الدأب عند الأئمة الأربعة
الشيخ سلمان العودة
الحلقة التاسعة عشر
ذو القعدة 1443ه/ يونيو 2022م
يتميَّز هؤلاء الأئمة باستثمار وقت الشباب في التعلُّم والطلب، والرِّحلة إذا اقتضى الأمر، ويتَّضح من سيرتهم أن البُكور في طلب المعرفة، حين تكون الذاكرة حيَّة، والنفس خَلِيَّة من التَّبِعات والمسؤوليات، والهمة عالية، كان شأنًا مشتركًا.
* تجده عند أبي حنيفة في استجابته لنصيحة الشَّعْبي، حيث تفرَّغ للفقه واختلف إلى الشيوخ.
* وفي مالك الذي تأهَّل للفتيا قبل بلوغه الثامنة عشرة، وجلس للتدريس وعمره إحدى وعشرون سنة.
* وفي الشافعي الذي حفظ القرآن وهو ابن سبع، وحفظ «الموطأ» وهو ابن عشر.
* وفي أحمد الذي طلب الحديث وهو ابن خمس عشرة أو ست عشرة، ومن الطريف أنها السنة التي مات فيها مالك رحمه الله.
فالحبل موصول، والعناية الإلهية تحفظ الأمة والشريعة بمَن يضع الله في قلوبهم حب العلم والرغبة في نشره، وتحمُّل العنت في سبيله.
مع هذا البكور كبكور الطير في صباحاتها، كان أحمد يمضي ومعه القلم والكتاب، فيقال: إلى متى؟ فيقول: «مع المَحْبَرَةِ إلى المَقْبرة».
وكان الشافعي يقول:
وباكيةٍ للبَيْنِ قلتُ لها: اقْصِري *** فللَمْوتُ أَحْلَى من معالجة الفقرِ
سأنفِقُ رَيْعانَ الشَّبيبة كلِّها *** على طلبِ العلياءِ أو طلب الأجرِ
سأطلبُ عِلمًا أو أموتُ بِبلدةٍ *** يقِلُّ بِها هطلُ الدُّموعِ على قبرِي
وليسَ اكتِسابُ العِلمِ يا نفسُ فاعلمِي *** بِمِيراثِ آباءٍ كِرامٍ ولا صِهرِ
ولكِنْ فتى الفتيانِ مَن راحَ واغتدى *** لِيطلبَ عِلمًا بِالتَّجلُّدِ والصَّبرِ
فإِن نالَ عِلمًا عاشَ فِي النَّاسِ ماجِدًا *** وإِن ماتَ قالَ النَّاسُ بالغَ في العذرِ
إذا هجعَ النُّوامُ أسبلت عبرتِي *** وأنشدت بيتًا وهو مِن ألطفِ الشِّعرِ
أليسَ مِن الخسرانِ أنَّ ليالِيًا *** تمرُّ بِلا عِلمٍ وتحسبُ مِن عُمرِي
وظل أبو حنيفة في البحث والمذاكرة والتدريس حتى مات.
وفوق هذا كانت مراجعة الاجتهاد وديمومة التصويب شأنًا جوهريًّا عند جميعهم، فليس العلم والفقه مرحلة دراسية تنتهي بشهادة، ولا فترة عمرية تنتهي بذكريات جميلة أو طريفة، بل هو الحياة كلها، كما ذكر أحمد.
هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 46-45
يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي: