الأحد

1446-12-19

|

2025-6-15

(حرص الإمام مالك على التعلم)

اقتباسات من كتاب "مع الأئمة" لمؤلفه الشيخ الدكتور سلمان بن فهد العودة (فرج الله عنه)

الحلقة:الرابعة و الأربعون

ذو الحجة 1443ه/ يوليو 2022م

لم يكن العلم إجباريًّا كما هو اليوم، وما كل الشباب في العصور المتقدِّمة كانوا في مجالس العلم الشرعي؛ وإنما وُجد مَن تقوم بهم الكفاية ويتحقَّق بهم الأمر الربَّاني: (وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ) [التوبة:122].

بدأ الإمام مالك الإقبال على العلم في شبابه المبكِّر، وانقطع إلى شيخه ابن هُرْمُز عبد الله بن يزيد بن الأَصَم سبع أو ثماني سنين، لم يخلطه بغيره، وكان يقول: «كنت أجعل في كمي تمرًا وأناوله صبيانه وأقول لهم: إن سألكم أحد عن الشيخ فقولوا: مشغول».

وقد بلغ من حرصه على الانتفاع بعلم أستاذه أن يطيل الوقوف ببابه، وقد اتخذ تُبَّانًا محشوًّا للجلوس على بابه؛ يتقي به بَرْدَ حجرٍ هناك، ويحس ابن هُرْمُز أن أحدًا بالباب، ربما لحركة يقوم بها مالك، فيسمعها مِن داخل الدار، فيقول لجاريته: مَن بالباب؟ فتتَّجه إلى الباب لترى مَن هناك، ثم ترجع فتقول لسيدها: ما ثَمَّ إِلَّا ذاك الأشقر. فيقول لها: ادعيه؛ فذلك عالم الناس. فكان يأتي ابنَ هُرْمُز من بكرة، فما يخرج من بيته حتى الليل.

قال مالك: «إن كان الرجل ليختلف للرجل ثلاثين سنة يتعلَّم منه». فكنا نظن أنه يريد نفسه مع ابن هُرْمُز، وكان ابن هُرْمُز استحلفه أن لا يذكر اسمه في حديث.

ويتمثَّل أيضًا مبلغ حرص مالك على تحصيل العلم اختلافه إلى نافع مولى عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، وكان يقود نافعًا من منزله إلى المسجد، وكان قد كُفَّ بصره، فيسأله فيحدِّثه، وكان منزل نافع بناحية البقيع، وكان يعمد إلى الحيلة لكي يلتقي به، متجشِّمًا في ذلك الوقوف في الشمس لفترات طويلة، لا يقيه من حر شعاعها شيء، حتى إذا ظهر نافع تابعه مالك، ثم يتحيَّن الفرصة لسؤاله والأخذ عنه.

يقص مالك الخبر على هذا النحو: «كنتُ آتي نافعًا نصف النهار، وما تظلني الشجرة من الشمس، أتحين خروجه، فإذا خرج أدعه ساعة كأني لم أُرِدْهُ، ثم أتعرَّض له، فأسلِّم عليه، وأدعه حتى إذا دخل البلاط، أقول له: كيف قال ابن عمر في كذا وكذا؟ فيجيبني، ثم أخنس عنه، وكان فيه حِدَّة».

ومن أخبار تفرُّغ مالك رحمه الله للعلم وانقطاعه لتحصيله، أنه لم يكن يعرف لنفسه يوم راحة، متى ما كان اقتناص العلم مواتيًا، حتى لو كان اليوم يوم عيد، بل إنه ينتظر العيد لعلمه أن أحدًا لا يزاحمه في ذلك اليوم، ويذهب إلى بيت ابن شهاب الزُّهْري بعد أن عاد هذا الإمام إلى المدينة من الشام.

يقص مالك خبر الدرس يومَ العيدِ هذا فيقول: «شهدتُ العيدَ، فقلتُ: هذا اليوم يخلو فيه ابن شِهاب، فانصرفتُ من المصلَّى حتى جلستُ على بابه، فسمعتُه يقول لجاريته: انظري مَن على الباب. فنظرت، فسمعتُها تقول: مولاك الأشقر مالك. قال: أدخليه. فدخلتُ، فقال: ما أراك انصرفتَ بعدُ إلى منزلك؟ قلتُ: لا. قال: هل أكلتَ شيئًا؟ قلتُ: لا. قال: فاطعم. قلتُ: لا حاجة لي فيه. قال: فما تريد؟ قلتُ: تحدِّثني. قال لي: هات. فأخرجتُ ألواحي، فحدَّثني بأربعين حديثًا. فقلتُ: زدني. قال: حسبك إن كنتَ رويت هذه الأحاديث، فأنت من الحفاظ. قلتُ: قد رويتها. فجبذ الألواح من يدي، ثم قال: حدِّث. فحدَّثته بها، فردَّها إليَّ، وقال: قم، فأنت من أوعية العلم».

كان مالكٌ يتابع المواظبة على الفقهاء والمحدِّثين في نشاط وإقبال، بل في متعة ورضى، يساعده ذكاؤه المُفْرِط، ويشد من أزره كثرة الفقهاء وتسامحهم إلى المدى الذي يستقبلون فيه التلاميذ ويفيضون عليهم عطفًا وعلمًا في أيام العيد، إنهم أساتذة المدينة الذين تأدَّبوا في بيئة هذَّبها الرسول صلى الله عليه وسلم، وترك فيها من مكارم الأخلاق ذخيرة لا تنفد، يقتفي الناس أثرها، ويسيرون على هداها.

هذه الحلقة مقتبسة من كتاب مع الأئمة للشيخ سلمان العودة، صص 89-88

يمكنكم تحميل كتاب مع الأئمة من الموقع الرسمي للدكتور علي محمد الصلابي عبر الرابط التالي:

https://www.alsallabi.com/uploads/books/16527989340.pdf


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022