ملامح من شخصية والد إبراهيم (عليه السّلام)
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 76
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1444ه / سبتمبر 2022م
قال تعالى {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا}.يعدُّ هذا النص في إجابته توضيحاً لشخصية والد إبراهيم - عليه السّلام - وإشارة إلى بعض ملامحها، وأما في بقية المواضع فيأتي ذكره ضمن الحديث عن قومه، وقد أشار القرآن الكريم في حديثه عن قصة إبراهيم - عليه السّلام - إلى بعض صفات شخصية "آزر" والد إبراهيم - عليه السّلام - ومنها ما يأتي:
أ- الأب المشرك:
يكشف النصُّ عن عقيدة "آزر" الأب، في قوله: {لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا}، فنحن أمام شخص يعبد الأصنام، ويبدو أنه يُعنى بها كثيراً، ويمنحها جهده ووقته، كما يفهم من لفظ "أتتخذ" في سورة الأنعام،(1) فاللفظ يوحي بأن "آزر" يصنع الأصنام وينحتها.(2)
ب- المكانة الدينية:
نُدرك من سياق الحوار أن الرجل صاحب مكانة في قومه، وعنده عناية كبيرة بالآلهة وطقوسها وتعاليمها، ونستشف ذلك مما سبق آنفاً، ومن قوله: {لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ}، فهو ذو مكانة في قومه، وإسناد الرجم إلى نفسه من باب المجاز العقلي، والذي يرجمه قومه استناداً إلى حكمه.(3)
ج- الإنصات للآخر:
يظهر الأب "آزر" في مشهد الحوار طرفاً يحسن الاستماع للآخر، حيث أدلى الابن إبراهيم - عليه السّلام - بكل ما أراد قوله، ولم يقاطعه بل ظلَّ صامتاً حتى انتهى الابن من حديثه.(4)
د- التعصب والتصلّب في الكفر:
يُظهر الحوار أنّ الأب شخصية متعصبة لآلهتها، مستميتة في نصرتها، مستنكرة كل ما يخالفها، مضحية في سبيلها بكل شيء، ولو كان ثمرة الفؤاد وقطعة الكبد المتحركة {قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آَلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ} أي: أبلغ بك الأمر إلى هذا الحدِّ من الجرأة وقلة الأدب؟ فهو إنكار توبيخي، فيه لون من الاستهجان والاستغراب.(5)
وفي التعبير باسم الفاعل {أَرَاغِبٌ} دلالة على ثبات إبراهيم - عليه السّلام - واستمراره في الرغبة عن آلهة أبيه، وأنها ليست وليدة الحدوث، وليست نتيجة قرار جديد اتخذه وعزم عليه، بل إن تلك الرغبة عن آلهة أبيه وقومه أمرٌ متأصل فيه وصفةٌ ثابتة له.(6)
ثم تأمل إظهاره ضمير إبراهيم في قوله {أَنْتَ} بدلاً من إضماره، وكان يمكن أن يقول: أراغب عن آلهتي يا إبراهيم لما في إظهاره من الاستهانة به والتحقير من شأنه، كأنه ليس أهلاً لذلك.
ويمكن أن نقول أيضاً: إنَّ في ذكر ضمير المخاطب {أَنْتَ} زيادة إنكار وتوبيخ من آزر لإبراهيم - عليه السّلام -، وكأنه يقول له: ما كان يُتوقع منك أنت بالذات أن تتخلى عن آلهة أبيك، وتأمل قوله: {عَنْ آَلِهَتِي}، وكان من الممكن أن يقول: عن آلهتنا تجد في إضافة الآلهة إلى ضميره إغاظة لإبراهيم - عليه السّلام -، وتأكيداً له أنه لم يكترث بموعظته له، وأنه متمسك بعبادة الأصنام ومُصرّ عليها ومدافع عنها بكل ما أوتي من سلطة وقوة، وكأنه يقول لابنه: إنّ مواعظك لي لم تغيّر اعتقادي في آلهتي، ولم تؤثر فيّ قيد أنملة، وفي إضافتها إلى نفسه أيضاً مبالغة في تعظيمها.(7)
ه- غلظة الطبع وقساوة المشاعر:
لقد تلقّى الأب استعطاف الابن وشفقته وتحننه إليه بتكرار النداء بالأبوة الذي يُلين القلب الجاسي، ويذيب الصخر الجامد، ومحاولاته إحضار ملكات السمع والذهن الشاردة وإيقاظ داعي الخوف من الله والتحذير من طاعة الشيطان، تلقى كل ذلك بفظاظة المنطق، وجلافة المشاعر، وخمول الأبوية، والإصرار على الكفر، والتهديد بالقتل، والضيق النفسي بالابن الناصح المشفق.(8
و- الكبر والتعالي واختصار الآخر:
تجلت الصفتان من خلال التحليل لسمات هذه الشخصية، حيث سيطرت الذات المغرورة المتعالية، بل إنَّ نبرات الاستكبار ونظرات الاحتقار للآخرين، نحس بها منذ العبارات الأولى من حديثه.(9)
وتأمل اللحظات، وذلك عندما نادى إبراهيم - عليه السّلام - باسمه مجرداً فقال: {يَا إِبْرَاهِيمُ} ولم يقل: يا بني في مقابل مناداة إبراهيم - عليه السّلام - بوصف الأبوة؛ ليشعر ابنه بأنه لا يستحق أن ينسب إليه، ولا أن يضاف إلى اسمه ما دام قد رغب عن آلهته، وتلمّس فظاظة قلب الأب الكافر وقسوته، واستعمل في ندائه أداة النداء {يَا} الموضوعة لنداء البعيد للإشعار ببعده عن نفسه وقلبه.(10)
تلك بعض المكونات التي أظهرها الحوار من شخصية الأب المستكبر، وهي سمات تطلعنا على المعاناة الشديدة التي لقيها الابن البارّ في سبيل هداية أبيه، وإنقاذه من عذاب الرحمن؛ ليخلّد بذلك مثالاً حوارياً رائعاً للأبناء البررة الصالحين الذين يجدون أنفسهم في بيئة مُنحلّة، وأسرة متهتّكة وأب منتكس الفطرة، لئيم الخلق، لا يقيم لشرع الحق وزناً، ولا يرجو لله وقاراً.(11)
مراجع الحلقة السادسة والسبعون:
(1) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص77.
(2) البحر المحيط في التفسير، أبو حيّان الأندلسي، (4/170).
(3) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (16/120)، صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص78.
(4) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، المرجع نفسه، ص78.
(5) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص78.
(6) خصائص النظم القرآني في قصة إبراهيم عليه السلام، د. الشحات محمد أبو ستيت، مطبعة الأمانة، مصر، ط1، 1412 هـ، 1991م، ص40.
(7) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص197.
(8) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص80.
(9) المرجع نفسه، ص80.
(10) خصائص النظم القرآني في قصة إبراهيم عليه السلام، د. الشحات محمد أبو ستيت، ص39.
(11) صناعة الحوار، حمد عبد الله السيف، ص80.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي