الجمعة

1446-12-10

|

2025-6-6

تاسعاً: آثار دعوة المسلمين للنصارى في عصر الحروب الصليبية:

 

 

1- دخول أعداد كبيرة من النصارى في الإسلام: فمن ذلك مثلاً على مستوى القادة والعلماء النصارى إسلام أحد ملوكهم في شرق الدولة الإسلامية على يد الشيخ مختار بن محمود الزاهدي (625)، وإسلام كاتب الديوان في بغداد واسمه جبرائيل بن منصور (626) ويحيى بن عيسى بن جزلة الطبيب البغدادي المتوفّى سنة 493هـ (627)، وكاتب الإنشاء للملك العادل ويُقال له: ابن النحال وقد أسلم على يديه في حلب (628)، وشيخ نصراني ذو أتباع أسلم على يد أبي شامة المقدسي سنة 661 هـ (629) ومن مقدمي الصليبيين الذين اعتنقوا الإسلام عدد من فرسانهم انضموا إلى جيش صلاح الدين معلنين اعتناقهم الدين الإسلامي (630)، وفارس صليبي يُدعى روبرت (أوف سانت ألبانس) أحد مقدمي فرسان المعبد أسلم سنة 1185م/580هـ وتزوج بإحدى حفيدات صلاح الدين (631)، بل إن ابني أخت الملك الإنجليزي ريتشارد قلب الأسد هربا من معسكر الفرنج، والتحقا بجيش صلاح الدين معلنين اعتناقهم الإسلام، وذلك سنة 587هـ .. حيث أكرمهما، وفارس صليبي مشهور يُدعى (رانيود) أسلم وانضم بفرقته العسكرية إلى المسلمين (632)، وكان سفير سلطان مصر إلى الملك الصليبي (لويس إفرنجيا) اعتنق الإسلام وصار ذا مكانة عند السلطان (633) وأما اعتناق رجال الدين النصارى للإسلام فإن هناك إشارات تدل على كثرتهم في هذه الفترة، فمن ذلك مثلاً: إسلام الراهب عبد الله الأرمني على يد الشيخ عبد الله اليونيني المتوفّى سنة 617هـ، وكان زاهداً ورعاً فيه تصوّف(634)، وقد أسلم أيضاً على يد عبد الله الأرمني راهب آخر كان معتزلاً في صومعة له(635) وإسلام أحد علماء النصارى على يد الشيخ مختار بن محمود الزاهدي في خوارزم (636)، وإسلام عبد الواحد الصوفي ت 639 هـ، والذي كان قسًّا في كنيسة مريم بدمشق نحواً من سبعين سنة (637)، وكذلك إسلام (دانيال) أسقف خابور في منتصف القرن الثالث عشر الميلادي (638) وقد أشار (توماس أرنولد) نقلاً عن بعض المصادر اللاتينية إلى خلو كثير من الأسقفيات القبطية في بداية القرن الثالث عشر الميلادي في مصر من الأساقفة، فمثلاً: في دير القديس مكاريوس وحده لم يبق غير أربعة من القسس بعد أن كان عددهم تجاوز الثمانين في عهد البطريق السابق (639)، بل إن أحد رجال الدين الصليبيين المبشرين الفرنسيسكان الذي أرسل إلى إفريقية لهذه المهمة عاد مسلماً(640)، وقد ذكر توماس آرنولد نقلاً عن بعض المصادر الغربية كثرة اعتناق القساوسة الصليبيين الإسلامَ في هذه الفترة (641)، أما اعتناق الإسلام من قبل عامة النصارى فإنه لا خلاف أن العراق وبلاد الشام ومصر وشمال إفريقية والأندلس وغيرها من البلاد كانت الديانة الغالبة فيها قبل ظهور الإسلام هي النصرانية، ومع انتشار الإسلام دخل الناس فيه من أهل هذه البلاد أفواجاً حتى أصبح الإسلام دين الغالبية، وأصحاب الديانات الأخرى أقلية بالنسبة له(642) وفي عصر الحروب الصليبية كانت هناك تحوّلات كبيرة من هذه الأقلية النسبية خاصة من النصارى إلى الإسلام، و يدل على ذلك الإشارات المتناشرة في المصادر والمراجع المختلفة، فمن ذلك مثلاً قول سبط بن الجوزي: .. سمعت جدي على المنبر يقول: بإصبعي هاتين كتب ألفي مجلدة، وتاب على يدي مائة ألف، وأسلم على يدي عشرون (643)ألفاً. وأسلم على يدي نحو مائتين من أهل الكتاب (644). وفي عهد صلاح الدين الأيوبي رحمه الله – ولحسـن معاملته لأقباط مصر تحوّل أعداد كبيرة منهم إلى الإسلام، كما ذكر ذلك أحد مؤرخيهم (645). وقد قال (توماس آرنولد) عن كثرة اعتناق القبط للدين الإسلامي: ولكثرة عدد القبط الذين كانوا يعتنقون الإسلام من حين إلى حين أخذ أتباع النبيّ يعتبرونهم أشد ميلاً لقبول الدين الإسلامي من أية طائفة أخرى (646)، وبيّن أنه حتى القرن التاسع عشر الميلادي لم تخل سنة من السنوات لم يتحول فيها القبط إلى الإسلام (647). أما إسلام العامة من النصارى الصليبيين فكان كثيراً جداً في هذه الفترة، ومن الأمثلة على ذلك ما ذكره (توماس آرنولد) نقلاً عن بعض المصادر الغربية أنه في الحملة الصليبية الأولى انفصلت جماعة كبيرة من الألمان وغيرهم من الطائفة الرئيسة لتنضم إلى الجيش السلجوقي المسلم معتنقة الإسلام(648)، وفي الحملة الصليبية الثانية انضمت فرقة كبيرة من الجيش الصليبي قوامها أربعة آلاف مقاتل تقريباً إلى جيش المسلمين، وذلك بعد فشل هذه الحملة، ولحسن المعاملة التي قوبلت بها هذه الفرقة اعتنق عدد كبير من أفرادها الإسلام بمحض إرادتهم وذلك سنة 542هـ - 1148م (649) وكذلك كانت أخلاق صلاح الدين – رحمه الله تعالى – وحسن معاملته للنصارى الصليبيين دافعاً لأعداد كبيرة منهم إلى اعتناق الإسلام، كما حدث بعد معركة حطين(650)، بشكل خاص وقد قال أحد الكتاب الغربيين عن ذلك:.. حتى إن نفراً من الفرسان المسيحيين بلغ من قوة انجذابهم إليه أن هجروا ديانتهم المسيحية(651) ونقل (توماس آرنولد) عن بعض المصادر الغربية أنه في الحملة الصليبية الثالثة انضمت أعداد كبيرة من الجيش الصليبي إلى المسلمين؛ إذ اعتنق البعض منهم الإسلام، وقد ساق (توماس) شهادة مؤرخ غربي على ذلك رافق هذه الحملة، فقال هذا المؤرخ: وفريق من رجالنا .. تراهم يهجرون بني جلدتهم ويفرون إلى الأتراك، فلم يتردّدوا أن يصبحوا في زمرة المرتدين، ولكي يطيلوا أعمارهم الموقوته زمناً قصيراً اشتروا موتاً أبدياً بهذا الكفر المفزع(652).

 

      وقد أشار (توماس) نفسه إلى كثرة تحوّل الصليبيين إلى الإسلام في فترة الحروب الصليبية فقال: ولكن بانتهاء القرن الحادي عشر الميلادي انضم إلى أهالي الشام وفلسطين من المسيحيين عنصر جديد يتألف من هذه الجموع الهائلة من الصليبيين الذين كانوا يدينون بشعائر الأمم اللاتينية.. وظلت تعيش مهددة قرابة قرنين من الزمن، وفي غضون هذه الفترة كانت تحدث من حين لآخر تحولات إلى الإسلام من بين هؤلاء المهاجرين الغرباء(653) وقال أيضاً: ... وكان عدد المرتدين عن المسيحية في القرن الثالث عشر الميلادي كثيراً كثرة نلاحظها في سجلات الصليبيين القانونية التي يطلق عليها مجالس قضاء بيت المقدس(654)، ومما يدل على كثرة اعتناق النصارى من الصليبيين الإسلامَ في هذه الفترة فزع أحد قساوستهم في الشام من ذلك وإرساله رسائل إلى البابا ورجال الدين في أوروبا يطلب فيها ألاّ يرسلوا الضعفاء والفقراء؛ لأنهم أكثر عرضة لأن يفتنهم المسلمون فيعتنقوا الإسلام(655).

 

2- تأثر النصارى بعادات المسلمين وأخلاقهم وتقاليدهم:

فمن ذلك مثلاً ما يتعلق باللباس، والذي كان في غالب الأحيان لدى نصارى البلاد الإسلامية لا يختلف عن لباس المسلمين، فقد كان أحد الأساقفة الصليبيين والذي بُعث إلى عكا، وقد أرسل إلى البابا في روما اشتكى فيها من تشبّه النصارى الصليبيين بالمسلمين في زيهم وطريقة حياتهم(656) وحتى بعض النصارى من الصليبيين كانوا يتشبهون بالمسلمين بالزي واللباس، فمن ذلك مثلاً تقليد النساء الصليبيات لنساء المسلمين بالحجاب واللباس المحتشم. وقد قال أحد الكتاب الأوروبيين في ذلك: .. وكانت النساء الصليبيات يقلدن المسلمات في لبس الحجاب الذي يضفي على المرأة الحشمة والوقار(657) ومن عادات المسلمين التي اكتسبها النصارى الصليبيون في هذه الفترة النظافة، وكانت ليست بذات أهمية لديهم، وقد نقـل أحـد الباحثين رأياً في ذلك لمؤرخ أوروبي معاصر لفترة الحروب الصليبية وهو قوله: ولكنهم – أي الصليبيين – يعيشون كالحيوانات، ولا يغسلون أبدانهم ولا ثيابهم التي لا ينزعونها إلاّ إذا تمزقت(658) وبعد مخالطة الصليبيين للمسلمين اكتسبوا هذه العادة الحميدة، فتردد الكثيرون منهم على الحمامات العامة المنتشرة في الشام ومصر حتى الرهبان والراهبات الذين يعتكفون في كنائسهم وأديرتهم، مما جعل أحد مقدميهم واسمه (جاك دوفتري) يحتج على الراهبات لخروجهن من الأديرة مخالفات بذلك تعاليم شريعتهن ليذهبن إلى الحمامات العامة(659) وقد ساق أسامة بن منقذ نماذج على استغرابهم اهتمام المسلمين بالنظافة ومحاولتهم التشبه في ذلك، وتردّدهم على الحمامات العامة للمسلمين رجالاً ونساءً لهذا الغرض(660)، ومن العادات الإسلامية التي اكتسبها الصليبيون النصارى الغيرة على النساء، وكانت هذه الغيرة مفقودة جداً لديهم، فقال أسامة بن منقذ في سياق عرضه لمشاهداته وقائعَ في حياتهم، وعرضه لنماذج منها تدل على ذلك بقوله: .. ليس عندهم شيء من النخوة والغيرة، يكون الرجل منهم يمشي هو وامرأته يلقاه رجل آخر يأخذ المرأة، ويعتزل بها، ويتحدثا معا والزوج واقف ناحية ينتظر فراغها من الحديث، فإذا طوّلت عليه خلالها مع المتحدث مضى (661)، وقد أشار أحد البـاحثين إلى تغير هذه العادة القبيحة نسبياً في الجيل الثاني من الصليبيين بعد إقامتهم في البلاد الإسلامية(662)، ومن الصليبيين من تشبّه بالمسلمين حتى في الطعام، فترك أكل الخنزير مثلاً(663) ومن أهم ما اكتسبه بعض الصليبيين النصارى من المسلمين لين الطباع وحسن التعامل، وهذا ما لاحظه أسامة بن منقذ من خلال تعامله معهم وسبره لهذا الجانب فيهم بين من قدموا حديثاً من بلادهم، وبين من عاشروا المسلمين، وتعاملوا معهم، واكتسبوا شيئاً من أخلاقهم؛ إذ قال أسامة عن ذلك: فكل من هو قريب العهد بالبلاد الإفرنجية أجفى أخلاقاً من الذين تبلدوا وعاشروا المسلمين(664)ومن المعروف في النصرانية تحريم التعدد بزعمهم، ومع ذلك فبعضهم قلّد المسلمين، وتزوّج أكثر من واحدة خاصة بعض زعمائهم وقوّادهم(665)، ومن مظاهر تأثر كثير من النصارى بالمسلمين في هذه الفترة اتجاه كثير منهم إلى تعلم اللغة العربية(666)؛ فالصليبيون في الشام اهتموا بذلك، فكان بعض قادتهم يتحدث العربية كـ(ريموند) صاحب طرابلس، وبعضهم وضع له قارئاً بها كصاحب صيدا(667) وحرص بعض قادتهم كذلك بأن يتعلم موظفوه ومن تحت يده في بعض الأعمال اللغة العربية، كما في موظفي الجمارك في عكا، والذين قابلهم ابن جبير في زيارته للشام في هذه الفترة(668)، وأسامة بن منقذ كان يربطه مع بعض فرسان الفرنج نوع من الصداقات، وكان يتعامل معهم، وهو لا يجيد لغاتهم، مما يدل على أن أعداداً منهم تتحدث باللغة العربية(669). وفي الأندلس كان تأثر النصارى باللغة العربية – لغة المسلمين – أكثر وضوحاً، إذ صارت هي لغة الحياة العامة في المجتمع الأندلسي(670)، وهكذا فكما أن الشخص لا يتأثر بشيء ويقلده إلاّ من باب الإعجاب به والاقتناع بقيمته فإن بعض النصارى بتشبّههم بالمسلمين في بعض الصفات وتأثّرهم بها دليل على الإعجاب بها، ونوع من الرضا عنها، واعتراف ضمني بقيمة الدين الذي جاء بها، وحثّ عليها(671).

 

3- تحسّن نظرة كثير من النصارى للإسلام والمسلمين: وقد نقل (توماس آرنولد) عن بعض الكتاب الغربيين ما يؤيد ذلك، كقول أحدهم:... ومن المؤكد أن المسيحيين من أهالي هذه البلاد قد آثروا حكم المسلمين على حكم الصليبيين(672) وقول أحدهم: .. ويظهر أن أهالي فلسطين من المسيحيين لما وقع بيت المقدس في أيدي المسلمين نهائياً سنة 641 هـ -1244م رحبوا بالسادة الجدد، وأطمأنوا إليهم، ورضوا بحكمهم(673)، كذلك الحال بالنسبة لكثير من نصارى آسيا الصغرى في هذه الفترة الذين فضّلوا حكم السلاجقة المسلمين على سيطرة إخوانهم من النصارى من البيزنطيين(674)، أما بالنسبة للنصارى الصليبيين فقد تغيرت نظرتهم للإسلام والمسلمين نتيجة للجهود الدعوية المختلفة الموجهة إليهم في هذه الفترة، فمثلاً إن أحد رسلهم ويُدعى (بركارد) حينما قابل صلاح الدين سنة 580هـ/1175م عاد إلى قومه وأخبرهم بما لاحظه من أن المسلمين يؤمنون بإله واحد خالق كل شيء، وأن محمداً -صلى الله عليه وسلم- نبيّ مرسل من الله -جلّ وعلا- ومن مظاهر تغير هذه النظرة الحاقدة لدى النصارى تجاه المسلمين وجود نوع من الصداقات بين مسلمين ونصارى، ومن ذلك مثلاً ما كان لأسامة بن منقذ مع أفراد منهم يعدهم أصدقاء له، وكانوا يمكّنونه من الصلاة في المسجد الأقصى حينما كان تحت سيطرة النصارى(675)، وابن جبير الذي زار المنطقة في هذه الفترة رأى عرساً إفرنجياً حضره جمع من المسلمين، وكان من مشاهداته أن بعض النصارى إذا رأى أحداً من المسلمين انقطع للعبادة أتوه بالماء والزاد (676)، بل إنه في بعض جبهات القتال لطول المخالطة والمواجهة بين الفريقين أنس البعض بالبعض، بل وتجري في بعض الأحيان ألعاب ومسابقات على سبيل الترفيه بين الطرفين(677) وكان التجار المسلمون والنصارى على حال من الاختلاط والمعاملة التي أزالت كثيراً من الحدة والحقد والعداء الشديد الذي كان يحمله غالب الصليبيين في بداية قدومهم. وقد قال ابن جبير عن ذلك:.. واختلاط القوافل من مصر إلى دمشق على بلاد الإفرنج غير منقطع، واختلاف المسلمين إلى عكا كذلك.. والاتفاق بينهم والاعتدال في جميع الأحوال، وأهل الحرب مشغولون في حربهم.. ولا تعترض الرعايا ولا التجار؛ فالأمن لا يفارقهم في جميع الأحوال سلماً وحرباً(678). وقال أحد الكتاب الغربيين مبيناً تبدُّل النظرة لدى متأخري الصليبيين عن سابقيهم: ... ولقد تحدث بعض المؤرخين أمثال (وليم) كبير أساقفة صور عن الحضارة الإسلامية حديثاً مِلْئه الإجلال بل الإعجاب في بعض الأحيان لو سمعه المحاربون في الحملة الصليبية الأولى لهزمهم وصدم مشاعرهم وكبرياءهم(679)، ولا أدل على تبدل هذه النظرة من سماح الصليبيين للمسلمين الخاضعين لحكمهم بممارسة شعائرهم الدينية كما في عكا، وطرابلس، وأنطاكية وجبلة وغيرها، وكان أسلاف هؤلاء في حملتهم الأولى حينما رأوا لأول مرة مسجداً في القسطنطينية تُقام فيه الصلاة أحرقوه بما فيه(680)، وقد بيّن (توماس آرنولد) هذه الحقيقة، وهي أنه ليس عامة الصليبيين فحسب هم الذين تغيرت نظرتهم إلى المسلمين، بل إن علماء اللاهوت المسيحي قد أدى اختلاطهم بالمسلمين إلى تكوين رأي أكثر إنصافاً عن الإسلام(681).

 

4- نجاح المسلمين في كسب بعض النصارى الصليبيين:

       كان من حسن سياسة نور الدين محمود مثلاً، مع بعض القادة النصارى أن كسبهم إلى جانبه ضد بني ملتهم، ودرأ بذلك خطراً عظيماً عن الإسلام بعدما كادوا أن يتفقوا ضد المسـلمين وذلك سـنة 544هـ (682) وكذلك صلاح الدين، حينما صالح صاحب صيدا حتى جعله يقاتل في صف المسلمين ضد بني ملته، وكان له أثر موجع عليهم، وكذلك صاحب صور الذي جاهر بعداء بني ملته (683)، وبعد معركة حطـين وما ظهر من نبله وكرمه وصفحه عن بعض قادة الصليبيين أن أقسم بعضهم ألاّ يواجهه في قتال (684).

 

5- حسن معاملة النصارى لمن تحت أيديهم من المسلمين: ومن مظاهر التحسن مثلاً أنه في بعض القرى الواقعة تحت النفوذ الصليبي يتمتع أهلها المسلمون بحكم ذاتي لهم يحكمهم واحد منهم كما هي الحال في جبلية، وقد لمس الأحوال المعيشية الهادئة التي تعيشها بعض القرى والمدن الإسلامية تحت الحكم الصليبي ابن جبير حتى إنه خشي على أهلها من الفتنة مقابل بعض الاضطهاد الذي يلاقيه إخوانهم من قبل بعض الولاة المسلمين في بعض المناطق الإسلامية، حيث قال:.. وطريقنا كله ضياع متصـلة وعمائر منتظمة سكانها كلها مسلمون، وهم مع الإفرنج على حالة ترفيه – نعوذ بالله من الفتنة – ومساكنهم بأيديهم وجميع أحوالهم متروكة لهم، وكل ما بأيدي الفرنج من المدن بساحل الشام على هذا السبيل، ثم وصف ابن جبير استقرار أحوالهم وخشيته عليهم من الفتنة بالنصارى لذلك حيث قال:.. وقد أُشربت الفتنة قلوب أكثرهم لما يبصرون عليه إخوانهم من أهل الرساتيق المسلمين وعمالهم؛ لأنهم ضد أحوالهم في الترفيه والرفق، وهذه من الفجائع الطارئة على المسلمين(685).

 

6- ظهور عزة الإسلام وتغير التكتيك الصليبي:

       كان من أهم آثار الجهود الدعوية هو أن يكون الدين كله لله، وذلك بإقامة شرعه على أرضه، وإرشاد الناس إلى سبيله، وكان من أهم آثار الجهود الدعوية المختلفة خاصة الجهاد في سبيل الله في هذه الفترة إزالة الحكم الصليبي النصراني من المناطق التي زحف عليها، وطرده كلياً، وإعادة الحكم الإسلامي فيها، وما ترتب على ذلك من إظهار لعزة الإسلام وقوة المسلمين(686)، وهذا ما جعل الأعداء المتربصين من النصارى الصليبيين يعيدون تخطيطهم، ويغيرون أساليبهم في محاربة المسلمين وفتنتهم عن دينهم، فقرروا لذلك التركيز على الناحية الفكرية بعد ما لم تُجدِ الجحافل العسكرية في صرف المسلمين عن دينهم وإقامة دولة نصرانية في قلب البلاد الإسلامية، لذلك تكوّنت بدايات ما يُسمّى بالغزو الفكري للشعوب الإسلامية، فاتجهت الجهود إلى إرسال جحافل من المبشرين الذين يتسللون إلى الشعوب الإسلامية بشكل سلمي؛ ليفتنوهم عن دينهم بالإقناع والتفاهم تحت ستار العمل الخيري، فكان لذلك تأسيس المدارس النصرانية والجماعات التنصيرية لتحقيق هذا الهدف بعدما عجزت عنه القوة العسكرية، وقد كان من أول هذه المؤسسات التبشيرية الرهبنة الكرملية التي تأسست في عام 548هـ - 1154م في طرابلس لبنان، ثم الفرنسيسكان والدومنيكان في مطلع القرن الثالث عشر (687)، ومنذ ذلك الوقت تتابع الدعاة لبث أفكارهم التنصيرية في العالم الإسلامي، وقد قال أحد الكتاب الأوروبيين عن ذلك: إذ حدث في القرن الثالث عشر أن بدأ نشاط تبشيري ضخم، وهذا النشاط إنما نجم عن الحروب الصليبية والاتصال بالمسلمين(688)، وكانت البداية العملية المنظمة لهذا العمل على يد (ريموندلل) وهو إسباني تعلم اللغة العربية، وكرس حياته لتنظيم العمل التبشيري بوساطة دراسة لغتهم والتنصير بينهم، ثم إرسال الجيوش العسكرية بعد ذلك (689).

 

7- تأجيل إخراج المسلمين من الأندلس:

ساءت أحوال المسلمين في الأندلس من جراء ضعف الخلافة الأموية فيها، ومن ثم انتهاؤها سنة 422هـ حين أعلن أهل قرطبة إلغاءها، وعلى رأسهم جهور بن محمد بن جهور(690)، فقامت على أنقاضها ما يُسمّى بدول الطوائف التي بلغت عشرين دولة تقريباً، حيث تغلّب كلٌّ على جهة وتلقب بالإمارة، بل والخلافة، فمنهم من تسمى بالمعتضد، وبعضهم تسمى بالمأمون، وآخر تسمى بالمستعين والمقتدر والمتوكل والموفق إلى غير ذلك من الألقاب التي قال عنها الشاعر الحسن بن رشيق:

 

مما يزهّدُني في أرض أندلسٍ

 

سماعُ مقتدرٍ فيها ومعتضدِ

 

ألقابُ مملكةٍ في غير موضعِها

         

كالهرِّ يحكي انتفاخاً صولةَ الأسدِ(691)

 

      ومع هذا الوضع المتردي لدول الطوائف أخذت الممالك النصرانية تتوسع على حسابها، فسقطت طليطلة بيد الإذفونش ملك قشتالة وليون وذلك سنة 478هـ (692)، ولم تلق المساندة الكافية لصد العدوان النصراني عليها من قبل أمراء الدويلات الإسلامية الأخرى التي كانت تتصارع فيما بينها، وتخطب وُدّ النصارى؛ حفاظاً على الطموحات الشخصية لبعض أمرائها الذين بلغ الحال بعدد منهم أن استعانوا بالنصارى ضد إخوانهم المسلمين، لذلك ساد الفزع بين مسلمي الأندلس لسرعة تقدم النصارى، وما يتوقعونه من نهاية سيئة لهم من جراء ذلك، حتى عبر أحد الشعراء عن هذه الحالة بعد سقوط طليطلة بقوله:

 

يا أهلَ أندلسٍ شدّوا رحالَكُمُ

         

فما المقامُ بها إلاّ من الغلطِ

 

السلكُ ينثرُ من أطرافه وأرى

 

سلكَ الجزيرةِ منثوراً من الوسطِ

 

مَن جاور الشرَّ لا يأمن بوائقَهُ

         

كيف الحياةُ مع الحياتِ في سفطِ (693)

     ولهذا الوضع المفزع في الأندلس دبت الغيرة في بعض أمراء الطوائف وبعض العلماء لحماية المناطق الإسلامية من النصارى؛ فكانت الدعوة للمرابطين لدخول الأندلس حيث تغيرت الكفة وانحصر نفوذ النصارى، فكان قدوم ا لمرابطين منقذاً للمسلمين في الأندلس من طمع النصارى، ومحافظاً على بقائهم فيها بعد أن أوشك على الزوال، وقد قال عن ذلك أحد المؤرخين الأندلسيين بعدما وصف الأوضاع المضطربة فيها قبل النجدة المرابطية: ... إلى أن جمع الله الكلمة ورأب الصدع ونظم الشمل، وحسم الخلاف وأعز الدين، وأعلى كلمة الإسلام، وقطع طمع العدو بيمن نقيبة أمير المسلمين وناصر الدين أبي يعقوب يوسف بن تاشفين (694) وعبور المرابطين لنجدة إخوانهم مسلمي الأندلس كان في سنة 479هـ حيث جرت معركة الزلاقة المشهورة مع النصارى، والتي انتصروا فيها واندحر الزحف النصراني على المناطق الإسلامية، آخذاً بالتقهقر(695)، ومنذ ذلك الحين عمل المرابطون على تثبيت سلطانهم في الأندلس، وتوحيد الطوائف فيها تحت سيطرتهم، والوقوف في مواجهة النصارى، وجهادهم في البلاد الأندلسية حتى كان تضعضعهم وضعف سلطانهم إثر سقوط عاصمتهم في المغرب مدينة مراكش سنة 541هـ، وبعد اضطراب أحوال الأندلس طمع النصارى في استغلال ذلك، فاجتاز الموحدون إليها، وكان لهم الجهد المشكور في  مواجهتهم وكبح جماحهم ومن ثم الحفاظ على البقاء الإسلامي في الأندلس(696). حتى ضعف سلطانهم ثم سقوط دولتهم في سنة 668هـ(697)، فورثها مجموعة من الدويلات التي تساقطت في أيدي النصارى الواحدة تلو الأخرى، حتى كان آخرها سقوط غرناطة سنة 897هـ(698)، وهكذا فإن جهاد المرابطين ثم الموحدين في فترة الحروب الصليبية كان من أبرز العوامل بل أهمها في الحفاظ على الوجود الإسلامي في الأندلس وتأخير إخراج المسلمين منها(699).

 

لمطالعة المقال السابق الأساليب الفنيّة والعاطفيّة في دعوة النصارى

 

___________________ 

(625) الرسالة الناصرية ص 56 دعوة المسلمين للنصارى (2/744).

(626) البداية والنهاية (13/135) دعوة المسلمين للنصارى (2/744).

(627) سير أعلام النبلاء (19/188).

(628) كتاب الروضتين (2/52) دعوة المسلمين للنصارى (2/744).

(629) الدعوة إلى الإٍسلام، توماس أرنولد ص 111.

(630) المصدر نفسه ص 111 دعوة المسلمين للنصارى (2/744).

(631) الدعوة إلى الإسلام ص 108 دعوة المسلمين للنصارى (2/744).

(632) مذكرات جوانقيل ص 168.

(633) البداية والنهاية (13/100- 101).

(634) المصدر نفسه (13/152 – 153) دعوة المسلمين للنصارى (2/745).

(635) دعوة المسلمين للنصارى (2/745).

(636) البداية والنهاية (13/169) دعوة المسلمين للنصارى (2/745).

(637) الدعوة إلى الإسلام ص 107 دعوة المسلمين للنصارى (2/745).

(638) الدعوة إلى الإسلام ص 107 دعوة المسلمين للنصارى (2/745).

(639) الدعوة إلى الإسلام ص 629 دعوة المسلمين للنصارى (2/745).

(640) الأوضاع الحضارية في بلاد الشام عصر الحروب الصليبية ص 233.

(641) الدعوة إلى الإسلام ص 112 دعوة المسلمين للنصارى (2/746).

(642) دعوة المسلمين للنصارى (2/746).

(643) سير أعلام النبلاء (21/270).

(644) دعوة المسلمين للنصارى (2/746).

(645) الدعوة إلى الإسلام ص 130 دعوة المسلمين للنصارى (2/746).

(646) دعوة المسلمين للنصارى (2/747).

(647) المصدر نفسه (2/747).

(648) الدعوة إلى الإسلام ص 108 دعوة المسلمين للنصارى (2/747).

(649) المصدر نفسه ص 109 دعوة المسلمين للنصارى (2/747).

(650) شفاء القلوب في أخبار بني أيوب ص 121.

(651) الدعوة إلى الإسلام ص 111 دعوة المسلمين للنصارى (2/747).

(652) الدعوة إلى الإسلام، توماس أرنولد ص 111.

(653) الدعوة إلى الإسلام ص 112 دعوة المسلمين للنصارى (2/748).

(654) الدعوة إلى الإسلام ص 110 دعوة المسلمين للنصارى (2/748).

(655) الدعوة إلى الإسلام ص 110 دعوة المسلمين للنصارى 02/748).

(656) الأوضاع الحضارية في بلاد الشام عصر الحروب الصليبية ص 97 - 98.

(657) تاريخ الحروب الصليبية (2/509).

(658) دعوة المسلمين للنصارى (2/751).

(659) المصدر نفسه (2/751).

(660) الاعتبار ص 136 – 137 دعوة المسلمين للنصارى (2/752).

(661) المصدر ص 135 المصدر نفسه (2/752).

(662) العلاقات الحضارية بين الشرق والغرب في العصور الوسطى ص 192.

(663) الاعتبار ص 140 دعوة المسلمين للنصارى (2/752).

(664) المصدر نفسه (2/753).

(665) المصدر نفسه (2/753).

(666) المصدر نفسه (2/753).

(667) المصدر نفسه (2/753).

(668) رحلة ابن جبير ص 275 - 276.

(669) الاعتبار ص 87 دعوة المسلمين للنصارى (2/753).

(670) المسلمون في تاريخ الحضارة ص 79.

(671) دعوة المسلمين للنصارى (2/754).

(672) الدعوة إلى الإسلام ص 116.

(673) دعوة المسلمين للنصارى (2/754).

(674) المصدر نفسه (2/755).

(675) الاعتبار، أسامة بن منقذ ص 134 - 135.

(676) رحلة ابن جبير ص 259 -260.

(677) النوادر السلطانية 169 -170.

(678) رحلة ابن جبير ص 259 -260.

(679) قصة الحضارة (22/65).

(680) المصدر نفسه (4/50) دعوة المسلمين للنصارى (2/758).

(681) دعوة المسلمين للنصارى (2/758).

(682) كتاب الروضتين (1/123) دعوة المسلمين للنصارى (2/758).

(683) النوادر السلطانية ص 298 المصدر نفسه (2/759).

(684) قصة الحضارة ت(4/38) المصدر نفسه (2/759).

(685) رحلة بن جبير ص 74 ، 75 دعوة المسلمين (2/761).

(686) دعوة المسلمين للنصارى (2/762).

(687) الأوضاع الحضارية في بلاد الشام ص 136.

(688) الحروب الصليبية آرنست باركر ص 142.

(689) البيان المغرب في أخبار الأندلس نقلاً عن دعوة المسلمين (2/763).

(690) دعوة المسلمين للنصارى (2/763.

(691) المصدر نفسه (2/763).

(692) نفح الطيب (4/352 – 354).

(693) أزهار الرياض في أخبار القاضي عياض (1/46).

(694) المعجب في تلخيص المغرب ص 147 دعوة المسلمين للنصارى (2/764).

(695) الكامل (8/307 – 310).

(696) دعوة المسلمين للنصارى (2/765).

(697) نفح الطيب في غصن الأندلس الرطيب (1/446).

(698) التاريخ الأندلسي ص 513.

(699) دعوة المسلمين للنصارى (2/765)

                    المصدر :الاسلام اليوم  


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022