كتب بعض أهل الأهواء قديماً في الطعن في أبي هريرة ، وتابعهم في هذا العصر بعض المستشرقين أمثال (جولد تسهير وشبرنجر) في الطعن في أبي هريرة رضي الله عنه بالظلم والبهتان ، وكتب عبد الحسين شرف الدين العاملي الشيعي كتاباً تحت عنوان (أبو هريرة) وافترى فيه على أبي هريرة افتراءات يندى لها جبين العلم وتحز ضمير العلماء، وتجرح الحق ، ولا تلتقي معه ، حتى انتهى إلى تكفير أبي هريرة ، وقد استقى من هذا الكتاب أبو رية صاحب كتاب (أضواء على السنة المحمدية)؛ فكان أشد على أبي هريرة من أستاذه ، وأكثر ضلالاً وزيفاً. وأهم هذه الشبهات التي ألصقت بأبي هريرة رضي الله عنه:
أ ـ عمر وأبو هريرة رضي الله عنهما:
اتهم عبد الحسين شرف الدين وأبو رية أبا هريرة بأنه سرق عشرة الاف دينار حينما ولي البحرين لعمر ، فعزله وضربه بالدرة حتى أدماه ، لقد ذكرت جميع الروايات المعتمدة أن عمر رضي الله عنه قاسمه ماله ، كما قاسم غيره من الولاة ، وليس فيها أنه ضربه حتى أدماه ، وكان أبو هريرة يقول: اللَّهم اغفر لأمير المؤمنين؛ فلم يحقد على عمر رضي الله عنه مع أنه يعلم أن ما قاسمه إياه إنما هو عطاياه وأسهمه وغلة رقيقه ، ولو أن عمر شك في أمانة أبي هريرة بعض الشك لحاكمه وعاقبه العقوبة الشرعية ، ولكنه عرف فيه الأمانة والإخلاص فعاد إليه بعد حين يطلبه للولاية ، فأبى أبو هريرة قبولها كما أسلفنا. هذا وجه الحق الذي أخفاه عبد الحسين وأبو رية ، فعبد الحسين نقل رواية واحدة عن العقد الفريد لابن عبد ربه، حيث وجد فيها ما يوافق هواه ، واكتفى أبو رية بالنقل عن عبد الحسين من غير أن يشير إلى المصدر ومن غير بحث أو مقارنة وتمحيص. وهذا يدل على حرصهم على التزوير والإخلال بالأمانة العلمية.
ب ـ هل تشيَّع أبو هريرة للأمويين ، ووضع أحاديث في ذم علي وأبنائه؟:
وقد اتهمه عبد الحسين بأنه دعاية الأمويين في سياستهم؛ فتارة يفتئت الأحاديث في فضائلهم.. وتارة يلفق أحاديث في فضائل الخليفتين نزولاً على رغائب معاوية وفئته الباغيـة. وجمع أبو ريـة في هذا الموضوع كل شتائم كتب الشيعـة في أبي هريرة ، ونبش الأكاذيب والافتراءات على صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واعتمد الكتب التي لم يعرف مؤلفوها بالصدق ولا بالتمحيص في الرواية ، أو التي عرف مؤلفوها بالبغض القاتل لأبي هريرة.
والعقيدة التي ندين بها أن أبا هريرة رضي الله عنه كان محباً لآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، روى في فضائل الحسن والحسين أكثر من حديث، ولم يناصب أهل البيت العداء قط، ومشهور عنه: أنه تمسك بسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فكان يحب من أحبه رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن العجيب أن يدعي إنسان نهل عن العلم بعضه أن أبا هريرة يكره علياً وأهله رضي الله عنهم.
وقد كتب الأستاذ عبد المنعم صالح العزي كتابه القيم في الدفاع عن أبي هريرة ، وبيَّن حبه لعلي وفاطمة رضي الله عنهما ، وبيَّن بأنه يروي منقبة علي يوم خيبر ، عن أبي هريرة رضي الله عنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم خيبر: «لأعطين هذه الراية رجلاً يحب الله ورسوله ، يفتح الله على يديه» ـ ثم روى إعطاءه إياها ، أفهذه رواية كاره لأمير المؤمنين علي رضي الله عنه؟!.
وفي مناقب فاطمة رضي الله عنها يروي أبو هريرة قول النبي صلى الله عليه وسلم: «إن فاطمة سيدة نساء أمتي» ، وروى أبو هريرة أحاديث في حب الحسن بن علي ، وله معه وقائع وأخبار تدل على حب عظيم كان يكنه للحسن. ويروي لنا أبو هريرة صورة لحبه للحسن رضي الله عنه مع النبي صلى الله عليه وسلم فيقول: لا أزال أحب هذا الرجل بعدما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو يدخل أصابعه في لحية النبي صلى الله عليه وسلم ، والنبي صلى الله عليه وسلم يدخل لسانه في فمه ، ثم قال: «اللّهم إني أحبه فأحبه». فلا غرابة بعد هذا الحب أن رأينا أبا هريرة يبكي يوم يموت الحسن ويدعو الناس إلى البكاء ، يقول من حضر ذاك اليوم: رأيت أبا هريرة قائماً على المسجد يوم مات الحسن يبكي وينادي بأعلى صوته: يا أيها الناس! مات اليوم حب رسول الله صلى الله عليه وسلم فابكوا، ولم يكن حب الحسين بن علي أقل ظهوراً عند أبي هريرة من حب الحسن ، إذ ينقل لنا حادثة أخرى للنبي صلى الله عليه وسلم فيقول: ما رأيت الحسين بن علي إلا فاضت عيني دموعاً ، وذاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج يوماً فوجدني في المسجد ، فأخذ بيدي واتكأ علي ، فانطلقت معه حتى جاء سوق بني قينقاع ، قال: وما كلمني ، فطاف ونظر ، ثم رجع ورجعت معه فجلس في المسجد واحتبى ، وقال لي: «ادع لي لكاع» ، فأتى حسين يشتد حتى وقع في حجره ، ثم أدخل يده في لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتح فم الحسين فيدخل فاه فيه ، ويقول: «اللَّهم إني أحبه فأحبه». والقصة هذه رواها البخاري وفيها الحسن لا الحسين ، لكن الحاكم أشار إلى أن كلا الروايتين محفوظة واردة ، وذلك محتمل ، لأن فيها ذكر الرجوع إلى المسجد. ولقد أثبت عبد المنعم العزي في كتابه أقباس من مناقب أبي هريرة بالدلائل القطعية الكافية؛ منها: اعتداد أبناء علي رضي الله عنهم بحديث أبي هريرة ، وروايتهم عنه ، ورواية كبار فرسان علي وأمراء جنده ، الذين قاتلوا معه في معارك الجمل وصفين والنهروان عن أبي هريرة ، ورواية جمهرة من التابعين عنه ممن لاقوا علياً رضي الله عنه ورووا عنه ، ورواية عدد كبير آخر من جماهير الشيعة والكوفيين ومحبي ذرية علي من طبقة أتباع التابعين والطبقة التي تليهم لحديث أبي هريرة ، واستعمالهم له ، واستدلالهم به ، وتدوينه في كتبهم.
إن الحقيقة العلمية التاريخية تقول: لا يوجد أي دليل يعتمد عليه في تشيع أبي هريرة للأمويين ، أو محاربته وعداوته لعلي وأبنائه ، وإنما هو ظلم وافتراء واختلاق على الحقيقة ، وإنّ ما نسب إليه من أحاديث في مدح الأمويين ، إنما هي ضعيفة وموضوعة عليه ، وأهل الخبرة في هذا الشأن بينوا الكذابين والواضعين لها.
وأما دعوى كون الدولة الأموية وضعت أحاديث لتعمم بها رأياً من آرائها ، فهذه دعوى لا وجود لها إلا في خيال الكذّابين ، فما روى لنا التاريخ أن الحكومة الأموية وضعت أحاديث ، ونحن نسأل من زعم ذلك: أين هي تلك الأحاديث التي وضعتها الحكومة؟ إن علماءنا اعتادوا ألا ينقلوا حديثاً إلا بسنده ، وها هي أسانيد الأحاديث الصحيحة محفوظة في كتب السنة ، ولا نجد حديثاً واحداً من الافها الكثيرة في سنده عبد الملك أو يزيد أو الوليد أو أحد عمالهم كالحجاج وخالد القسري وأمثالهم ، فأين ضاع ذلك في زوايا التاريخ لو كان له وجود؟ وإذا كانت الحكومة الأموية لم تضع بل دعت إلى الوضع ، فما الدليل على ذلك؟.
وأما ما زعمه عبد الحسين وأبو رية بأن أبا هريرة كذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم إرضاء للأمويين ونكاية بالعلويين ، فأبو هريرة من كل هذا براء ، ولكنهما أوردا أخباراً ضعيفة وموضوعة لا أصل لها ، وكل ما كان في هـذا الشأن وما جاءنا من هذه الأخبار الباطلة إنما كان عن طريق أهل الأهواء الداعين إلى أهوائهم ، المتعصبين لمذاهبهم، فتجرؤوا على الحق ، ولم يعرفوا للصحبة حرمتها ، فتكلموا في خيار الصحابة ، واتهموا بعضهم بالضلال والفسق ، وقذفوا بعضهم بالكفر، وافتروا على أبي بكر وعمر وعثمان وغيرهم.
ولقد كشف أهل الحديث عن هؤلاء الكذبة، وكشف الله بهم أمر هذه الفرق ، وأماط اللثام عن وجوه المتسترين وراءها؛ فكان أصحاب الحديث هم جنود الله عز وجل، بينوا حقيقة هؤلاء ، وأظهروا نواياهم وميولهم، فما من حديث أو خبر يطعن في صحابي أو يشكك في عقيدة، أو يخالف مبادئ الدين الحنيف إلا بيَّن جهابذة هذا الفن يد صانعه، وكشفوا عن علته، فادعاء هؤلاء مردود حتى يثبت زعمهم بحجة صحيحة مقبولة، وكيف نتصور معاوية يحرض الصحابة على وضع الحديث كذباً وبهتاناً وزوراً ، ليطعنوا في أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، وقد شهد علماء الأمة من الصحابة والتابعين على عدالة معاوية، وقد بيَّن مواقفه من أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، ولم يذكر في مصدر موثوق به ما يدل على أن علياً رضي الله عنه كذّب أبا هريرة أو نهاه عن الحديث، ولكن بعض أعداء أبي هريرة يستشهدون برواية مكذوبة عن أبي جعفر الإسكافي ، وهي: أن علياً لما بلغه حديث أبي هريرة قال: ألا إن أكذب الناس ـ أو قال: أكذب الأحياء على رسول الله ـ أبو هريرة الدوسي. فهذه رواية مردودة لا نقبلها عن الإسكافي ، لأنه شيعي محترق ، ومعتزلي ناصب أهل الحديث العداء، وقد رد ابن قتيبة على جميع ما ألصقوه بالإمام علي طعناً في أبي هريرة.
جـ كثرة حديثه:
أخذ النظام المعتزلي على أبي هريرة كثرة حديثه ، وتابعه بعض المعتزلة قديماً ومنهم بشر المريسي ، وأبو القاسم البلخي ، وقد ردّ ابن قتيبة على النظام في كتابه (تأويل مختلف الحديث) ولقيت هذه الشبهة صدى في نفوس بعض المتأخرين كعبد الحسين شرف الدين الشيعي الذي سوَّد صفحات كثيرة من كتابه (أبو هريرة) ، يشك في مروياته ويستكثرها ، ويوهم القارئ أن ما رواه أبو هريرة مما رواه الصحابة الذين اشتغلوا بأمور الدولة وسياستها، ويثير هذه الشبهة نفسها أبو رية في كتابه (أضواء على السنة المحمدية) ، ويستشهد هؤلاء جميعاً بأخبار ضعيفة أو موضوعة أحياناً ، وبتأويلات وموازنات باطلة أحياناً أخرى ، وتلتقي أهواء هؤلاء بأهواء بعض المستشرقين أمثال (جولد تسيهر) الذي استكثر أيضاً مرويات أبي هريرة، وخلاصة أقوالهم: أن أبا هريرة تأخر إسلامه، وروى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم (5374) حديثاً ، وهي أكثر كثيراً مما رواه الخلفاء الأربعة وغيرهم من الصحابة الذين سبقوه إلى الإسلام.
ومن الخطأ الفاحش أن يقارن الخلفاء الراشدون وأبو هريرة في مجال الحفظ وكثرة الرواية لأسباب عديدة؛ منها:
ـ صحيح أن الخلفاء الراشدين الأربعة رضي الله عنهم سبقوا أبا هريرة في صحبتهم وإسلامهم ، ولم يروَ عنهم مثل ما روي عنه ، إلا أن هؤلاء اهتموا بأمور الدولة ، وسياسة الحكم ، وأنفذوا العلماء والقراء والقضاة إلى البلدان ، فأدوا الأمانة التي حملوها ، كما أدى هؤلاء الأمانة في توجيه شؤون الأمة؛ فكما لا نلوم خالد بن الوليد على قلة حديثه عن الرسول صلى الله عليه وسلم لانشغاله بالفتوحات ، لا نلوم أبا هريرة على كثرة حديثه لانشغاله بالعلم.
ـ انصراف أبي هريرة إلى العلم والتعليم ، واحتياج الناس إليه لامتداد عمره ، يجعل الموازنة بينه وبين غيره من الصحابة السابقين أو الخلفاء الراشدين غير صحيحة ، بل هي خطأ كبير ، وكون أبي هريرة رضي الله عنه أكثر رواية من السيدة عائشة رضي الله عنها؛ لأنها كانت تفتي الناس في دارها ، وأما أبو هريرة ، فقد اتخذ حلقة له في المسجد النبوي ، كما كان أكثر احتكاكاً بالناس من السيدة أم المؤمنين عائشة بصفته رجلاً، كثير الغدو والرواح ، وأضيف إلى هذا أن السيدة عائشة كان جل همها موجهاً نحو نساء المؤمنين ، وكان يتعذر دخول كل إنسان عليها.
إن نظرة مجردة عن الهوى تدرك أن ما روي عن أبي هريرة من الأحاديث لا يثير العجب والدهشة ، ولا يحتاج إلى هذا الشغب الذي اصطنعه أهل الأهواء وأعداء السنن ، وإن ما رواه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، سواء أسمعه منه أم من الصحابة لا يشك فيه لقصر صحبته ، بل إن صحبته تحتمل أكثر من هذا ، لأنها كانت في أعظم سنوات دولة الإسلام دعوة ونشاطاً ، وتعليماً وتوجيهاً في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ـ كثرة ملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم: فقد صحب النبي صلى الله عليه وسلم أربع سنين ، فعن أبي هريرة قال: إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله، ما حدثت حديثاً؛ ثم يتلو: {إِنَّ ٱلَّذِينَ يَكۡتُمُونَ مَآ أَنزَلۡنَا مِنَ ٱلۡبَيِّنَٰتِ وَٱلۡهُدَىٰ مِنۢ بَعۡدِ مَا بَيَّنَّٰهُ لِلنَّاسِ فِي ٱلۡكِتَٰبِ أُوْلَٰٓئِكَ يَلۡعَنُهُمُ ٱللَّهُ وَيَلۡعَنُهُمُ ٱللَّٰعِنُونَ ١٥٩ إِلَّا ٱلَّذِينَ تَابُواْ وَأَصۡلَحُواْ وَبَيَّنُواْ فَأُوْلَٰٓئِكَ أَتُوبُ عَلَيۡهِمۡ وَأَنَا ٱلتَّوَّابُ ٱلرَّحِيمُ ١٦٠} [البقرة: 159 ـ 160]. إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق ، وإن إخواننا الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم ، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم لشبع بطنه ، ويحضر ما لا يحضرون ، ويحفظ ما لا يحفظون.
ـ دعاء النبي صلى الله عليه وسلم له في الحفظ: فعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال: قلت: يا رسول الله ! إني أسمع منك حديثاً كثيراً أنساه، قال: «ابسط رداءك». فبسطته، قال: فغرف بيديه ثم قال: «ضمه». فضممته فما نسيت شيئاً بعدُ.
ـ كثرة تلامذته والناقلين عنه ، فكان عدد تلامذته قريباً من ثمانمئة.
ـ تأخر وفاته ، فقد قيل: 58 هـ ، وقيل: 59 هـ.
ثم إن هذه الأحاديث المنقولة عنه تنقسم إلى ما يلي:
* ما كان ضعيف السند لا يصح عن أبي هريرة .
* ما كان مكرراً.
* ما كان له أكثر من إسناد.
* ما رواه عن أكابر الصحابة كالعشرة وأمهات المؤمنين وغيرهم.
* ما كان موقوفاً عليه من كلامه.
وقد اتفق البخاري ومسلم على إخراج ثلاثمئة وستة وعشرين حديثاً ، وانفرد البخاري بثلاثة وتسعين ، وانفرد مسلم بثمانية وتسعين.
ثم إن جُلَّ الأحاديث التي رواها أبو هريرة لم ينفرد بروايتها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بل شاركه في روايتها غيره من الصحابة.
وأما اعتراض الشيعة على مروياته ، فإن جابر بن يزيد الجعفي روى عن محمد الباقر رضي الله عنه سبعين ألف حديث ، وعن إمام اخر مئة وأربعين ألف حديث ، وروى أبان بن تغلب عن جعفر الصادق رضي الله عنه ثلاثين ألف حديث ، وروى محمد بن مسلم عن الباقر ثلاثين ألف حديث ، وعن الصادق ستة عشر ألف حديث. وهذا يبين تناقضهم.
وقد شهد لأبي هريرة الصحابة والتابعون وجهابذة العلم بقوة الحفظ وحضور الذاكرة. فقد قال ابن عمر: يا أبا هريرة كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه ، وقال الشافعي: أبو هريرة أحفظ من روى الحديث في دهره. وقال الذهبي: .. سيد الحفاظ الأثبات ، وقال أيضاً: وأبو هريرة إليه المنتهى في حفظ ما سمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأدائه بحروفه.
وقد دافع الكثير من العلماء عن أبي هريرة وردوا الشبهات التي ألصقت به ، ومن الكتب المعاصرة التي نسفت الأباطيل التي اتهم به أبو هريرة: (العصرانيون بين مزاعم التجديد وميادين التغريب) ، و(موقف المدرسة العقلية من السنة النبوية).
ل ـ بكاء أبي هريرة في مرض موته ووصية معاوية بورثته:
لما حضر أبو هريرة الموت بكى ، فقيل له: ما يبكيك؟ فقال: ما أبكي دنياكم هذه ، ولكن أبكي على بعد سفري وقلَّة زادي ، وإني أصبحت في صعود مهبط على جنة ونار ، لا أدري إلى أيِّهما يُؤخذ بي. وجاء في رواية: وصلى عليه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان والي المدينة وفي القوم ابن عمر وأبو سعيد الخدري وخلق ، وكانت وفاته في داره بالعقيق ، فحمل إلى المدينة ، فصُلِّيَ عليه ثم دفن بالبقيع ـ رحمه الله ورضي عنه ـ وكتب الوليد بن عتبة إلى معاوية بوفاة أبي هريرة ، وكتب إليه معاوية: أن انظر ورثته فأحسن إليهم ، واصرف إليهم عشرة آلاف درهم، وأحسن جوارهم ، واعمل إليهم معروفاً ، فإنه كان ممن نصر عثمان ، وكان معه في الدار.
* هل أراد معاوية أن ينقل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام؟:
ذكر الطبري في تاريخه في أحاديث عام 50 هـ بأن معاوية أمر بمنبر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحمل إلى الشام، فحُرِّك فكسفت الشمس حتى رُئيت النجوم بادية يومئذ، فأعظم الناس ذلك ، فقال: لم أرد حمله ، إنما خفت أن يكون قد أرِضَ، فنظرت إليه ، ثم كساه يومئذٍ، وجاء في رواية أخرى: قال معاوية: إني رأيت أن منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصاه، لا يتركان بالمدينة ، وفيها قتلة أمير المؤمنين عثمان وأعداؤه ، فلما قدم طلب العصا وهي عند سعد القرظي ، فجاء أبو هريرة وجابر بن عبد الله ، فقالا: يا أمير المؤمنين ، نذكرك الله عز وجل أن تفعل هذا ، فإن هذا لا يصح ، تُخرج منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من موضع وضعه ، وتخرج عصاه من المدينة ! فترك ذلك معاوية ، ولكن زاد في المنبر ستَّ درجات ، واعتذر إلى الناس.
تحدثت الروايات السابقة عن القضايا التالية:
1 ـ عزم معاوية رضي الله عنه على نقل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصاه إلى الشام ، فقد ذكره الزبير بن بكار، واليعقوبي، وابن الجوزي، دون أن يشيروا إلى خبر العصا، أما ابن الأثير، وابن كثير، فقد أورد خبر المنبر والعصا. هذا وقال الدكتور خالد الغيث: ولم أقف على رواية صحيحة تؤكد مزاعم الواقدي ، هذا فضلاً عن أن دين معاوية ، وعدالته ، وصحبته لرسول الله صلى الله عليه وسلم تمنعه من حمل منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى الشام وهو يعلم قوله صلى الله عليه وسلم: «ما بين بيتي ومنبري روضة من رياض الجنة».
هذا وقد أورد عبد الرزاق خبر قدوم معاوية رضي الله عنه المدينة وزيادته درجات المنبر دون الإشارة إلى إرادة معاوية نقل المنبر إلى الشام ، أو أخذ العصا ، وزيادة معاوية رضي الله عنه للمنبر وكسوته تعد من مناقب معاوية التي حاول بعض الأخباريين طمسها وتشويهها.
2ـ خبر ربط كسوف الشمس بتحريك المنبر؛ فقد ذكره عبد الرزاق والزبير بن بكار ، وابن الجوزي ، وابن الأثير ، وابن كثير ، بينما ذهب اليعقوبي الشيعي إلى حدوث زلزلة عند تحريك المنبر ، وهذا الخبر لم يرد بإسناد صحيح ، هذا فضلاً عن أن كسوف الشمس على افتراض حدوثه؛ فإنه لم يكن نتيجة لتحريك المنبر ليس إلا، وقد حصل ما يشبه ذلك في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث أخرج البخاري من طريق المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: كسفت الشمس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يوم مات إبراهيم ، فقال الناس: كسفت الشمس لموت إبراهيم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر لا ينكسفان لموت أحد ، ولا لحياته ، فإذا رأيتم فصلوا ، وادعوا الله» ، وعن أبي بكرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الشمس والقمر ايتان من آيات الله ، لا ينكسفان لموت أحد ، ولكن الله تعالى يخوف بهما عباده».
3 ـ اتهام معاوية رضي الله عنه ببغض أهل المدينة (الأنصار) لكونهم قتلة عثمان بن عفان رضي الله عنه ، هذا الخبر أورده ابن الأثير ، وهو خبر ضعيف الإسناد.
وقد بينت موقف الصحابة من فتنة مقتل عثمان ، وكيف أن كعب بن مالك الأنصاري حثَّ الأنصار على نصرة عثمان رضي الله عنه ، وقال لهم: يا معشر الأنصار! كونوا أنصار الله مرتين ، فجاءت الأنصار عثمان ، ووقفوا ببابه ودخل زيد بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه ، وقال له: هؤلاء الأنصار بالباب ، إن شئت كنّا أنصار الله مرتين. فرفض القتال ، وقال: لا حاجة لي في ذلك ، كفُّوا.
وأما زعمهم أن معاوية يبغض الأنصار رضي الله عنهم لكونهم قتلة عثمان رضي الله عنه ، فمردود بما ورد من حقيقة موقف الأنصار من عثمان رضي الله عنه ، كما أن تقريب معاوية للأنصار وتوليته إياهم في مناصب هامة وحساسة يرد هذه الفرية ، ومن الشواهد على ذلك:
1ـ توليته فضالة بن عبيد الأنصاري رضي الله عنه قضاء دمشق ، وتوليته إياه منصب أمير البحرية الإسلامية في مصر.
2ـ تعيينه النعمان بن بشير الأنصاري رضي الله عنه أميراً على الكوفة.
3ـ تعيينه مسلمة بن مخلد الأنصاري رضي الله عنه أميراً على مصر والمغرب معاً.
4ـ تعيينه رويفع بن ثابت الأنصاري رضي الله عنه أميراً على طرابلس.
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
📘الدولة الأموية - الجزء الأول
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/37
📘الدولة الأموية - الجزء الثاني
http://www.alsalabi.com/salabibooksOnePage/38
كما يمكنكم تحميل الكتاب من قناتنا في التلغرام على الرابط التالي
https://t.me/alsallabi/27350
كما يمكنكم متابعة جميع حلقات السلسلة على الموقع الرسمي:
https://alsalabi.com/salabiBloggerBranchPage/26?page=18
#الصلابي
#الدولة_الأموية