّر والأمراء ، والمقدَّمون الذين كانوا معه أوَّلاً هم الذين بقوا أخيراً من سَلِمَ منهم من الموت ؛ فلهذا كانوا ينصحونه ، ويبذلون نفوسهم له ، وكان الإنسان إذا قدم عسكره؛ لم يكن غريباً ، إن كان جندياً؛ اشتمل عليه الأجناد ، وأضافوه ، وإن كان صاحب ديوان؛ قصد أهل الديوان ، وإن كان عالماً؛ قصد القضاة بني الشَّهرزوري، فيحسنون إليه، ويؤنسون غربته، فيشعر وكأنه في أهله، وسبب ذلك جميعه: أنه كان يخطب الرجال ذوي الهمم العليَّة والآراء الصائبة والأنفس الأبية ، ويوسع عليهم في الأرزاق ، فيسهل عليهم فعل الجميل ، واصطناع المعروف (7).

المصادر والمراجع:

() كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبو شامة المقدسي، (1/159 ، 160).

(2) مفرج الكروب، محمد بن سالم التميمي الحموي، (1/103).

(3) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، شاكر أحمد أبو بدر، ص 166.

(4) المصدر نفسه ص 166.

(5) ذيل تاريخ دمشق، ابن القلانسي، ص 275. الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، شاكر أحمد أبو بدر، ص 166.

(6) ذيل تاريخ دمشق، ابن القلانسي، ص 172.

(7) كتاب الروضتين في أخبار الدولتين النورية والصلاحية، أبو شامة المقدسي، (1/163).


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022