تأملات في الآية الكريمة {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ)
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 80
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
صفر 1444ه / سبتمبر 2022م
1. {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ}:
أي: اعتزل قومه ومظاهرهم وشركهم وكفرهم(1)، فالفاء في الآية {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ} تطوي وراءها زمناً، وقد أعلن إبراهيم - عليه السّلام – في الآيات السابقة عن عزمه الاعتزال، وفي قوله {فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ} إخبار بوقوع الاعتزال وإنباء عن هجرة الخليل إبراهيم - عليه السلام -، وهكذا طوت الفاء هذا الزمن "زمن الهجرة" للإشعار بسرعة تنفيذ ما عزم عليه، حتى بدت هجرته أرض الكفر، وكأنها وقعت بعد عزمه اعتزال أبيه وقومه مباشرة وكرّر ذكر الاعتزال بعد الفاء؛ لتحقيق الترابط والتلاحم بين مشاهد القصة وأحداثها، فتبدو حلقاتها شديدة الترابط والاتساق رغم اختلاف أزمنة وأمكنة حدوثها(2).
2. {وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ}:
ترتبت هبة إسحاق ويعقوب - عليهما السلام - على اعتزال إبراهيم الخليل؛ لبيان عظم المكافأة التي أعطاها الله تعالى له بمقابلة من اعتزلهم من الأهل والأقارب، وجاء نظم تلك الهبة الجليلة على صورة الشرط وجوابه؛ للإشعار بتحقيق مكافأة الله له بعد تحقيق الشرط وهو الاعتزال، وهذا لا يمنع من وجود مدة زمنية فاصلة بين الاعتزال والهبة المذكورة، فالمشهور أنه - عليه السّلام - رُزق بإسماعيل أولاً ثم رُزق بإسحاق بعد ذلك بمدة طويلة(3).
وعرف إسحاق - عليه السّلام – بالصلاح، واختصَّه الله بالبركة، ومنَّ عليه بالذرية التي منها الصالح والطلح وامتدحه الله تعالى بقوله: {وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)} ]الصافات:112-113[.
ووصفه رسول الله صلّى الله عليه وسلّم بالكريم، وفي الحديث الذي رواه أبو هريرة عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، قال: قيل للنبي صلّى الله عليه وسلّم: من أكرم الناس؟ قال: أكرمهم أتقاهم، قالوا: يا نبي الله ليس عن هذا نسألك، قال: فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله، قالوا: ليس عن هذا نسألك، قال: أفعن معادن العرب تسألونني؟، قالوا: نعم، قال: فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا (4).
فالكريم ابن الكريم: يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السّلام، كما أن الله سبحانه وتعالى وصفه بأنه قدوة يُقتدى به في الأعمال الصالحة، ويقيم الصلاة ويؤتي الزكاة، وكان عبد لله، وهذا هو معين التوحيد الصافي، أن يكون الإنسان عبد الله(5).
قال تعالى: {وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73)} ]الأنبياء:72-73[، ويعقوب هو ابن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السّلام - وهو المسمى إسرائيل، وقد بشر الله تعالى به جده إبراهيم الخليل حينما جاءه رسل الله ليخبروه خبر قوم لوط، كما سيأتي تفصيل ذلك بإذن الله تعالى.
ويُحسب يعقوب ولداً لإبراهيم - عليه السّلام - لأنه ولد في حياة جدّه، فنشأ في بيته وحجره، وكان كأنه ولده المباشر وتعلم ديانته ولقنها بنيه وكان نبياً كأبيه، وهنا دلالة على أن إبراهيم - عليه السّلام - عاش مدة طويلة من الزمان بعد اعتزال قومه حتى أدرك حفيده يعقوب - عليه السّلام -(.
لقد وهب الله عزّ وجل إبراهيم - عليه السّلام - إسحاق ويعقوب - عليهما السلام - وهباً دون مقابل ورحمةً منه تعالى؛ لأنه هو الوهاب الذي يعطي الهبة بلا عوض ولا مقابل ولا منٍّ ويعطي ما يشاء لمن يشاء، وهبات الله ونعمه وعطاياه من الكثرة لا يدونها قلم ولا يحصيها حساب، قال تعالى: {وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ} ]النحل:18[، فالهبة من الوهاب سبحانه وتعالى، وهو الذي يكثر العطاء بلا عوض ويهب ما يشاء لمن يشاء بلا غرض، ويعطي الحاجة بغير سؤال، فقد وهب سبحانه إسحاق ويعقوب لإبراهيم - عليهما السلام - تفضلاً وكرماً وجوداً وأثراً من أثر اسمه الوهاب(9).
إنَّ الله الوهاب سبحانه يهب شفاءً لسقيم، وولداً لعقيم، وهدى لضال، وعافية لذي بلاء، وسع الخلق جوده ودامت مواهبه واتصلت منَنُه وعوائده(10).
قال ابن القيم في قصيدته النونية الكافية الشافية:
وَكَذَلِكَ الْوَهَّابُ مِنْ أَسْمَائِهِ
فَانْظُرْ مَوَاهِبَهُ مَدَى الْأَزْمَانِ أَطفَا
أَهْلُ السَّمَاوَاتِ الْعُلَى وَالْأَرْضِ عَنْ
تِلْكَ الْمَوَاهِبِ لَيْسَ يَنْفَكَّانِ
والتعبير بالهبة في قوله تعالى: {وَهَبْنَا لَهُ}: إشارة إلى أنّها عطاء خالص من الله تعالى، وإضافة الهبة إلى ضمير العظمة "نا" يدلُّ على كمالها(12).
وهنا نسأل عن السرِّ في تخصيص إسحاق ويعقوب - عليهما السّلام - بالذكر على الرغم من أن إبراهيم - عليه السّلام - رُزق بولده إسماعيل - عليه السّلام - قبلهما(13)؟ والجواب على هذا السؤال يكون من وجوه عدة:
أوّلها: لأن إبراهيم - عليه السّلام - لمّا اعتزل قومه خرج بزوجه سارة، وهي قد اعتزلت قومها أيضاً؛ إرضاءً لربّها ولزوجها، فذكر الله الموهبة الشاملة لإبراهيم وزوجه، ولأن هذه الموهبة لما كانت كفاءً لإبراهيم على مفارقته أباه وقومه، كانت موهبة من يعاشر إبراهيم ويؤنسه وهما إسحاق ويعقوب، وقد كان إسماعيل بعيداً عنه(14).
ثانيها: أنه سبحانه وتعالى خصّ إسماعيل - عليه السّلام - بالذكر منفرداً ليكون تنبيهاً على عظم شأنه وعلو قدره عند ربه، وهذا نقرأه في قوله سبحانه في السورة نفسها: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)} ]مريم:54-55[.
وثالثها: أنّ إسحاق ويعقوب - عليهما السّلام - شجرتا الأنبياء، حيث جعل من أولادهما وذريتهما أنبياء كثيرين وأحفاداً أولي شأن عظيم، وإسماعيل - عليه السّلام - لم يخرج من صلبه إلا محمداً صلّى الله عليه وسلّم(15).
ورابعها: خصَّ يعقوب وإسحاق بالذكر للزومهما محل إقامة إبراهيم، وقيامهما بخلافته فيه، وأما إسماعيل فكان الله سبحانه هو المتولي لتربيته بعد نقله رضيعاً إلى المسجد الحرام، لذا أُخّر في الذكر، وجُعل أصلاً في إجراء الكلام عليه(16) والله أعلم.
وخامسها: لأن إسحاق - عليه السّلام – ولد من سارة وكانت عجوزاً عقيماً، وإسماعيل ولد من أمه، فكانت المنّة في هبة إسحاق أظهر.(17)
وهذه الوجوه جميعها راجعة إلى اجتهاد المفسرين، وهي مسألة لا يترتب عليها شيء، وأيّاً كان السبب فلا ضير، وكلها محتملة والله أعلم بمراده.(18)
مراجع الحلقة الثمانون:
(1) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (5/181).
(2) خصائص النظم القرآني في قصة إبراهيم عليه السلام، د. الشحات محمد أبو ستيت، ص48.
(3) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص209.
(4) صحيح البخاري، رقم (3373).
(5) أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ، د. جمال عبد الهادي و د. وفاء محمد رفعت، دار الوفاء للطباعة والنشر، مصر، 2005م، ص88.
(6) أخطاء يجب أن تصحح في التاريخ، د. جمال عبد الهادي و د. وفاء محمد رفعت، ص89.
(7) في ظلال القرآن، سيد قطب، (4/2312).
(8) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص210.
(9) صفات الأنبياء من قصص القرآن "إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ولوط"، عقيل حسين عقيل، سما للنشر والتوزيع، القاهرة، مصر، 2011م، ص232.
(10) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، دار طيبة، الرياض، ط3، 1430ه، 2009م، ص684.
(1 ) المرجع نفسه، ص684.
(12) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص210.
(13) المرجع نفسه، ص210.
(14) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر بن عاشور، (16/124).
(15) القصص القرآني بين الآباء والأبناء، عماد زهير حافظ، ص71.
(16) تأملات في سورة مريم، عادل أحمد صابر الرويني، ص210.
(17) القصص القرآني بين الآباء والأبناء، عماد زهير حافظ، ص71.
(18) المرجع نفسه، ص71.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي