تأملات في الآية الكريمة: {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 110
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1444ه / أكتوبر 2022م
الله وحده سبحانه وتعالى متفرد بالخلق وبالهداية، وبالرزق وبالشفاء وبالإحياء وبالإماتة، وبالمغفرة يوم القيامة، إذاً فهل هناك أشياء أخطر من هذه الأشياء في حياتك؟ وهل هناك أخطر من أن تُخلق، وأن تُهدى، وأن تُرزق، وأن تُشفى، وأن يحيا الإنسان وأن يموت، وأن تُغفر له ذنوبه؟ إذا أيقنت أن الله عزّ وجل متفرد بهذه الأفعال الخطيرة في حياتك كان من باب أولى أن تفرده بالطاعة والعبادة والحبّ والإخلاص(1).
وإنك أنت تقول مثلاً: فلان أحضر طعاماً، وهذا كلام لا ينفي أن يكون غيره أحضر طعاماً، ولكن إذا قلت الذي أحضر الطعام هو فلان، فهذه صيغة قصر، وسيدنا إبراهيم - عليه السّلام - ما قال: الذي هو خلقني؛ لأنه لا أحد يدّعي أنه خلق الإنسان أحد غير الله، ولكن عتاة الأرض وطغاتها يدّعون أنهم يدلّون الناس إلى الطريق الصحيح،كفرعون حينما قال: {مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ} ]غافر:29[، فالخلق لم يدّعه أحد؛ لأنه شيء مقطوع به، فلم يؤكده بــــ "هو"، لكن الشيء المتنازع عليه والذي يمكن أن يدّعيه شخص ما؛ أكده بــــ "هو" فقوله: {فَهُوَ يَهْدِينِ} معناه: الذي خلقني هو وحده يهديني وهذه العبارة فيها قصر وحصر، ويؤكد أن الهدى من الله وحده، قال تعالى: {قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى} ]الأنعام:71[ أي: أن الهداية لا تكون إلا من الله.
وكل إنسان عنده مقياس، وعنده منهج، وعنده دستور، وإن الله هو الصانع الخبير، الخالق العظيم، فهذا الكون خلقه، وهذا القرآن كلامه، وكلامه مطابق لخلقه، وأنت مثل آلة معقدة ليس في الأرض كلها جهة واحدة مؤهلة؛ لأن تعطيك تعليمات التشغيل والصيانة إلا الجهة الصانعة، فهذه التعليمات لهذه الآلة والذي صنعها أصدر تلك التعليمات؛ لتضمن سلامة الآلة أداء مردودها على أحسن وجه، فإما تكون مهتدياً من قبل الخالق وإلا فأنت في ضلال مبين قولاً واحداً، وإما أن تهتدي بالهدى الذي أنزله الله على أنبيائه، وإلا فأنت ضال.
ولو قرأت مذهباً وضعياً، أو قرأت كتاباً لفيلسوف كبير، أو اطّلعت على نظرية من صنع البشر، لرأيت أن هذا كله ضلال؛ لأنّ الذي خلقك هو وحده الذي يهديك، فالفكر الذي ينكر وجود الخالق ضلال، وقولهم: الإنسان أصله قرد؛ هذا ضلال، قولهم المادة هي كل شيء في حياة الإنسان المادي؛ هذا ضلال، وقولهم: الجنس هو كل شيء في حياة الإنسان؛ هذا ضلال، وقولهم: اللذة هي كل شيء في حياة الإنسان الشاذ؛ هذا ضلال.
وثمة كتاب في علم النفس يقول: إنَّ الشاب حين يكون في حياته الاجتماعية مع شابة، تتهذب مشاعره وترقُّ عواطفه، ويحسن كلامه، طبعاً علاقة محرمة لا علاقة لها بالزوج ولا بعقد النكاح الصحيح، وإنما تفريغ للشهوات بالباطل لا بالحق، وبالحرام لا بالحلال، هذا كله ضلال؛ لأنه خلاف تعاليم القرآن الكريم، فإن جاء كتاب ما بالدليل من القرآن فهو حق، وأما إن جاء كتاب ببحث علمي يدّعي أن قليلاً من الخمر ينعش القلب، فهذا كلام فارغ؛ لأنّه خلاف القرآن الكريم، وقولهم: النبيذ يبعث في الجسم الحرارة، فهو ضروري في الشتاء هذا كلام فارغ؛ لأنه خلاف القرآن فما أسكر كثيره فملء الكف منه حرام(2).
إنَّ الخالق هو الهادي سبحانه وتعالى والهداية وأنواعها ووسائلها في كتابه العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وهذه الكلمة {الَّذِي خَلَقَنِي}، هي الإجابة الشافية والوافية على السؤال التقليدي الذي يتردد على ألسنة الناس من خلقني؟ قال تعالى: {ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ} ]الأنفال:102[، ثم عرّج إبراهيم - عليه السّلام - {فَهُوَ يَهْدِينِ} لقد اتبع إبراهيم الهداية بعد الخلق ولم تبدأ بالإطعام والسقاية؛ لأن المخلوق يحتاج إلى الهداية أكثر من حاجته إلى الطعام والشراب، فهو من غير هداية إيمانية تصلح له علاقته مع ربّه كسراب أو هراء، والمخلوق بفطرته يحتاج إلى هداية لتستقيم أموره، والمقصود هنا الهداية الإيمانية العامة أولاً، وهي هداية الفطرة التي تخبرك بوجود إله يستحق أن يُعبد(3).
إنَّ هداية التوفيق الرباني في ملّة إبراهيم الخليل - عليه السّلام - منحة ربانية يمنحها رب العباد لمن يشاء من عباده، ولا دخل لمخلوق في ذلك الاختبار، إنما هو اختيار الخالق، قال تعالى: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} ]القصص:56[، فالسّياق القرآني واضح الدلالة في هذه الآية، فالله يخاطب أحب الخلق إليه وخير خلقه محمد صلّى الله عليه وسلّم ليقول له: {إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} فهداية الناس لا تتعلق بحبّنا أو قربنا منهم، إنما هي إرادة الله تعالى، وهذا اعتقاد لازم لكل متبع ملّة إبراهيم - عليه السّلام -(4).
ومن أنواع الهداية هداية العيش، فالله يهدي المخلوقات إلى طرق المعيشة المختلفة من البقاء، فالله يهديهم إلى أساليب الأكل والشرب، والصيد، والتكاثر، والحفاظ على النوع، والدفاع عن النفس، وكل شيء من هذا القبيل، قال تعالى: {قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى} ]طه:50[، وقد جاءت الهداية بلفظ المضارع {يَهْدِينِ}؛ لأن الهداية تتكرّر وتتجدد كل حين وأوان، ومنها هداية الله للعبد إلى مصالح الدين والدنيا بضروب الهدايات في كل لحظة ولمحة، وإطلاق الهداية عن القيد؛ لإفادة العموم والشمول لكل ضروب الهدايات أنه "سبحانه" يهدي كل ما خلقه لما خُلق له هداية مستمرة متدرجة من مبتدأ إيجاد إلى منتهى أجله(5).
وفي قوله تعالى {الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ} ربط بين انفراد الله سبحانه بالخلق وانفراده سبحانه بالهداية، وهو عين العقل والحكمة، فالخالق المتحكم في سرّ الخلق العليم بما وضع في مخلوقاته أولى من سواه أن يحدد السبيل لهذا المخلوق وأن يهديه سواء السبيل، قال تعالى: {الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3)} ]الأعلى:2-3[.
الحلقة العاشرة بعد المائة:
(1) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (8/366).
(2) تفسير النابلسي "تدبر آيات الله في النفس والكون والحياة"، (8/368).
(3) ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص41.
(4) ملة أبيكم إبراهيم، عبد الستار كريم المرسومي، ص42.
(5) الحوار في قصة الخليل عليه السلام في القرآن دروس وعبر، محمود سعد عبد الحميد شمس، ص364.
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي