(دلالات وصف ابراهيم عليه السلام بالصديقية)
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 70
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
2 صفر 1444ه / 29 أغسطس 2022م
يعني وصف إبراهيم - عليه السّلام - بالصدّيقية والنبوّة قبل الحوار له أكثر من دلالة منها:
• الدلالة الأولى:
إبراهيم - عليه السّلام - كان جامعاً خصائص الصدّيقين والأنبياء حينما خاطب أباه تلك المخاطبات،(1) وهذا يعني أنَّ إبراهيم - عليه السّلام - أصبح رسولاً قبل أن يحاور أباه وقومه والملك؛ لأنَّ هدف الحوار تبليغ دعوة الله كما أمره بالتمام والكمال، ولهذا أثنى الله على إبراهيم عليه السّلام، قال تعالى: {وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى} ]النجم:37[، وقال تعالى: {وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ} ]الأنعام:83[، وجاءت معجزة إبراهيم نجاته من النار دليلاً على صدقه أنه مرسل من الله تعالى لقومه كما قال سبحانه وتعالى: {فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ} ]العنكبوت:24[، وقال تعالى: { قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)} ]الأنبياء:69-70[.
• الدلالة الثانية:
وصف إبراهيم - عليه السّلام - بالصدِّيقية قبل وصفه بالنبوة يُشير إلى أن الصدّق صفة أساسية، لكلِّ نبيّ ورسول، وهذا يعني أنه يستحيل على النبيّ أن يكون كاذباً، ولهذا كان سيدنا محمد - صلّى الله عليه وسلّم - يلقب بالصادق الأمين قبل النبوة، وكذلك كل نبيّ ورسول، ويعدُّ خلق الصدق أصلاً من أصول الأخلاق الإسلامية، إذا وجد وُجدت معه بقية الأخلاق الطيبة بدليل أن إبراهيم - عليه السّلام - وصفه الله بالصدّيقية، فجمع من الصفات الطيبة الكثيرة ما يجتمع في أمة ولهذا أثنى الله عليه، فقال عزّ وجل: {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً}، وعلى هذا يمكن القول إنَّ الصّفات تزداد في الإنسان بمقدار ما عنده من صدّق.(2)
إنَّ الصّديق هو الذي بلغ الغاية في تصدّيق الحقّ، فيورثه الله شفافية وإشراقاً بحيث يهتدي إلى الحقّ، ويميزه عن الباطل، من أول نظرة في الأمر دون بحث وتدقيق في المسألة؛ لأنَّ الله تعالى يهبُك النّور الذي يُبدد عنك غيامات الشكّ ويهبُك الميزان الدقيق الذي تزن به الأشياء كما قال سبحانه وتعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا} ]الأنفال:29[.(3)
ومن هنا سُمّي أبو بكر الصدِّيق - رضي الله عنه - صدّيقاً، ليس لأنّه صادقٌ في ذاته فقط؛ بل لأنّه يصدق كل ما جاءه من رسول الله صلّى الله عليه وسلّم؛ ولقد وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم سيدنا أبا بكر بالصّدّيقيّة، ولقد كان سيدنا أبو بكر صادقاً لا يكذب، وكان يسارع إلى تصدّيق رسول الله صلّى الله عليه وسلّم في كل ما يخبر له، وكان يسارع إلى العمل بما تقتضيه الأخبار إن كانت تقتضي عملاً، وكان وصف رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لسيدنا أبي بكر بالصّدّيقيّة في مكة قبل الهجرة بمناسبة حادثة معينة هي حادثة الإسراء.(4)
فلما أخبروا أبا بكر خبر الإسراء والمعراج الذي كذّب به كثيرون، ماذا قال؟ قال: أوَقال ذلك؟ قالوا: نعم، قال: لئن كان قال ذلك، لقد صدق، قالوا أتصدّقه أنه ذهب الليلة إلى بيت المقدس، وجاء قبل أن يصبح؟ قال: نعم إنّي لأصدّقه فيما هو أبعد من ذلك، وأصدّقه بخبر السماء في غدوة أو روحة، فلذلك سُمّي أبو بكر: الصدّيق.(5)
إنَّ الأمر عنده متوقف على مجرد قول رسول الله، فهذا هو الميزان عنده، وطالما أن رسول الله قد قال، فهو صادق، هكذا دون جدال ودون نقاش، ودون بحث في ملابسات هذه المسألة، لذلك من يومها وهو الرجل الصدّيق عن جدارة.(6)
لقد كان خليل الله إبراهيم - عليه السّلام - "صدّيقاً"، وكان أيضاً "نبياً"؛ لأنَّ الإنسان قد يكون صدِّيقاً يعطيه الله شفافية خاصة، وليس من الضروري أن يكون نبيّاً، كما كانت مريم صدّيقة وأبو بكر صدّيقاً، فهذه إذاً صفة ذاتية إشراقية من الله، أما النبوّة فهي عطاء وتشريع يأتي من أعلى، وهدى يأتي من الله بحمل النبيّ مسؤوليته.(7)
إنّ مظاهر الصدّيقيّة في حياة إبراهيم - عليه السّلام – كثيرة، منها امتثاله لأمر الله في مجابهة قومه بأن دينهم باطل، وأن عبادتهم فاسدة، وأن آلهتهم مزيفة، فقد كانوا يعبدون الأصنام، وكانوا يعبدون أحجاراً ينحتونها بأيديهم ثم يسجدون لها، وبدوره اتّجه إبراهيم - عليه السّلام - أول ما اتّجه إلى أبيه، وكان حريصاً على هدايته محبّاً لصلاحه.(8
مراجع الحلقة السبعون:
(1) دعوة الرسل إلى الله، محمد أحمد العدوي، ص50.
(2) قصة إبراهيم في القرآن الكريم، إسحاق محمد حمدان البدارين، ص28.
(3) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (15/9092).
(4) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (15/95).
(5) المستدرك على الصحيحين، أبي عبد الله الحاكم النيسابوري، (3/62)، والسيرة النبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث، د.علي محمّد محمّد الصّلابيّ، (1/317).
(6) تفسير الشعراوي، محمد متولي الشعراوي، (15/9093).
(7) المرجع نفسه (15/9093).
(8 قصص الأنبياء في رحاب الكون، د. عبد الحليم محمود، ص97.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي