الأربعاء

1447-02-26

|

2025-8-20

الثاني عشر عبادته: كان الملك العادل نور الدين محمود الشهيد يصلي أكثر الليالي، ويناجي ربه مقبلاً بوجهه عليه، ويؤدي الصلاة في أوقاتها بتمام شرائطها وأركانها وركوعها وسجودها، ويحافظ على الجماعة، وكان كثير الابتهال إلى الله -عز وجل- في أموره كلها. وكان من عادة نور الدين أنه ينزل إلى المسجد بغلس، ولا يزال يركع فيه حتى يصلي الصبح. وقال ابن الأثير: حدثني صديق لنا بدمشق فقال: كان نور الدين يصليّ فيطيل الصلاة، وله أوراد في النهار، فإذا جاء الليل وصلى العشاء نام، ثم يستيقظ نصف الليل، ويقوم إلى الوضوء والصلاة والدعاة إلى بكرة، ثم يظهر للركوب، ويشتغل بمهام الدولة. وقال ابن كثير: كان نور الدين كثير المطالعة للكتب الدينية، متبعاً للآثار النبوية، محافظاً على الصلوات في الجماعات، كثير التلاوة، صموتاً وقوراً، وكان نور الدين كثير الصيام، وله أوراد في الليل والنهار، وكان يقدم أشغال المسلمين عليها، ثم يتمم أوراده. وعبارة 'فكان يقدم أشغال المسلمين عليها ثم يتمم أوراده' هذا هو المنطق الذي علمنا إياه الإسلام والذي يجعل التعبد، الذي هو غاية الخلائق، ممارسة إيجابية تضرب في أعماق الناس، فتغيّر نفوسهم، وتمتد إلى حركة التاريخ فتصوغ مسيرته، كان تعبد نور الدين يدفعه إلى المسؤولية، ويجعله في قلبها، وهو أعمق وعياً وأشد خشية وأمضى عزيمة وأقدح ذَكاء، لقد مارس نور الدين مفهوم العبادة بمفهومها الشامل، وأعطت تلك الممارسة ثمارها على المستوى الشخصي والشعبي، وعلى الدولة، وتحقيق العبادة من شروط التمكين قال تعالى:"وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ". [النور:55 – 56]. فقد أشارت الآيات الكريمة إلى شروط التمكين وهي: الإيمان بكل معانيه وبكافة أركانه، وممارسة العمل الصالح بكل أنواعه، والحرص على كل أنواع الخير وصنوف البر، وتحقيق العبودية الشاملة ومحاربة الشرك بكافة أشكاله وأنواعه وخفاياه، وأما لوازم استمرار التمكين فهي: إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم.

لمصدر : الاسلام اليوم 

الثالث عشر إنفاقه وكرمه: اشتهر نور الدين بالإنفاق الواسع والكرم العظيم، وكانت له أوقاف عظيمة. قال العماد: وكلف نور الدين .. بإفادة الألطاف والزيادة في الأوقاف، وتكثير الصدقات، وتوفير النفقات، وكسوة النسوة الأيامى ..وإغناء فقراء الرعية وإنجادها بعد إعدامها، وصون الأيتام والأرامل ببذله، وعون الضعفاء وتقوية المقوين بعدله، وعمارة المساجد المهجورة، وتعفية آثار الآثام، وإسقاط كل ما يدخل في شبهة الحرام، وأبقى الجزية والخراج وما تحصل من قسم الغلاّت على قويم المنهاج قال: وأمر أن يكتب مناشير لجميع أهل البلاد، فكتب أكثر من ألف منشور، وحسبنا ما تصدق به على الفقراء في تلك الأشهر، فزاد على ثلاثين ألف دينار، وكانت عادته في الصدقة أنّه يحضر جماعة من أماثل البلد في كل محله، ويسألهم عمن يعرفون في جوارهم من أهل الحاجة، ثم يصرف إليهم صدقاتهم، وكان يرسم نفقته الخاصة في كل شهر من جزية أهل الذمة مبلغ ألفي قرطيس يصرفه في كسوته ونفقته وحوائجه المهمّة حتى أجرة خياطه وجامكية طباخه، ويتفضل منه ما كان يتصدق به في آخر الشهر، وأما ما كان يُهدى إليه من هدايا الملوك وغيرهم، فإنه كان لا يتصرف في شيء منه لا قليل ولا كثير، بل إذا اجتمع يخرجه إلى مجلس القاضي ويحصّل ثمنه، ويصرفه في عمارة المساجد المهجورة، وتقدم بإحصاء ما في محال دمشق من ذلك، فأناف على مائة مسجد، فأمر بعمارة ذلك كّله، وعين له وقوفاً. قال: ولو اشتغلت بذكر وقوفه وصدقاته في كّل بلد لطال الكتاب، ولم أبلغ إلى أمره، ومشاهدة أبنيته الدّالة على خلوص نيَّته تغني عن خبرها بالعيان، ويكفي أسوار البلدان فضلاً عن الربط والمدارس على اختلاف المذاهب، واختلاف المواهب، وفي شرح طوله طول، وعمله لله مبرور مقبول. وأدرّ على الضعفاء والأيتام والصدقات حتى وقف وقوفاً على المرضى والمجانين، وأقام لهم الأطباء والمعالجين، وكذلك على جماعة من العلماء ومعلمّي الخط والقرآن وعلى ساكني الحرمين، ومجاوري المسجدين، وجهز عسكراً يحفظ المدينة، وأقطع أمير مكة، ورفع عن الحجاج ما كان يُؤخذ منهم من المكس، وأقطع أمراء العرب لئلاّ يتعرضوا للحجاج، وأمر بإكمال سور مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم واستخراج العين التي بأُحُد، وكانت قد دفنتها كثرة السيول، وعمّر الربط والخانقاهات، والبيمارستانات، وبنى الجسور في الطرق والخانات، ونصب جماعة من المعلمين لتعليم يتامى المسلمين، وأجرى الأرزاق على معلميهم وعليهم، بقدر كفايتهم، وكذلك صنع لما ملك سنجار، وحّران والرقة، ومنبج وشيزر وحماة وحمص وبعلبك وصرخد وتدمر، فما من بلد منها إلاّ وله فيه حسن أثر، وحصل الكثير من كتب العلوم ووقفها على طلاّبها.

 

وقد مدح الشعراء نور الدين على كرمه وجوده فقد قال ابن منير:

 

يأيها الملكُ المنادي جودُهُ

 

في سائرِ الآفاقِ: هل من معسرِ؟

 

ولأنت أكرمُ من أناسٍ نوَّهوا

 

باسمِ ابن أوسٍ واستخصوا البحتري

 

ذلَّت لدولتك الرقابُ ولا تزلْ

 

إن تغزُ تغنمْ أو تقاتلْ تظفرِ

 

كان نور الدين كما يصفه كثير من المؤرخين -: قليل الابتهاج بالشعر لا عن نفور من الشعر ذاته وعدم توافق مع معطياته الوجدانية التي تهز العقول والقلوب، وإنما على نفور من الشعراء أنفسهم، ومن مزايداتهم المعروفة على حساب الحق، وتملّقهم الزائف للسلطة على حساب العدل.

 

إن نور الدين هنا يذكرنا بعمر بن عبد العزيز لا في كراهيته للتجربة الشعرية، ولكن بتوجسّه من ملق الشعراء وضعفهم ومزايداتهم، ومن ثم فإن نور الدين كسلفه – لم يكن يشرع الأبواب في وجوههم بل لم يكن يعطيهم، وقد سُئل يحي بن محمد الوهراني في بغداد عن نور الدين فأجاب في إحدى مقاماته: وهو سهم للدولة سديد وركن للخلافة شديد، وأمير زاهد مجاهد، غير أنه عُرف بالمرعى الوبيل لابن السبيل، وبالمحل الجديب للشاعر الأديب، فليس لشاعر عنده من نعمة تُجزى. وعبارة "غير أنه" ترد بعد عبارات المديح تلك توحي بأن موقفه هذا لم يكن مرضياً عنه من الجميع، فهناك دائماً من يريد أن (يأخذ) على حساب أي شيء، في عصر كانت آذان هؤلاء قد اعتادت عبارة 'أعطوه ألف دينار' أو عبارة سلْ ما شئت. ومن بين هؤلاء الشعراء أسامة بن منقذ الذي يمدحه ببيتين من الشعر يتضمنان غمزاً مستوراً لموقف نور الدين من عطاء الشعراء:

 

سلطاننا زاهد والناس قد زهدت

 

له فكلٌّ على الخيرات منكمشُ

 

أيامُه مثلُ شهرِ الصومِ طاهرةٌ

 

من المعاصي وفيها الجوعُ والعطشُ

 

لكن أبا شامة، المؤرخ الدمشقي، يتصدى بنفسه للردّ على الرجلين: صاحب المقامة وصاحب القصيدة، ولفضح الازدواجية التي يعانيها كثير من الشعراء، ولبيان حقيقة الموقف العظيم فيقول: ما كان – نور الدين – يبذل أموال المسلمين إلاّ في الجهاد وما يعود نفعه على العباد. وكان كما قيل في حق عبد الله بن محيريز – وهو من سادات التابعين في الشام – إنه كان جواداً حيث يحب الله، وبخيلاً حيث تحبّون، وأما شعر ابن منقذ فلا اعتبار به، فهو القائل في مدح نور الدين:

 

في كلِّ عام للبريةِ ليلةٌ

 

فيها تَشُبُّ النارُ بالإيقادِ

 

لكنْ لنورِ الدينِ من دونِ الورى

 

ناران: نارُ قِرًى ونارُ جهادِ

 

أبداً يصَّرفُها نداهُ وبأسُه

 

فالعام أجمع ليلة الميلادِ

 

مَلِكٌ له في كلّ جيدٍ منّةٌ

 

أبهى من الأطواقِ في الأجيادِ

 

أعلى الملوكِ يداً وأمنعُهم حمًى

 

وأمدُّهم كفّاً ببذلِ تلادِ

 

يعطي الجزيل من النوال تبرُّعاً

 

من غيرِ مسألةٍ ولا ميعادِ

 

لا زال في سعدٍ وملكٍ دائمٍ

 

ما دامت الدنيا بغير نفادِ

 

وعندما أسر الفرنج أخا أسامة بن منقذ نجم الدولة محمد طلب من ابن عمه ناصر الدين محمد بن سلطان صاحب شيزر الإعانة في فكاكه فلم يفعل، قال أسامة: وادّخر الله سبحانه أجر خلاصه وحسن ذكره للملك العادل نور الدين -رحمه الله تعالى- فوهبه فارساً من مقدَّمي الدَّاوية يُقال له المشطوب، قد بذل الإفرنج فيه عشرة آلاف دينار، فاستخلص به أخاه من الأسر. والملاحظ أن نور الدين قد مُدح من قبل شعراء عصره الكبار كابن القيسراني، وابن منير، والعماد الأصفهاني وغيرهم، ويبدو أن مدح الشعراء لنور الدين لم يكن بدافع التكسب أو توخي التزلّف. يقول الدكتور محمود إبراهيم في حديثه عن علاقة ابن القيسراني بنور الدين ومدحه له: ومما يلفت النظر في تمجيد ابن القيسراني لنور الدين، أن الشعر الذي نُظم في هذا التمجيد قد خلا من الاستماحة التي لم تخل منها قصائد أخرى لابن القيسراني قيلت في أشخاص آخرين في مناسبات قديمة. ولعل هذا مما يعضّد الاعتقاد بأن شعر ابن القيسراني في نور الدين يمثّل إعجاباً صادقاً بالبطل الإسلامي، وأن هذا الشعر لا يترجم عن مشاعر ابن القيسراني وحده، بل عن مشاعر الجماعة الإسلامية كذلك.

 

 وكان نور الدين يحب الشعر ويُعجب به؛ لأنه كان يدرك أثر الشعر في إثارة الشعور وتحريكه، ولاسيما شعر الجهاد ووصف المعارك. أما كونه لا يبتهج بالمدح فهذا تواضع منه؛ لأنه لا يحب مبالغات الشعراء، ومزايداتهم بالمدح، ولأنه كان مقتدياً بالسلف الصالح كالخلفاء الراشدين، فلا يأخذه بهرج القول. فنور الدين لم يكن في حالة خصام مع الشعر، بل كان يحب الشعر الملتزم؛ فقد طلب من العماد الأصفهاني أن يعمل مثنويات شعرية في معنى الجهاد على لسانه فقال:

 

للغزو نشاطي، وإليه طربي

 

ما لي في العيش غيرَه من أربِ

 

بالجد وبالجهاد نُجْح الطلبِ

 

والراحةُ مُستودعةٌ في التعبِ

 

لا راحةَ في العيش سوى أن أغزو

 

سيفي طرباً إلى العلا يهتزُّ

 

في ذلِّ ذوي الكفرِ يكونُ العزُّ

 

والقدرةُ في غير جهادٍ عجزُ

 

ويقول الأصفهاني في موضع آخر: كنت راكباً مع نور الدين في أعقاب إحدى جولاته الظافرة ضد الصليبيين عند طبرية فسألني: كيف تصف ما جرى؟ فمدحته بقصيدة مطلعها:

 

عُقِدت بنصرِكَ رايةُ الإيمانِ

 

وبدت لعصرِكَ آيةُ الإحسانِ

 

ولكن ما هو أكثر دلالة من هذا كله أن يشهد عصر نور الدين تألّق عدد من كبار الشعراء، كان يقف في قمتهم ابن القيسراني والعماد الأصفهاني وابن منير، وابن الدهان الموصلي، أولئك الذين وجدوا في دولة نور الدين الأرضية الصالحة لازدهار الشعر الذي طرق أبواباً واسعة، وخطا إلى آفاق بعيدة المدى ما كان لهم أن يرحلوا إليها بقصائدهم المبدعة لولا أن لقوا من نور الدين إعجاباً وتوافقاً وانسجاماً، وأما ما تضمنه قول الوهراني، وقول ابن منقذ من الإشارة إلى بخل نور الدين أو حرصه على المال، فهذا أمر مستبعد وفيه كثير من المبالغة، ولو كان نور الدين، كما يقولان لما ازدحم الشعراء على بابه يمدحونه ويسجلون انتصاراته، ولما أجمع أغلب شعراء عصره على مدحه بالكرم والجود، حتى أسامة بن منقذ نفسه، ولما اختصَّ بمدحه بعض الشعراء ولازموه فترات طويلة.

 

ومما له علاقة بالكرم والإنفاق في سيرة نور الدين: حضر صبي وبكى عند نور الدين، وذكر أن أباه محبوس على أجرة حُجرة من حجر الوقف – يعني وقف الجامع – فسأل عن حاله؟ فقالوا: هذا الصبي ابن الشيخ أبي سعد الصوفي، وهو رجل زاهد قاعد في حجرة للوقف، وليس له قدرة على الأجرة، وقد حبسه وكيل الوقف؛ لأنه اجتمع عليه أجرة سنة، فسأل: كم أجرة السنة؟ قالوا: مائة وخمسون قرطاساً، وذكروا سيرته وطريقته وفقره فرقّ له وأنعم عليه، وقال: نحن نعطيه كل سنة هذا القدر ليصرفه إلى الأجرة، ويقعد فيها، وقام بذلك بإخراجه من الحبس، فوصل إلى قلب كل واحد من الحاضرين الفرح حتى كأنّ الإنعام كان في حقه.

 

 هذه هي أهم صفات نور الدين محمود الشهيد رحمه الله. قال فيه ابن عساكر: .. ومع ما ذكرت من هذه المناقب كلها، وشرحت من دقها وجلّها فهو حسن الخط بالبنان، متأتٍّ لمعرفة العلوم بالفهم والبنيان، حريص على تحصيل كتب الصحاح والسنن، مقتنٍ لها بأوفر الأعواض والثمن، كثير المطالعة للعلوم الدينية، متتبع للآثار النبوية، مواظب على الصلوات في الجماعات، مراع لآدابها في الأوقات، مؤدياً فروضها ومسنوناتها، معظّم لقدرها في جميع حالاتها، عاكف على تلاوة القرآن على مّر الأيام، حريص على فعل الخير من الصدقة والصيام، كثير الدعاء والتسبيح، راغب في صلاة التراويح، عفيف البطن والفرج، مقتصد في الإنفاق والخرج، متحّر في المطاعم والمشارب والملابس، متبرّئ من التمادي، والتباهي والتنافس، عريٌ عن التجبر والتكبّر، بريء من التنجيم والتطيَّر، مع ما جمع الله له من العقل المتين، والرأي الثاقب الرصين، والاقتداء بسيرة السلف الماضين، والتشبّه بالعلماء والصالحين، والاقتفاء بسيرة من سلف منهم في حسن سمْتهم، والاتباع لهم في حفظ حالهم ووقتهم، حتى روى حديث المصطفى -صلى الله عليه وسلم- وأسمعه، وكان قد استجيز له ممن سمعه وجمعه؛ حرصاً منه على الخير في نشر السنة بالأداء والتحدث، ورجاء أن يكون ممن حفظ على الأمة أربعين حديثاً كما جاء في الحديث، فمن رآه شاهد من جلال السلطنة وهيبة الملك ما يبهره، فإذا فاوضه رأى من ألطافه وتواضعه ما حيّره، ولقد حكى لي عنه من صحبه في حضره وسفره أنه لم تُسمع منه كلمة فحش في رضاه ولا ضجره، وإن أشهى ما إليه كلمة حق يسمعها أو إرشاد إلى سنة يتبعها، يحب الصالحين ويؤاخيهم، ويزور مساكنهم لحسن ظنه بهم، فإذا احتلم مماليكه أعتقهم، وزوّج ذكرانهم بإناثهم ورزقهم، ومتى تكررت الشكاية إليه من أحد ولاته أمر بالكف عن أذى من تكلم بشكاته، فمن لم يرجع منهم إلى العدل قابله بإسقاط المرتبة والعزل، فلما جمع الله له من شريف الخصال، تيسر له ما يقصده من جميع الأعمال، وسهّل على يديه فتح الحصون والقلاع، ومكّن له في البلدان والبقاع حتى ملك حصن شيزر، وقلعة دوسر، وهما من أحصن المعاقل والحصون، واحتوى على ما فيهما من الذخر المصون من غير سفك محجمة من دم في طلبهما، ولا قتل أحداً من المسلمين بسببهما، وأكثر ما أخذه من البلدان، بتسليمه من أهله بالأمان، ووفى لهم بالعهود والإيمان، فأوصلهم إلى مأمنهم من المكان. وإذا استشهد أحد من أجناده حفظه في أهله وأولاده، وأجرى عليهم الجرايات، وولى من كان أهلاً منهم للولايات، وكلما فتح الله عليه فتحاً وزاده ولاية أسقط عن رعيته قسطاً وزادهم رعاية، حتى ارتفعت عنهم الظلامات والمكوس، واتضعت في جميع ولايته الغرامات والنحوس، ودرّت على رعاياه الأرزاق، ونفقت عندهم الأسواق، وحصل بينهم بيمنه الاتفاق، وزال ببركته العناد والشقاق.. إلى أن قال: فالله يحقن به الدماء، ويسكّن به الدهماء، ويديم له النعماء، ويبلّغ مجده السماء، ويُرجّى الصالحات على يديه، ويجعل منه واقية عليه، فقد ألقى أزمتنا إليه، وأحصى علم حاجتنا إليه، ومناقبه خطيرة، وممادحه كثيرة، ذكرت منها غيضاً من فيض، وقليلاً من كثير، وقد مدحه جماعة من الشعراء فأكثروا، ولم يبلغوا وصف آلائه بل قصروا، وهو قليل الابتهاج بالشعر، زيادة في تواضعه لعلوّ القدرة، فالله يديم على الرعية ظله، وينشر فيهم رأفته وعدله، ويبلّغه في دينه ودنياه مأموله، ويختم بالسعادة والتوفيق أعماله، فهو بالإجابة جدير على ما يشاء قدير.

 

إن ما ذكرته من صفات للملك العادل نور الدين ثمرات زكية لإيمانه العميق على تحقيق ما عجز عنه غيره، ممن كانت بلادهم وثرواتهم تزيد أضعافاً على ما كان عليه، فقد امتلأت نفسه بمبادئ الإسلام على نحو لا نكاد نجد له شبيهاً إلاّ عند الأوائل من أعلام صدر الإسلام، وهذا الإيمان هو الذي حّوله من أمير إلى مجاهد، ومن حاكم سياسي إلى زاهد، وهو الذي أعانه على مواجهة مشكلات عصره السياسية والاجتماعية والاقتصادية والتغلب عليها، على الرغم من قلة الموارد، ولم يُعرف عنه تعصب، وكانت نفسه سمحة اكتسبها من طبيعة الإسلام السمحة. إنه حارب الصليبيين على أنهم أجانب مغتصبين، لا على أنهم نصارى، ومن هنا فإنه لم يمس النصارى الوطنيين بسوء، وكان لهم عنده حق الرعاية الكاملة، فلم يهدم في حياته كنيسة، ولا آذى قساً أو راهباً، على عكس الصليبيين الذين إذا دخلوا قرية قتلوا أهلها المسلمين جميعاً. وقد أكسبه إيمانه هذا احترام خصومه من الصليبيين؛ فكانوا على عداوتهم له يحترمونه ويعترفون له بالامتياز عليهم، حتى إن المؤرخ وليم الصوري، الذي أفاض في كتاباته بالحقد على الإسلام والمسلمين، لم يستطع إلاّ أن يعترف بفضله وعدله وصدق إيمانه.

 

الرابع عشر ابتعاد نور الدين عن التعصب: لم يكن نور الدين محمود زنكي متحيزاً أو متعصباً إلى مذهب من المذاهب السنية لكي يسعى – من خلال نشاطه المدرسي هذا – إلى تحقيق نصر جزئي لمذهب دون مذهب، وإلى تعزيز مواقع (فقه) ما بمواجهة سائر المعطيات الفقهية، كما يحدث في عصور التقليد والتّيبّس الفكري، إنه يطمح إلى ما هو أبعد من هذا بكثير: العمل على مستوى العقيدة الإسلامية في آفاقها الرحيبة الواسعة وشموليتها التي تتسع لكل فكر إسلامي مبُدع واجتهاد خلاّق. إن الرجل يطلّ على المسألة الفكرية من فوق، ويسعى إلى أن يكون الصراع الفكري، لا قتالاً وانشقاقاً في صميم الذات العقائدية للأمة المسلمة، ولكنه صراع بمواجهة خصم صليبي كان يتغلغل في حنايا الأرض، ويقف بالمرصاد متحفزاً لتدمير الشخصية الإسلامية. تماماً كما يسعى استعمار اليوم الجديد وصهيونيته لتحقيقه، وصراع من جهة أخرى بمواجهة انحرافات القرون الطويلة في مجرى التاريخ الإسلامي نفسه، وهذا هو الأخطر والأهم، ومن ثم فإن قيادة الفكر الإسلامي صوب مواقع التأصيل والديمومة يجب أن تتحلى بقدر كبير من تجاوز الصراعات الجانبية والعقد التاريخية، صوب ما هو أعّم وأشمل وأبعد مدى، وثمة حادثة – من بين عديد من الحوادث تناقلها المؤرخون – تحمل دلالتها الواضحة في هذا المجال: في أعقاب وفاة أحد كبار الفقهاء المشرفين على التدريس في حلب. انقسم هؤلاء إلى قسمين كلٌّ يريد مذهباً من المذاهب، ويسعى إلى استدعاء الرجل الذي يخلفه في التدريس.. وتطور الجدل إلى فتنة كادت تقع بين الفريقين 'فلما سمع نور الدين بذلك استدعى جماعة الفقهاء إلى القلعة بحلب، وخرج إليهم نائبه – مجد الدين بن الداية – وقال لهم على لسانه: نحن ما أردنا ببناء المدارس إلاّ لنشر العلم ودحض البدع من هذه البلدة وإظهار الدين، وهذا الذي جرى بينكم لا يحسن ولا يليق، ثم علّمهم أن نور الدين قرر استرضاء الفريقين باستدعاء الرجلين وتولية كل منهما إحدى المدارس الشهيرة في حلب. لقد وسع نور الدين محمود جبهة المواجهة تحت راية أهل السنة والجماعة، واستطاع أن يرص الصفوف، ويوحد الجهود أمام الأخطار الداخلية، والخارجية وحقق الأجواء الصالحة لكي ينجح مشروع أهل السنة والجماعة النهضوي الذي تبناه. إن التقليد والتعصب من أعظم أسباب التفرق والانحراف عن منهج الله الرباني، ومن أهم العوامل التي أدّت إلى انتشار البدع والأهواء بين الناس، ففشت في أوساطهم، وحالت بينهم وبين سماع الحق والهدى، وتركوا بسببها طريق الكتاب والكريم والسنُّةَ المطهرة. التعصب والتقليد اللذان يؤديان إلى مهاوي الردى، ويقودان صاحبهما إلى مسالك الغواية والضلال، ويصّدان عن اتباع النور والهدى، فتكون النتيجة تخبطاً وانتكاساً في الدنيا، وهلاكاً وخسراناً في الآخرة. لقد انتشر مرض التعصب والتقليد في شعوب الأمة الإسلامية، لا سيما في العصور المتأخرة، وأصبح هو الأساس والأصل ونتج عن تفشّيه نتائج وخيمة وأمور جسيمة وخطيرة، ومن أشدها عدم قبول الحق، وردّه إذا جاء من المخالف، وقد قام نور الدين محمود بمعالجة ومحاربة التعصب، وفي حقيقة الأمر كان ذلك محاربة لأسباب الفرقة، وبالتالي خطوة نحو الأخذ بأسباب النهوض. فعلى المهتمين بأمر نهوض الأمة معالجة هذه الأمراض المعضلة من التعصب وغيرها التي كانت سبباً في تفريق الأمة شيعاً وأحزاباً.

المصدر :الاسلام اليوم 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022