الثلاثاء

1446-12-07

|

2025-6-3

من كتاب السِّيرة النَّبويّة للدكتور علي محمّد محمّد الصّلابيّ

الحلقة الثلاثون: أساليب المشركين في محاربة الدَّعوة النبويّة

أجمع المشركون على محاربة الدَّعوة الَّتي عرَّت واقعهم الجاهليَّ، وعابت الهتهم، وسفَّهت أحلامهم - أي: اراءهم، وأفكارهم - وتصوُّراتهم عن الله، والحياة، والإنسان، والكون؛ فاتَّخذوا العديد من الوسائل والمحاولات لإيقاف الدَّعوة، وإسكات صوتها، أو تحجيمها، وتحديد مجال انتشارها.

أولاً: محاولة قريش إبعاد أبي طالبٍ عن مناصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم وحمايته:

جاءت قريش إلى أبي طالب، فقالوا: إنَّ ابن أخيك هذا قد اذانا في نادينا، ومسجدنا؛ فانهه عنَّا، فقال أبو طالب لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إنَّ بني عمِّك هؤلاء زعموا: أنك تؤذيهم في ناديهم، ومسجدهم، فانْتَهِ عن أذاهم، فحلَّق رسول الله صلى الله عليه وسلم  ببصره إلى السَّماء، فقال: «ترون هذه الشَّمس؟» قالوا: نعم! قال: «فما أنا بأقدر أن أدع ذلك منكم على أن تشعَلوا منها بشعلةٍ» وفي روايةٍ: «والله! ما أنا بأقدر أن أدع ما بعثت به من أن يشعَل أحدٌ من هذه الشَّمس شعلةً من نارٍ» فقال أبو طالب: «والله ما كذب ابن أخي قطُّ، فارجعوا راشدين» [البخاري في التاريخ الكبير (4/1/51) والبيهقي في دلائل النبوة (2/187)] وحاولت قريش مرَّاتٍ عديدةً الضَّغط على رسول الله صلى الله عليه وسلم  بواسطة عائلته، ولكنَّها فشلت.

ذاع أمر حماية أبي طالب لابن أخيه، وتصميمه على مناصرته، وعدم خذلانه، فاشتدَّ ذلك على قريش غمَّاً، وحسداً، ومكراً، فمشوا إليه بعُمَارةَ بن الوليد بن المغيرة، فقالوا له: «يا أبا طالب! هذا عُمَارةُ بنُ الوليد، أنهدُ فتًى في قريشٍ، وأجملُها، فخذه، فلك عَقْلُه ونصرُه، واتَّخذه ولداً، فهو لك، وأسْلِمْ إلينا ابن أخيك هذا الذي خالف دينك، ودين ابائك، وفرَّق جماعة قومك، وسفَّه أحلامنا، فنقتله، فإنَّما هو رجلٌ برجلٍ» قال: «والله لبئس ما تسومونني! أتعطونني ابنكم أغذوه لكم، وأعطيكم ابني فتقتلونه؟! هذا والله ما لا يكون أبداً!». [السيرة النبوية لابن هشام (1/285) وابن كثير في البداية والنهاية (3/48)] .

وإنَّ المرء ليسمع عجباً، ويقف مذهولاً أمام مروءة أبي طالبٍ مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد ربط أبو طالب مصيره بمصير ابن أخيه محمَّد صلى الله عليه وسلم ، بل واستفاد من كونه زعيم بني هاشم أن ضمَّ بني هاشم، وبني المطلب إليه في حلفٍ واحدٍ، على الحياة والموت؛ تأييداً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، مسلمهم، ومشركهم على السَّواء، وأجار ابن أخيه محمَّداً إجارةً مفتوحةً لا تقبل التردُّد، أو الإحجام، كانت هذه الأعراف الجاهليَّة، والتَّقاليد العربيَّة تُسَخَّر من قبل النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  لخدمة الإسلام، وقد قام أبو طالب حين رأى قريشاً تصنع ما تصنع في بني هاشم، وبني المطلب، فدعاهم إلى ما هو عليه من منع رسول الله صلى الله عليه وسلم  والقيام دونه؛ فاجتمعوا إليه، وقاموا معه، وأجابوه إلى ما دعاهم إليه، إلا ما كان من أبي لهبٍ عدوِّ الله اللَّعين.

ولـمَّا رأى أبو طالبٍ من قومه ما سرَّه من جهدهم معه، وحَدَبهم عليه، جعل يمدحهم، ويذكر قديمهم، ويذكر فضل رسول الله صلى الله عليه وسلم  فيهم، ومكانه منهم؛ ليشدَّ لهم رأيهم، وليَحْدَبوا معه على أمره، فقال:

إذا اجْتَمَعتْ يوماً قُرَيْشٌ لِمَفْخَرٍ     

 

فَعَبْدُ مَنَافٍ سِرُّها وصَمِيمُها

وإنْ حُصِّلتْ أشْرافُ عَبْدِ مَنَافِها    

 

فَفِي هَاشِمٍ أَشْرَافُها وقَدِيْمُهَا

تَداعَتْ قريشٌ غَثُّهَا وثَمِيْنُها    

 

علينا فَلَمْ تَظْفَرْ وطَاشَتْ حُلُومُها

وكُنَّا قَديماً لا نُقِرُّ ظُلاَمَةً    

 

إذا ما ثَـنَـوْا صُعْرَ الخُدُوْدِ نُقِيْمُها

وحين حاول أبو جهل أن يَخْفِر جوارَ أبي طالبٍ، تصدَّى له حمزةُ، فَشَجَّه بقوسه، وقال له: تشتم محمَّداً وأنا على دينه! فَـرُدَّ ذلك؛ إن استطعت.

إنَّها ظاهرةٌ فذَّةٌ أن تقوم الجاهليَّة بحماية مَنْ يسبُّ الهتها، ويعيب دينها، ويسفِّه أحلامها، وباسم هذه القيم يقدِّمون المهج والأرواح، ويخوضون المعارك والحروب، ولا يُمَسُّ محمَّدٌ صلى الله عليه وسلم  بسوءٍ.

ولـمَّا خشي أبو طالب دَهماءَ العرب أن يركبوه مع قومه، قال قصيدته التي تعوَّذ فيها بحرمة مكَّة، وبمكانه منها، وتودَّد فيها أشراف قومه، وهو على ذلك يخبرهم في ذلك من شعره، أنَّه غيرُ مُسْلِمٍ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تاركه لشيءٍ أبداً حتَّى يهلك دونه؛ فقال:

ولـمَّا رأيْتُ القَوْمَ لا وُدَّ فِيْهِمُ

 

وقَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرَى والوَسَائِلِ

وقَدْ صارَحُونَا بالعَداوَةِ والأَذَى

 

وقَدْ طاوَعُوا أَمْرَ العَدُوِّ المُزَايلِ

وقد حالفوا قوماً عَلَيْنَا أَظِنَّةً

 

يَعضُّون غَيظاً خَلْفَنا بالأنَامِلِ

صَبَرْتُ لهمْ نَفْسِي بحَمْرَاءَ سَمْحةٍ

 

وأَبْيَضَ عَضْبمِنْ تُرَاثِ المَقَاوِلِ

وأحْضَرْتُ عِنْدَ الْبَيْتِ رَهْطِي

 

وأَمْسَكْتُ مِنْ أَثْوَابِه بالوَصَائلِ

وتعوَّذ بالبيت، وبكلِّ المقدَّسات الَّتي فيه، وأقسم بالبيت بأنَّه لن يُسْلِمَ محمَّداً ولو سالت الدِّماء أنهاراً، واشتدَّت المعارك مع بطون قريشٍ:

كَذَبْتُمْ وبَيْتِ الله نُبْزَى مُحمَّداً

 

ولـمَّا نُطَاعِنْ دُوْنَهُ ونُنَاضِل

ونُسْلِمه حتَّى نُصَرَّعَ حَوْلَهُ

 

ونُذْهَلَ عَنْ أَبْنَائِنَا والْحَلائِلِ

ويَنْهضُ قَوْمٌ في الحَدِيْدِ إِلَيْكُمُ

 

نُهُوْضَ الرَّوَايا تَحْتَ ذَاتِ الصَّلاصِلِ

وقَرَّع زعماءَ بني عبد منافٍ بأسمائهم لخذلانهم إيَّاه، فلعتبة بن ربيعة يقول:

فَعُتْبَةُ لاَ تَسْمَعْ بِنَا قَوْلَ كَاشِحٍ

 

حَسُوْدٍ كَذُوبٍ مُبْغِضٍ ذِيْ دَغاوِلِ

ولأبي سفيان بن حربٍ يقول:

ومَرَّ أَبُو سُفْيَانَ عَنِّيَ مُعْرِضاً

 

كَمَا مرَّ قَيْلٌ مِنْ عِظَامِ المَقَاوِلِ

يَفِرُّ إلى نَجْدٍ وَبَرْدِ مِيَاهِهِ

 

ويَزْعُمُ أنِّي لَسْتُ عَنْكُمْ بِغَافِلِ

وللمُطْعم بن عديِّ سيِّد بني نوفل يقول:

أمُطعِمُ لَم أخْذُلْكَ في يَوْمِ نَجْدَةٍ

 

وَلاَ مُعْظِمٍ عِنْدَ الأمُوْرِ الجَلاِئلِ

أمُطْعِمُ إنَّ الْقَوْمَ سَامُوْكَ خُطَّةً

 

وإنِّي مَتَى أُوكَلَ فَلَسْتُ بِوَائلِ

جَزَى اللهُ عَنَّا عَبْدَ شَمْسٍ ونَوْفَلاً

 

عُقُوبةَ شرٍّ عَاجِلاً غَيْرَ آجلِ

لقد كان كسب النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  لعمِّه، وجذبه إلى صفِّه للدِّفاع عنه، نصراً عظيماً، وقد استفاد صلى الله عليه وسلم  من العُرْف القبليِّ، فتمتَّع بحماية العشيرة، ومُنِع من أيِّ اعتداء يقع عليه، وأعطي حرِّيَّة التَّحرُّك والتَّفكير، وهذا يدلُّ على فهم النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  للواقع الَّذي يتحرَّك فيه، وفي ذلك درسٌ بالغٌ للدُّعاة إلى الله تعالى للتَّعامل مع بيئتهم، ومجتمعاتهم، والاستفادة من القوانين، والأعراف، والتقاليد لخدمة دين الله.

ثانياً: محاولة تشويه دعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم:

قام مشركو مكَّة بتشويه دعوة الرَّسول صلى الله عليه وسلم ، ولذلك نظَّمت قريش حرباً إعلاميَّةً ضدَّه لتشويهه، قادها الوليد بن المغيرة؛ حيث اجتمع مع نفر من قومه، وكان ذا سنٍّ فيهم، وقد حضر موسم الحجِّ، فقال لهم: يا معشر قريش! إنه قد حضر الموسم، وإن وفود العرب ستقدم عليكم، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا، فيُكذِّب بعضكم بعضاً، ويردُّ قولكم بعضُه بعضاً.

ـ فقالوا: فأنت أبا عبد شمس! فقلْ، وأقِمْ لنا رأياً نقول به.

ـ قال: بل أنتم فقولوا أسمع.

ـ فقالوا: نقول: كاهنٌ.

ـ فقال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكُهَّانَ، فما هو بزمزمة الكاهن، ولا سَجْعه.

ـ فقالوا: نقول: مجنونٌ.

ـ فقال: ما هو بمجنونٍ، لقد رأينا الجنونَ، وعرفناه، فما هو بخَنْقِه، ولا تَخالُجِه، ولا وَسْوَسَتِه.

ـ فقالوا: نقول: شاعرٌ.

ـ فقال: ما هو بشاعرٍ، قد عرفنا الشِّعر برجزه، وقريضه، ومقبوضه، ومبسوطه، فما هو بالشِّعر.

ـ قالوا: فنقول ساحرٌ.

ـ قال: ما هو ساحر، لقد رأينا السُّحَّار، فما هو بِنَفْثِهِمْ، ولا عَقْدِهِمْ.

ـ قالوا: فما نقول يا أبا عبد شمس؟!

ـ قال: والله! إنَّ لقوله لحلاوةً، وإن أصله لعَذقٌ، وإن فرعه لَجَنَاةٌ، وما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عُرِف أنَّه باطلٌ، وإن أقرب القول لأن تقولوا: ساحرٌ، فقولوا: ساحرٌ يفرِّق بين المرء وبين أبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.

وأنزل الله تعالى في الوليد: ﴿ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا *وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا *وَمَهَّدْتُّ لَهُ تَمْهِيدًا *ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ *كَلاَّ إِنَّهُ كَانَ لآياتنَا عَنِيدًا *سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا *إِنَّهُ فَكَّرَ وقَدَّرَ *فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ *ثُمَّ نَظَرَ *ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ *ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ *فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ *إِنْ هَذَا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ *سَأُصْلِيهِ سَقَرَ ﴾ [المدثر: 11 - 26] .

ويتَّضح من هذه القصَّة: أنَّ الحرب النَّفسيَّة المضادَّة للرَّسول صلى الله عليه وسلم  لم تكن توجَّه اعتباطاً، وإنَّما كانت تعدُّ بإحكام ودقَّةٍ بين زعماء الكفَّار، وحسب قواعد معيَّنةٍ، هي أساس القواعد المعمول بها في تخطيط الحرب النَّفسيَّة في العصر الحديث؛ كاختيار الوقت المناسب، فهم يختارون وقت تجمُّع النَّاس في موسم الحج، والاتِّفاق وعدم التَّناقض، وغير ذلك من هذه الأسُّس حتَّى تكون حملتهم منظَّمةً، وبالتَّالي لها تأثيرٌ على وفود الحجيج، فتؤتي ثمارها المرجوَّة منها، ومع اختيارهم للزَّمان المناسب، فقد اختاروا أيضاً مكاناً مناسباً حتَّى تصل جميع الوفود القآدمة إلى مكَّة.

ويتَّضح من هذا الخبر، عظمة النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم  وقوَّته في التَّأثير بالقرآن على سامعيه، فالوليد بن المغيرة كبير قريش ومن أكبر ساداتهم، ومع ما يحصل عادة للكبراء من التكبُّر، والتَّعاظم، فإنَّه قد تأثَّر بالقرآن، ورقَّ له، واعترف بعظمته، ووصفه بذلك الوصف البليغ، وهو في حالة استجابة لنداء العقل، ولم تستطع تلك الحرب الإعلاميَّة المنظَّمة أن تحاصر دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ بل استطاع محمَّد صلى الله عليه وسلم  أن يخترق حصار الأعداء، الَّذين لم يكتفوا بتنفير ساكني مكَّة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتشويه سمعته عندهم؛ بل صاروا يتلقَّون الوافدين إليهم ليسمِّموا أفكارهم، وليحولوا بينهم وبين سماع كلامه، والتأثُّر بدعوته، فقد كان رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عظيمَ النَّجاح في دعوته، بليغاً في التأثير فيمن خاطبه، حيث يؤثِّر على من جالسه بهيئته، وسَمْتِه، ووقاره قبل أن يتكلَّم، ثمَّ إذا تحدَّث أسَرَ سامعيه بمنطقه البليغ، المتمثِّل في العقل السَّليم، والعاطفة الجيَّاشة بالحبِّ والصَّفاء، والنِّـيَّة الخالصة في هداية الأمَّة بوحي الله تعالى.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022