مشهد الصراع الإسلامي الصليبي قبل عماد الدين زنكي
بقلم: د. علي محمد الصلابي
شهد العالم الإسلامي قبيل بروز عماد الدين زنكي حالة من التراجع والتفكك السياسي والعسكري، نتيجة الانقسامات الداخلية وتقاسم السلطة بين الإمارات والدويلات المتنافسة. في حين كانت الممالك والإمارات الصليبية تمثل تهديدًا متصاعدًا استغل هذا الضعف لتحقيق مكاسب استراتيجية على حساب المسلمين، وفي خضم هذا المشهد المضطرب، بدأ ظهور عدة قادة حاولوا استعادة زمام المبادرة، وإحياء إرادة الجهاد ضد الصليبيين الغزاة، وكان من أبرزهم عماد الدين زنكي، الذي مهد لتغير كبير في مسار الصراع.
وقبل دخول زنكي إلى مسرح الأحداث كان المسلمون في الشام متفرقين، فتكاد كل مدينة أن تكون دولة مستقلة، وأقام الصليبيون في شمال سورية تسعة شهور بعد فتح أنطاكية قبل مسيرهم إلى بيت المقدس، واستفادوا من هذه الفترة بالإغارة على المناطق الشمالية في سورية ، وأقاموا النفوذ الصليبي محل النفوذ الإسلامي دون أن يحتكوا بالبيزنطيين، فأقاموا بذلك سداً في وجه القوات الإسلامية والبيزنطية على السواء إذا فكرت في مهاجمة أنطاكية، أو غيرها من الإمارات الصليبية في المستقبل، كما جعلت الترابط بين الإمارات اللاتينية متيسراً لتستطيع إحداها أن تنجد الأخرى على جناح السرعة إذا جد الجد، وتعقدت الأمور.
وتقدم الصليبيون نحو الجنوب، فأسـسوا مملكة بيت المقدس مستغلين ضعف الدولة الفاطمية ودمشق عن حماية المنطقة والمدن الساحلية ، وبإنشاء إمارة طرابلس حدث توازن بين الصليبيين والمسلمين ، فأنطاكية تواجه حلب ، وطرابلس تواجه مدن وادي العاصي ، والرُّها تقع بين حلب والدولة الإسلامية في الشرق والغرب ، والقدس تقع بين دمشق ومصر ، ونقطة التوازن والسؤال المطروح: هل تنضم حلب إلى دمشق ، أو للموصل ، أو إلى الصليبيين (1).
لقد كانت بلاد الفرنجة تقتصر على سواحل سورية ، وفلسطين وتعتمد على البحر لضمان التموين من الخارج وعلى سلسلة من القلاع الضخمة المبتدئة من ذغيرة في الطرف الجنوبي لبحيرة طبرية ، ثم كرك ، وبيت جبريل ، والدروم. وكان خلف هذا الخط الأول توجد القلاع الممتدة من شقيق أرنون إلى صفد والقسطل ، وفي الشمال حصون عكا، والكرك، وبارين، ومن ورائها جميعاً المدن الساحلية الكبيرة: أنطاكية، وطرابلس، وعكا، وصور، والمرقب، وبيروت، ويافا، وعسقلان، وهي أطراف القوى الصليبية من ناحية البحر. ويقابلها من ناحية البر: مرجعيون، وجسر يعقوب، وبيسان، وطبريا، وامتازت هذه الحدود الصليبية: أنَّ قلاعها جمعت بين خصائص العمارة الحربية الغربية والشرقية ، من حيث ازدواج الأسوار، وتعدد الأبراج ذات الطابقين ، وكلِّ مستلزمات الحامية من ذخيرة، وتموين، ووسائل دينية وصحية (2).
وأما خصائص الصليبيين الاستراتيجية فامتازت باتساع رقعتها وطول خطوط مواصلاتها المتصلة شرقاً وغرباً بقواعد امنة للتموين في سرعة ، ففي الشمال حلب وحماة ، وإلى الشرق الموصل وقلاع الجزيرة ، ولكنها مدن حصينة ، وفي الغرب مصر وما وراءها من بلاد المغرب العربي والنوبة واليمن (3).
وبدأ المسلمون في مقاومة الصليبيين مُنذ اللحظات الأولى لقدومهم لكن كانت الكفة الراجحة للصليبيين ، فطمعوا في حلب ودمشق ، وفرضوا عليها الآتاوات ، ويصف الحال ابن الأثير (4) فيقول: لما ملك المولى الشهيد البلاد كانت الفرنج قد اتسعت بلادهم ، وكثرت أجنادهم ، وعظمت هيبتهم ، وامتدت إلى بلاد الشام أيديهم ، وضعف أهلها عن غارتهم. وكانت مملكة الفرنج حينئذ قد امتدت من ناحية ماردين وسجستان إلى عريش مصر ، لم يتخلله من ولاية المسلمين غير حلب وحمص وحماة ودمشق. وكانت سراياهم تبلغ من ديار بكر إلى امد ومن الجزيرة إلى نصيبين ورأس العين، وأما الرقة وحران فقد كان أهلها معهم في ذل وصغار، وانقطعت الطرق إلى دمشق إلا على الرحبة والبر ، فكان التجار والمسافرون يلقون من المخاوف وركوب المفازة تعباً ومشقة ويخاطرون بالقرب من القبائل العربية بأموالهم وأنفسهم ، ثم زاد الأمر وعظم الشر حتى جعلوا على كل بلد جاورهم خراجاً يأخذونه منهم ليكفوا أيديهم عنهم ، ثم لم يقتنعوا بذلك حتى أرسلوا إلى مدينة دمشق واستعرضوا الرقيق ممن أخذ من الروم والأرمن وسائر البلاد النصارنية ، وخيَّروهم المقام عند أربابهم، أو العودة إلى أوطانهم، والرجوع إلى أهلهم وإخوانهم، وناهيك بهذه الحالة للمسلمين ذلة وصغاراً، وللكافرين قدرةً واقتساراً... وأما حلب؛ فإنهم ناصفوها أعمالها حتى الرُّها على باب الجنان وبينها وبين المدينة عشرون خطوة ، وأما باقي بلاد الشام فكانت حالها أشدَّ من هذين البلدين (5).
المصادر والمراجع:
() الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، شاكر أحمد أبو بدر، ص 112.
(2) المصدر نفسه ص 112.
(3) صلاح الدين اليوبي، قدري قلعجي، ص 310.
(4) الحروب الصليبية والأسرة الزنكية، شاكر أحمد أبو بدر، ص 113.
(5) المصدر نفسه ص 114.
(6) الدولة الزنكية، علي محمد الصلابي، ط1، دار المعرفة، بيروت، 2007، ص 113-115.
#فلسطين