من كتاب السِّيرة النَّبويّة للدكتور علي محمّد محمّد الصّلابيّ
الحلقة التاسعة والثلاثون
حصار المشركين الاقتصاديُّ والاجتماعيُّ للنبيّ في نهاية العام السابع من البعثة
ازداد إيذاء المشركين من قريش، أمام صبر الرَّسول صلى الله عليه وسلم والمسلمين على الأذى، وإصرارهم على الدَّعوة إلى الله، وإزاء فشو الإسلام في القبائل، وبلوغ الأذى قمَّته في الحصار الماديِّ، والمعنويِّ؛ الَّذي ضربته قريشٌ ظلماً، وعدواناً على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ومَنْ عطف عليهم مِنْ قرابتهم.
قال الزُّهريُّ: «ثمَّ إنَّ المشركين اشتدُّوا على المسلمين كأشدِّ ما كانوا؛ حتَّى بلغ المسلمين الجهد، واشتدَّ عليهم البلاء، وأجمعت قريش أن يقتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيةً؛ فلـمَّا رأى أبو طالب عمل القوم؛ جمع بني عبد المطلب، وأمرهم أن يُدخِلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم شِعْبَهم، ويمنعوه ممَّن أراد قتله، فاجتمعوا على ذلك مسلمُهم وكافرُهم، فمنهم مَنْ فعله حَمِيَّةً، ومنهم من فعله إيماناً، ويقيناً، فلـمَّا عرفت قريشٌ: أنَّ القوم قد منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ أجمعوا أمرهم ألا يجالسوهم، ولا يبايعوهم، ولا يَدْخُلوا بيوتهم؛ حتَّى يُسلموا رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتل، وكتبوا من مكرهم صحيفةً، وعهوداً ومواثيق؛ ألا يتقبَّلوا من بني هاشم أبداً صلحاً، ولا تأخذهم بهم رأفةٌ؛ حتَّى يسلموه للقتل.
وفي روايةٍ: « ... على ألا ينكحوا إليهم، ولا يُنْكحوهم، ولا يبيعوهم شيئاً، ولا يبتاعوا منهم، ولا يَدَعُوا سبباً من أسباب الرِّزق يصل إليهم، ولا يقبلوا منهم صُلحاً، ولا تأخذهم بهم رأفةٌ، ولا يخالطوهم، ولا يجالسوهم، ولا يكلِّموهم، ولا يدخلوا بيوتهم، حتَّى يُسْلِمُوا إليهم رسولَ الله صلى الله عليه وسلم للقتل، ثمَّ تعاهدوا وتواثقوا على ذلك، ثمَّ علَّقوا الصَّحيفة في جوف الكعبة توكيداً على أنفسهم».
فلبث بنو هاشم في شِعْبهم ثلاث سنين، واشتدَّ عليهم البلاء، والجهد، وقطعوا عنهم الأسواق، فلا يتركون طعاماً يقدم من مكَّة ولا بيعاً إلا بادروهم إليه، فاشتروه، يريدون بذلك أن يدركوا سفك دم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان أبو طالب إذا أخذ النَّاسُ مضاجعهم؛ أمر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم فأتى فراشه حتَّى يراه من أراد به مكراً، أو غائلة، فإذا نام النَّاس؛ أخذ أحد بنيه، أو إخوته، أو بني عمِّه، فاضطجع على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأمر رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي بعض فرشهم، فيرقد عليها.
واشتدَّ الحصار على الصَّحابة، وبني هاشم، وبني المطلب، حتَّى اضطروا إلى أكل ورق الشَّجر، وحتى أصيبوا بشظف العيش، وشدَّته إلى حدِّ أنَّ أحدهم يخرج ليبول، فيسمع بقعقعة شيءٍ تحته، فإذا هي قطعةٌ من جلد بعيرٍ، فيأخذها، فيغسلها، ثمَّ يحرقها، ثم يسحقها، ثمَّ يستفُّها، ويشرب عليها الماء، فيتقوى بها ثلاثة أيام، وحتَّى لتسمع قريشٌ صوت الصِّبية يتضاغون من وراء الشِّعْب من الجوع.
فلـمَّا كان رأس ثلاث سنين، قيَّض الله - سبحانه وتعالى - لنقض الصَّحيفة أناساً من أشراف قريشٍ، وكان الَّذي تولَّى الانقلاب الدَّاخلي لنقض الصَّحيفة، هشام بن عمرو الهاشمي، فقصد زهير بن أبي أميَّة المخزومي، وكانت أمُّه عاتكة بنت عبد المطَّلب، فقال له: يا زهير! أقد رضيت أن تأكل الطَّعام، وتلبس الثِّياب، وتنكح النِّساء وأخوالك حيث قد علمت، لا يبتاعون، ولا يُبتاع منهم، ولا يَنكْحون، ولا يُنْكح إليهم؟ أما إني أحلف بالله، لو كانوا أخوال أبي الحكم بن هشام، ثمَّ دعوته إلى مثل ما دعاك إليه منهم؛ ما أجابك إليه أبداً، قال: ويحك يا هشام! فماذا أصنع؟ إنَّما أنا رجلٌ واحدٌ، والله لو كان معي رجلٌ آخر؛ لقمت في نقضها! فقال له: قد وجدت رجلاً، قال: من هو؟ قال: أنا، فقال له زهير: أبْغِنَا ثالثاً.
فذهب إلى المُطْعِم بن عديٍّ، فقال له: يا مُطْعِمُ! أقد رضيت أن يَهْلِك بطنان من بني عبد مناف، وأنت شاهدٌ على ذلك، موافقٌ لقريشٍ فيهم؟ أما والله لو أمكنتموهم من هذه؛ لتجدنَّهم إليها منكم سراعاً! قال: ويحك! فماذا أصنع؟ إنَّما أنا رجلٌ واحدٌ، قال: قد وجدت لك ثانياً، قال: من؟ قال: أنا، قال: أبغنا ثالثاً، قال: قد فعلت، قال: مَنْ؟ قال: زهير بن أبي أميَّة، فقال: أبغنا رابعاً، فذهب إلى أبي البختري بن هشام، فقال له نحواً ممَّا قال للمطعم بن عديٍّ، فقال له: ويحك! وهل نجد أحداً يعين على ذلك؟ قال: نعم، زهير بن أبي أميَّة، والمطعم بن عديِّ، وأنا، فقال: أبغنا خامساً، فذهب إلى زمعة بن الأسود بن المطَّلب بن أسد، فكلَّمه، وذكر له قرابته، وحقَّهم، فقال له: وهل على هذا الأمر الَّذي تدعوني إليه من أحدٍ؟ قال: نعم، ثمَّ سمَّى له القوم؛ فاتَّعدوا خَطْم الحَجون ليلاً بأعلى مكَّة، فاجتمعوا هناك، وأجمعوا أمرهم، وتعاقدوا على القيام في الصَّحيفة حتَّى ينقضوها، وقال زهير: أنا أبدؤُكم، فأكون أوَّل من يتكلَّم، فلما أصبحوا غدوا إلى أنديتهم، وغدا زهير بن أبي أميَّة عليه حُلَّةٌ، فطاف بالبيت سبعاً، ثمَّ أقبل على النَّاس، فقال: أنأكل الطَّعام، ونلبس الثِّياب، وبنو هاشم هلكى لا يبتاعون، ولا يبتاع منهم، والله لا أقعد حتى تُشقَّ هذه الصحيفة القاطعة الظالمة ! فقال أبو جهل - وكان في ناحية المسجد -: كذبت والله لا تُشقُّ ! فقال زمعة بن الأسود: أنت والله أكذب! ما رضينا كتابتها حين كُتبت، فقال أبو البختري: صدق زمعة، لا نرضى ما كُتب فيها، ولا نُقِرُّ به، فقال المطعم بن عديٍّ: صدقتما، وكذبَ مَنْ قال غير ذلك، نبرأ إلى الله منها، وممَّا كُتِبَ فيها، وقال هشام بن عمرو نحواً من ذلك، فقال أبو جهل: هذا أمرٌ قضي بليلٍ، تُشُووِرَ فيه في غير هذا المكان، وأبو طالب جالس في ناحية المسجد لا يتكلَّم.
وقام المُطْعم بن عدِيِّ إلى الصَّحيفة ليشقَّها، فوجد الأَرَضَةَ قد أكلتها، إلا «باسمك اللَّهمَّ».
قال ابن هشام: وذكر بعض أهل العلم: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم - قال لأبي طالب: يا عم ! إن ربي الله قد سلط الأَرَضَة على صحيفة قريش، فلم تدع فيها اسماً هو لله إلا أثبتته فيها، ونفت منه الظلم والقطيعة والبهتان؛ فقال: أربك أخبرك بهذا ؟ قال: نعم؛ قال: فوالله ما يدخل عليك أحد، ثم خرج إلى قريش فقال: يا معشر قريش ! إن ابن أخي أخبرني بكذا وكذا، فهلم صحيفتكم، فإن كان كما قال ابن أخي، فانتهوا عن قطيعتنا، وانزلوا عما فيها، وإن يكن كاذباً دفعت إليكم ابن أخي، فقال القوم: رضينا، فتعاقدوا على ذلك، ثم نظروا، فإذا هي كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزادهم ذلك شراً. فعند ذلك صنع الرهط من قريش في نقض الصحيفة ما صنعوا.
- دروسٌ، وعبرٌ، وفوائد:
1 - إنَّ المتأمِّل لبنود هذه الاتِّفاقيَّة، يجد: أنَّ قريشاً قد أحكمت البنود، ولم تدع فيها ثُغْرَةً يمكن النفاذ من خلالها، ممَّا يؤكد: أنَّها وُضِعت بعد مداولاتٍ، ومشاوراتٍ على نطاقٍ واسعٍ، وشاركت في وضعها عقولٌ مفكرةٌ، امتزجت معها خبراتٌ عديدةٌ، وحبكَها ذكاءٌ مفرطٌ.
2 - في عدم الزَّواج بين الطَّرفين، جانب اجتماعيٌّ مهمٌّ؛ فالزَّواج غالباً ما يؤدِّي إلى التالف، والتاخي، والتَّراحم، والتَّواصل، والتَّزاور بين أهل الزَّوجين، فإذا تمَّ شيءٌ من ذلك؛ فسيؤدِّي إلى فشل الحصار، وحتَّى لا يحدث ذلك نصَّتِ الوثيقةُ على عدم الزَّواج بين الطَّرفين.
3 - وفي النَّهي عن البيع، والشِّراء منهم يَظْهر جانبٌ اقتصاديٌّ بالغ الأهمِّيَّة، فالبيع، والشِّراء عصب الحياة الاقتصادية، ويقوم عليه تبادل المنافع بين بني البشر، فإذا انعدم ذلك التَّعامل؛ انهار البناء الاقتصاديُّ، وباتت الحياة الاقتصاديَّة مهدَّدةً بالخطر، فيصبح الإنسان مفتقداً لضروريات الحياة؛ ممَّا يعرضه إلى الرُّضوخ، والانصياع لأوامر مَنْ يملك تلك الضروريات، ومعلومٌ أثر ذلك على الجماعة، والأفراد، فأرادت قريش من ذلك البند تجويع المسلمين، وهذا ما وقع فعلاً، فقد جاء: أنَّهم جُهِدوا حتَّى كانوا يأكلون ورق الشَّجر، والجلود.
4 - وزيادةً في الحصار الاقتصاديِّ، وضعوا بنداً يسدُّ الطَّريق أمام المسلمين في التَّعامل مع التُّجار الوافدين من خارج مكَّة، فكانوا يغلون على المسلمين في السِّعر حتَّى لا يدرك الصَّحابة شيئاً يشترونه، فيرجعون إلى أطفالهم الَّذين يتضاغون جوعاً؛ وليس في أيديهم شيءٌ يشغلونهم به، فكان يُسمَعُ بُكَاء الأطفال من بعيدٍ. كل هذا التضييق بسبب البند الَّذي يقول: «ولا يدعوا شيئاً من أسباب الرِّزق يصل إليهم»، كما أنَّ هذا البند يفوِّت الحجَّة على مَنْ أراد أن يهديَ شيئاً لأهل الشِّعب، بحجة: أنَّه لا يبيع، وإنَّما يهدي، وحتَّى لا تبقى ذريعةٌ لإيصال الطَّعام إليهم تحت أيِّ مسمَّى وضعت قريش هذا البند.
5 - والبند التَّالي: «ولا تقبلوا منهم صلحاً»، يسدُّ الطَّريق أمام أيِّ خيارٍ آخر سوى تسليم محمَّدٍ صلى الله عليه وسلم ، فلا مجال لأنصاف الحلول عندهـم، أمَّا البنـد الذي يقضي «بألا تأخذهم بهم رأفةٌ»، فهو بندٌ يضع قيوداً حتَّى على العواطف؛ كي لا يكون للرأفة، والرَّحمة وجودٌ بين أهل الصَّحيفة تجاه المؤمنين؛ لأنَّ الرَّحمة والرَّأفة قد تقودان إلى فكِّ الحصار؛ الَّذي يؤدِّي بـدوره إلى فشـل جهود قريش، وهو ما لا تهواه، لذا عملت على إبطال مفعول الرَّأفة بوضعها لهذا البند في الصَّحيفة.
6 - وفي «عدم مجالستهم، ومخالطتهم، وكلامهم»، سدُّ ثغرةٍ مهمَّةٍ ربُّما جاء من قِبَلِها خطرٌ على المقاطعة والحصار؛ لأنَّ المجالسة، والمخالطة، والكلام مع المسلمين، يؤدِّي إلى النِّقاش، وتبادل الاراء، ووجهات النَّظر، فقد يُقنِع المسلمون بعض أهل الصَّحيفة بخطأ ما هم عليه؛ لأنَّ المسلمين يملكون من الحقِّ والأدلَّة ما يمكن أن يقنعوا بها سواهم، وحتَّى لا يتمَّ ذلك نصَّت الصَّحيفة على عدم المجالسة، والمخالطة والكلام.
7 - قولهم: «لا يدخلوا بيوتهم»، بندٌ لا يختلف عمَّا سبقه؛ لأنَّ دخولهم البيوت يحرِّك الجوانب الإنسانيَّة في النَّفس، فالإنسان عندما يرى بيتاً يخلو من أقلِّ مقومات الحياة، وأصاب أهله الجوع، والعري، والمرض، ليس لذنبٍ سوى أنَّهم اختاروا ديناً غير دين قريشٍ؛ لاشكَّ أنَّ العاطفة ستتحرَّك عندهم، وسيحاولون رفع هذا الظُّلم، وتلك المعاناة، وحتَّى لا تقع قيادة قريش في مثل هذا الموقف نصَّت على عدم دخول البيوت.
8 - وتعليق الصَّحيفة في الكعبة يعطيها قدسيَّةً، ويجعل بنودها تأخذ طابع القداسة الَّتي يجب التَّقيُّد، والالتزام بها، فالعرب قاطبةً تقدِّس الكعبة، وتضع لها مكاناً سامياً من الحرمة والقدسيَّة، لذا عمَدت قريش إلى تعليق الصَّحيفة داخل الكعبة.
9 - إنَّ مشركي بني هاشمٍ، وبني المطّلب تضامنوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحموه كأثرٍ من أعراف الجاهليَّة، ومن هنا، ومن غيره، نأخذ: أنَّه يسع المسلم أن يستفيد من قوانين الكفر فيما يخدم الدَّعوة، على أن يكون ذلك مبنِيّاً على فتوى صحيحةٍ من أهلها.
10 - إنَّ حقوق الإنسان في عصرنا ضمانٌ للمسلم، والحرِّيَّة الدِّينيَّة في كثير من البلدان يستفاد منها، وقوانين كثيرةٌ من أقطار العالم تعطي للمسلمين فرصاً، وعلى المسلمين أن يستفيدوا من ذلك، وغيره من خلال موازناتٍ دقيقةٍ.
11 - من المهمِّ أن تعلم: أنَّ حماية أقارب رسول الله صلى الله عليه وسلم له لم تكن حمايةً للرِّسالة الَّتي بُعِث بها، وإنَّما كانت لشخصه من الغريب، وإذا أمكن أن تستغلَّ هذه الحماية من قِبَلِ المسلمين كوسيلةٍ من وسائل الجهاد والتغلُّب على الكافرين، والردِّ لمكائدهم وعدوانهم؛ فأنعم بذلك من جهدٍ مشكورٍ، وسبيلٍ ينتبهون إليها!.
12 - لم يستطع أبو طالب أن يقاوم هذا التَّحالف الباغي إلا بالحرب السياسية من جهةٍ، ومحاولة تفتيت هذا التَّحالف، فعمل قصيدته اللاَّمية المشهورة وفي بدايتها قال:
ولـمَّا رأَيْتُ القَوْمَ لا وُدَّ عِنْدَهُمْ وقَدْ قَطَعُوا كُلَّ العُرَا والْوَسَائِلِ
13 - انتصر أبو طالب في غزو المجتمع القرشيِّ بقصائده الضَّخمة، الَّتي هزَّت كيانه هزاً، وتحرَّك لنقض الصَّحيفة مَنْ ذكرنا مِنْ قبل، أولئك الخمسة الَّذين يمتُّون بصلة قرابةٍ، أو رحمٍ لبني هاشم، وبني المطَّلب، واستطاعوا أن يرفعوا هذه الظُّلامة وهذا الحيف عن المسلمين، وأنصارهم، وحلفائهم، وخطَّطوا له، ونجحوا فيه.
14 - ظاهرة أبي لهبٍ تستحقُّ الدِّراسة والعناية؛ لأنَّها تتكرَّر في التَّاريخ الإسلاميِّ، فقد يجد الدُّعاة من أقرب حلفائهم مَنْ يقلب لهم ظهر المِجَنِّ، ويبالغ في إيذاء الدُّعاة وحربهم أكثر بكثير من خصومهم الألدَّاء الأشدَّاء.
15 - كانت تعليمات الرَّسول صلى الله عليه وسلم لأفراد المسلمين ألا يواجهوا العدوَّ، وأن يضبطوا أعصابهم، فلا يُشْعِلوا فتيل المعركة، أو يكونوا وقودها؛ وإنَّ أعظم تربيةٍ في هذه المرحلة هي صبر أبطال الأرض على هذا الأذى دون مقاومةٍ؛ حمزةُ، وعمر، وأبو بكرٍ، وعثمان، وغيرهم - رضي الله عنهم - سمعوا وأطاعوا، فلقوا كلَّ هذا الأذى، وهذا الحقد، وهذا الظُّلم، فكفوا أيديهم، وصبروا ليس على حادثـةٍ واحدةٍ فقط، أو يومٍ واحدٍ فقط، بل ثلاث سنين عجافٍ، تحترق أعصابهم، ولا يسمح لهم برمية سهمٍ أو شجَّة رأسٍ.
16 - أثبتت الأحداث عظمة الصَّفِّ المؤمن في التزامه بأوامر قائده، وبُعْده عن التَّصرُّفات الطَّائشة؛ فلم يكن شيءٌ أسهلَ من اغتيال أبي جهلٍ، وإشعال معركة غير مدروسةٍ - لا يعلم إلا الله مداها - وغير متكافئةٍ.
17 - كانت الدَّعوة الإسلاميَّة تحقِّق انتصاراتٍ رائعةً في الحبشة، وفي نجران، وفي أزْد شنوءة، وفي دَوس وفي غِفار، وكانت تتمُّ في خطٍّ واضحٍ، سيكون سنداً للإسلام، ومراكز قوى يمكن أن تتحرَّك في اللَّحظة الحاسمة، وامتدادات للدَّعوة، تتجاوز حدود مكَّة الصَّلْدة المستعصية.
18 - كانت هذه السَّنوات الثلاث للجيل الرَّائد زاداً عظيماً في البناء، والتَّربية، حيث ساهم بعضه في تحمُّل الام الجوع، والخوف، والصَّبر على الابتلاء، وضبط الأعصاب، والضَّغط على النُّفوس، والقلوب، ولجم العواطف عن الانفجار.
19 - كانت بعض الشَّخصيات في الصَّفِّ المشرك تبنى في داخلها بالتَّربية النَّبويَّة، وتتأثر بعظمة شخصية النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم ، وتتفاعل في أعماقها مع المبادئ الَّتي يقدِّمها الدِّين الجديد، لكن سيطرة الملأ، وسطوة الكبراء كانت تحول دون إبراز هذا التَّفاعل، وهذا الحبِّ، وهذه التَّربية، وختام قصَّة الصَّحيفة تقدِّم لنا أجلى بيانٍ عن ذلك.
20 - قيام الحجج الدَّامغة، والبراهين السَّاطعة، والمعجزات الخارقة لا يؤثِّر في أصحاب الهوى، وعبدة المصالح والمنافع؛ لأنَّهم يلغون عقولهم، ويغلقون قلوبهم، وعقولهم عن التدبُّر، ويصمُّون اذانهم عن سماع الحقِّ، ويغمضون أعينهم عن النَّظر والتأمُّل والاهتداء إلى الحقِّ بعد قيام الأدلَّة عليه، فلقد أخبرهم أبو طالب بما أخبر به الرَّسول صلى الله عليه وسلم بما حدث للصَّحيفة من أكل الأرَضَة لها، وبقاء اسم الله فقط «باسمك اللَّهمَّ» ورأوا ذلك بأمِّ أعينهم، فما امن منهم أحدٌ، إنَّه الهوى الذي يغشي عن الحقِّ، ويصمُّ الاذان عن سماعه.
21 - كانت حادثة المقاطعة الاقتصادية والاجتماعية سبباً في خدمة الدَّعوة والدِّعاية لها بين قبائل العرب، فقد ذاع الخبر في كلِّ القبائل العربيَّة من خلال موسم الحجِّ، ولفت أنظار جميع الجزيرة العربية إلى هذه الدَّعوة، الَّتي يتحمَّل صاحبها وأصحابه الجوع، والعطش، والعزلة لكلِّ هذا الوقت، وآثار في نفوسهم: أنَّ هذه الدَّعوة حقٌّ، ولولا ذلك لما تحمَّل صاحب الرِّسالة وأصحابه كلَّ هذا الأذى والعذاب.
22 - آثار هذا الحصار سخط العرب على كفار مكَّة لقسوتهم على بني هاشمٍ وبني المطلب، كما آثار عطفهم على النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فما إن انفك الحصار، حتَّى أقبل النَّاس على الإسلام، وحتَّى ذاع أمر هذه الدَّعوة، وتردَّد صداها في كلِّ بلاد العرب، وهكذا ارتدَّ سلاح الحصار الاقتصاديِّ على أصحابه، وكان عاملاً قويّاً من عوامل انتشار الدَّعوة الإسلاميَّة، عكس ما أراد زعماء الشِّرك تماماً.
23 - كان لوقوف بني هاشم، وبني المطَّلب مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتحمُّلهم معه الحصار الاقتصاديَّ، والاجتماعيَّ، أثرٌ في الفقه الإسلاميِّ؛ حيث إنَّ سهم ذوي القربى من الخمس يعطى لبني هاشم، وبني المطَّلب، ويوضح ابن كثير هذا الحكم لدى تفسيره قوله تعالى: ﴿وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنفال: 41].
فيقول: «وأمَّا سهم ذوي القربى، فإنَّه يصرف إلى بني هاشمٍ، وبني المطَّلب؛ لأن بني المطَّلب وازروا بني هاشم في الجاهليَّة وفي أوَّل الإسلام، ودخلوا معهم الشِّعْب غضباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وحمايةً لهم، مسلمُهم طاعةً لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وكافرهم حميَّة للعشيرة، وأنفةً، وطاعةً لأبي طالب عمِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وأمَّا بنو عبد شمس، وبنو نوفل، وإن كانوا بني عمِّهم؛ فلم يوافقوهم على ذلك؛ بل حاربوهم، ونابذوهم ومالؤوا بطون قريش على حرب الرَّسول صلى الله عليه وسلم ؛ ولهذا كان ذمُّ أبي طالبٍ لهم في قصيدته اللاَّمية أشدَّ من غيرهم لشدَّة قربهم... وفي بعض روآيات هذا الحديث: إنَّهم لم يفارقونا في جاهليةٍ، ولا إسلامٍ [أبو داود (2980) والنسائي (7/130) وأحمد (4/81)]، وهذا قول جمهور العلماء: أنَّهم بنو هاشم، وبنو المطلب».
24 - لـمَّا أذن الله بنصر دينه، وإعزاز رسوله صلى الله عليه وسلم ، وفتح مكَّة، ثمَّ حجَّة الوداع؛ كان النَّبيُّ صلى الله عليه وسلم يؤثر أن ينزل في خَيْف بني كنانة؛ ليتذكَّر ما كانوا فيه من الضِّيق، والاضطهاد، فيشكر الله على ما أنعم عليه من الفتح العظيم، ودخولهم مكَّة - التي أخرجوا منها - وليؤكِّد قضية انتصار الحقِّ، واستعلائه، وتمكين الله لأهله الصَّابرين، فعن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قلت: يا رسول الله! أين تنزل غداً؟ - في حجَّته - قال: وهل ترك لنا عَقِيلٌ منزلاً؟ ثمَّ قال: نحن نازلون غداً بِخَيْف بني كنانة، الْمُحَصَّبِ، حيث قاسمت قريشٌ على الكفر، وذلك: أنَّ بني كنانة حالفت قريشاً على بني هاشم: ألاَّ يبايعوهم، ولا يؤووهم. قال الزُّهريُّ: والخَيْفُ: الوادي. [البخاري (3058) ومسلم، طرفه الأول (1351) وأحمد (5/202) وأبو داود (2010) وابن ماجه (2942) ].
25 - على كل شَعْبٍ في أيِّ وقتٍ يسعى لتطبيق شرع الله أن يضع في حسبانه احتمالات الحصار، والمقاطعة من أهل الباطل، فالكفر ملَّةٌ واحدةٌ؛ فعلى قادة الأمَّة الإسلاميَّة تهيئة أنفسهم، وأتباعهم لمثل هذه الظُّروف، وعليهم وضع الحلول المناسبة لها إذا حصلت، وأن تفكِّر بمقاومة الحصار بالبدائل المناسبة؛ كي تتمكَّن الأمَّة من الصُّمود في وجه أيِّ نوعٍ من أنواع الحصار.