نحاول في هذه السلسلة التاريخية من كفاح الشعب الجزائري، تسليط الضوء على الأدوار التي قامت بها الحكومات والشعوب العربية والإسلامية والعالمية لمساندة أهل الجزائر وتحرير بلادهم من الاستعمار الفرنسي. فالشعب الجزائري لم يَبخل في التضحيات خدمًة لقضيته، وإيمانًا راسخًا بأن الله تعالى سيحقق نصره بعد أن توحد الجزائريون وأخذوا بأسباب القوة والتمكين. فبالإضافة إلى تضحيات وبذل الشعب الجزائري للدفاع عن أرضه والعمل على إنقاذ بلاده من غطرسة المستعمِر، كان للدعم والجهود التي بذلتها الحكومات والشعوب الحيَّة بجانب الشعب الجزائري أثرًا كبيرًا في نيل حريته واستقلاله، ومن بين تلك الحكومات والشعوب ذات الأثر والدور حكومتيّ وشعبيّ السودان واليمن.
لم يوقف السودان احتفالاته الدورية بالذكرى السنوية لثورة نوفمبر 1954 في الجزائر، سواء على المستوى الشعبي أو الحكومي. ففي هذه المناسبة كانت تتضاعف تعبئة وتحسيس الشعب السوداني بالعمل على زيادة الدعم المعنوي والمادي لإخوانهم بالجزائر، وإدانة الاستعمار الفرنسي بكل الطرق والأشكال.
فقد لعبت السودان دورًا فاعلًا خاصة مع الدول الإفريقية المجاورة للوقوف بجانب مطالب جبهة التحرير الجزائرية، وكان له تأثير إيجابي على أثيوبيا لاتخاذ موقف لصالح القضية الجزائرية في منظمة الأمم المتحدة. وفي جلسة الجمعية العامة للأمم المتحدة في أكتوبر 1960، تحدث ممثل السودان أحمد الصياد مناصرًا للجزائر، وخطب في الجمعية العامة قائلًا: "الحكومة الجزائرية تتصف بالنضج السياسي وتسلك سياسة سليمة، إن حكومتي تُساند طلب الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية بإجراء استفتاء تنظمه وتراقبه الأمم المتحدة".
وخلال زيارة فرحات عباس رئيس الحكومة الجزائرية المؤقتة للسودان عام 1959، وجد الوفد الجزائري ترحيبًا خاصًا واستعدادًا كبيرًا لتدعيم حرب التحرير الجزائرية. وخلال هذه الزيارة أكد الرئيس السوداني الجنرال إبراهيم عبود للوفد الجزائري: "رغم أننا ماديًا فقراء، إلا أننا نقوم بواجبنا فوق استطاعتنا".
كمت افتتحت جبهة التحرير الجزائرية مكتبها رسميًا في العاصمة الخرطوم، ونتج عن ذلك أيضًا عقد عدة ندوات لشرح القضية الجزائرية، وسبل دعمها ماديًا ومعنويًا، وكان من أهمها الندوة التي عقدها أحمد توفيق المدني رئيس الوفد الجزائري، وهذا ما دفع من ناحية أخرى إلى بروز دور الطبقة المثقفة السودانية في نصرة القضية الجزائرية جماهيريًا، حيث قام أساتذة وطلبة جامعة الخرطوم بمظاهرات وتجمعات تأييد ونصرة لقضية الشعب الجزائري حتى التحرير. كما توالت دعوات السلطات السودانية الرسمية لجبهة التحرير الوطني، هادفة توعية الجماهير السودانية بالقضية الجزائرية، وكللت الزيارات المتكررة للسودان بزيادة ربط العلاقات الأخوية بين الشعبين الشقيقين.
وأصبحت السودان من بين الدول العربية التي دافعت باستماته عن الثورة الجزائرية، وأصبحت لها من الجرأة السياسية ما جعلها فاعلة عربيًا، حيث اتخذت الحكومة السودانية قرارًا شجاعًا، تمثل في سحب سفيرها من العاصمة الفرنسية باريس جراء السياسة القمعية ضد الشعب الجزائري، وفي الخرطوم وجهت مذكرتي احتجاج شديدتي اللهجة للسفارة الفرنسية، عبّرت فيهما عن استنكارها الكبير للمجازر المرتكبة من طرف الجيش الفرنسي في حق الشعب الجزائري، ومن جهة أخرى طالبت الحكومةَ الفرنسيةَ بوقف تنفيذ أحكام الإعدام المتواصلة ضد الوطنيين الجزائريين، والإسراع في الاعتراف باستقلال الجزائر الكامل.
استمر كفاح حكومة السودان الثورية لأجل استقلال الجزائر، ففي الذكرى السابعة لثورة نوفمبر عام 1961 طالب السيد طلعت فريد عضو المجلس الأعلى للثورة السودانية ديغول بالاعتراف في استقلال الجزائر، وإلا فإن الجزائريين سيفرضون إرادتهم ويجبرونه على الخروج من الجزائر مكللًا بالعار. وأرسلت السودان عن طريق سفيرها بالقاهرة مبلغًا ماليًا حسب طاقتها لجبهة التحرير الجزائرية، وفي عام 1961م كان مؤتمر الاتحاد الدولي للنقابات العربية الذي كان يضم نقابة العمال في مصر والعراق وليبيا واليمن والسودان، وكان يضم أكثر من ستة ملايين منخرط من العمال العرب، وفيه تم اتخاذ قرار هام تضمن التدابير الضرورية واللازمة من مقاطعة البضائع الفرنسية إلى جانب وسائل النقل من بواخر وطائرات. وحدثت هذه الجرأة بعد أن كانت هذه النقابات قد قاطعت البواخر الأمريكية، وقد نجحت المقاطعة، وجاءت بنتائج إيجابية لصالح الثورة الجزائرية.
كان التجاوب الشعبي السوداني مع ثورة الجزائر كبيرًا جدًا، حيث وصف أحمد توفيق المدني أحد التجمعات الشعبية التي ألقى فيها كلمة مؤثرة بخصوص ثورة الجزائر، حيث قال: "كان للاجتماع الشعبي العظيم الذي سمحت لنا السلطة بإقامته في أم درمان أعظم الأثر في نفسي وفي إخواني. وكان الاجتماع ليلاً ووقع في مكان فسيح جدًا، يسع نحو خمسة أو ستة الاف من الناس، ورتبوا منصته أحسن ترتيب، ووضعوا على جوانبه مكبرات الصوت بصفة فنية محكمة لا أذكر أنني رأيت مثلها في الشرق، كان المنظر بديعًا حقًا، لقد اختلط سواد البشرة مع سواد الليل، ما كنت أرى من فوق المنصة إلا بحرًا من الألبسة البيضاء الفضفاضة التي تتراءى للناظر وكأنها بناء مرصوص يشد بعضه بعضًا وفوقه بحر آخر بعد انفصال قليل، هو بحر العمائم البيضاء الضخمة التي يستعملها إخوتنا من أجل مقاومة أشعة الشمس وحرارتها.
والسوداني مستمع جليل يقدر قيمة الخطيب، فلا يقاطعه بهتاف أو صراخ أو بأناشيد هوجاء كما يقع بمصر وبالعراق مثلًا، وتحمست وأسهبت في وصف الام الجزائر مما تقاسيه من بطش وإرهاق، وما يرتكب فيها من مجازر وفظائع لم تشاهد البشرية مثلها، وأكدت حاجة الجزائر إلى العونين المادي والأدبي، وبينما أنا في عنفوان الحماس أضع في الكلام قنابل محرقة، إذ بزوبعة هوجاء صارخة مدوية تنفجر في القاعة فتجرف معها كامل المستمعين، كأنما مسهم تيار كهربائي في ان واحد، وأخذت أستمع رغم إرادتي لصوت هو صوت أمة، صوت جهاد، هو صوت الضمير الحر انطلق من عقاله فجأة في سماء الشعور والإحساس، نادى الناس كافة بأصوات تشبه هزيم الرعد أثناء زوبعة عاتية عاصفة: الجهاد: الجهاد السلاح إلى الجزائر، وقال بعضهم: لا نترك النساء تذبح ونحن رجال قاعدون، وقال آخرون: لنشترك في حرب الجزائر فإن تحررت تحررنا جميعًا.
المصدر : مدونات الجزيرة