السبت

1447-01-03

|

2025-6-28

غزوة أحد (في قلب المعركة):

الحلقة ٨٤

أولاً: بدء القتال واشتداده، وبوادر الانتصار للمسلمين:

في بداية القتال، حاول أبو سفيان أن يُوجِدَ شرخاً، وتصدُّعاً في جبهة المسلمين المتماسكة، فأرسل إلى الأنصار يقول: «خَلُّوا بيننا وبين ابن عمِّنا، فننصرف عنكم، فلا حاجة بنا إلى قتالكم» فردُّوا عليه بما يكره، ولـمَّا فشلت المحاولة الأولى؛ لجأت قريش إلى محاولةٍ أخرى، عن طريق عميلٍ خائن من أهل المدينة، وهو أبو عامر الرَّاهب، حيث حاول أبو عامر الرَّاهب أن يستزل بعض الأنصار، فقال: يا معشرَ الأوس! أنا أبو عامر! قالوا: فلا أنعم اللهُ بك عيناً يا فاسق! فلـمَّا سمع ردَّهم عليه؛ قال: لقد أصاب قومي بعدي شرٌّ، ثمَّ قاتلهم قتالاً شديداً، ورماهم بالحجارة.

وبدأ القتال بمبارزةٍ بين عليِّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، وطلحةَ بن عثمان حامل لواء المشركين يوم أُحدٍ، يقول صاحب السِّيرة الحلبية: خرج طلحةُ بن عثمان، وكان بيده لواء المشركين، وطلب المبارزة مراراً، فلم يخرج إليه أحدٌ، فقال: يا أصحابَ محمد! إنَّكم تزعمون أنَّ الله - تعالى - يُعجلنا بسيوفكم إلى النَّار، ويعجلكم بسيوفنا إلى الجنَّة، فهل أحدٌ منكم يعجلني بسيفه إلى النَّار، أو أعجله بسيفي إلى الجنَّة؟ فخرج إليه عليُّ بن أبي طالبٍ رضي الله عنه، فقال له عليٌّ رضي الله عنه: والَّذي نفسي بيده! لا أفارقك حتى يعجلك الله بسيفي إلى النَّار، أو يعجلني بسيفك إلى الجنَّة، فضربه عليٌّ فقطع رِجْلَهُ، فوقع على الأرض، فانكشفت عورتُه، فقال: يا بن عمِّي! أنشدك الله، والرَّحم! فرجع عنه، ولم يجهز عليه، فكبَّر رسولُ الله (ص) . وقال بعض الصَّحابة لعليٍّ: أفلا أجهزت عليه؟! قال: إنَّ ابن عمِّي ناشدني الرَّحم حين انكشفت عورتُه، فاستحييتُ منه.

والتحم الجيشان، واشتدَّ القتال، وشرع رسولُ الله (ص) يشحذ همم أصحابه، ويعمل على رفع معنوياتهم، وأخذ سيفاً، وقال: «مَنْ يأخذُ منِّي هذا؟» فبسطوا أيديهم، كلُّ إنسان منهم يقول: أنا، أنا. قال: «فمن يأخذه بحقِّه؟» قال: فأحْجَمَ القومُ، فقال سِمَاكُ بنُ خَرَشَةَ أبو دُجَانة: وما حقُّه يا رسولَ الله؟! قال: «أن تضرب به العدوَّ حتَّى ينحني»، قال: أنا اخذه بحقِّه. فدفعه إليه وكان رجلاً شجاعاً يختال عند الحرب - أي يمشي مشية المتكبِّر -، وحين رآه رسول الله (ص) يتبختر بين الصَّفَّينِ قال: «إنَّها لمشيَةٌ يُبغضها الله إلا في مثل هذا الموطن»، وأخذه، وفلق به هامَ المشركين [أحمد (3/123)، ومسلم (2470)، والحاكم (3/556)، والبيهقي في الدلائل (3/232)].

وهذا الزُّبير بن العوَّام يصف لنا ما فعله أبو دجانة يوم أُحدٍ، قال: وجدت في نفسي حين سألتُ رسول الله (ص) السَّيْفَ، فمنعنيه وأعطاه أبا دجانة، وقلت: أنا ابن صفيَّة عمَّتِه، ومِنْ قريشٍ، وقد قمتُ إليه، وسألته إيَّاه قَبْلَه، فأعطاه أبا دُجانة، وتركني، والله! لأنظرنَّ ما يصنع، فاتبعته، فأخرج عصابةً له حمراء، فعصب بها رأسه، فقالت الأنصار: أخرج أبو دُجانة عِصَابة الموت - وهكذا كانت تقول له إذا تعصَّب بها -، فخرج؛ وهو يقول:

أنَّا الَّذي عاهَدَني خَلِيْلي

وَنَحْنُ بالسَّفْحِ لَدَى النَّخِيْلِ

ألا أقومَ الدَّهرَ في الكَيُّولِ

أضْرِبْ بِسَيْفِ اللهِ والرَّسُولِ

فجعل لا يَلْقى أحداً إلا قتله، وكان في المشركين رجلٌ لا يَدعُ لنا جريحاً إلا ذفَّف عليه، فجعل كلُّ واحدٍ منهما يدنو من صاحبه، فدعوتُ الله أن يجمع بينهما، فالتقيا، فاختلفا ضربتين، فضرب المشركُ أبا دجانة، فاتَّقاه بدَرَقَتِه، فعضَّت بسيفه، وضربه أبو دُجانة فقتله، ثمَّ رأيتُه قد حمل السَّيف على مَفْرِق رأس هند بنت عُتبة، ثمَّ عدل السَّيف عنها، فقلت: الله ورسولُه أعلم. قال ابن إسحاق: قال أبو دُجانة: رأيت إنساناً يَخْمش النَّاس خَمْشاً شديداً، فصمدتُ له، فلـمَّا حملتُ عليه السَّيفَ؛ وَلْوَلَ، فإذا امرأةٌ، فأكرمتُ سيفَ رسول الله أن أضرب به امرأةً.

ثانياً: مخالفة الرُّماة لأمر الرَّسول (ص) :

استبسل المسلمون في مقاتلة المشركين، وكان شعارُهم: أمِتْ.... أمِتْ، واستماتوا في قتالٍ بطوليٍّ ملحميٍّ، سجَّل فيه أبطال الإسلام صوراً رائعةً من البطولة، والشَّجاعة، وسجَّل التَّاريخ روائعَ بطولاتِ حمزةَ بن عبد المطلب، ومصعب بن عمير، وأبي دُجانةَ، وأبي طلحة الأنصاريِّ، وسعد بن أبي وقَّاص، وأمثالهم كثيرٌ، وحقَّق المسلمون الانتصار في الجولة الأولى من المعركة.

وفي ذلك يقول الله - سبحانه وتعالى - في كتابه العزيز: ﴿وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 152]. ولما رأى الرُّماةُ الهزيمةَ الَّتي حلَّت بقريشٍ، وأحلافها، ورأوا الغنائم في أرض المعركة؛ جذبهم ذلك إلى ترك مواقعهم؛ ظنَّـاً منهم: أنَّ المعركة انتهت، فقالوا لأميرهم عبد الله بن جُبيرٍ: «الغنيمة أي قَوْم! الغنيمة! ظهر أصحابكم فما تنتظرون؟ فقال عبد الله بن جُبَيْرٍ: أنَسِيتُم ما قال لكم رسولُ الله (ص) ؟ قالوا: واللهِ لنأتينَّ النَّاسَ فلنُصيبَنَّ من الغنيمة» [البخاري (3039)].

ثمَّ انطلقوا يجمعون الغنائم، ولم يعبؤوا بقول أميرهم، ووصف ابن عباس رضي الله عنهما حالة الرُّماة في ذلك الموقف، فقال: «فلـمَّا غنم النَّبيُّ (ص)، وأباحوا عسكر المشركين، أكبَّ الرُّماة جميعاً، فدخلوا في المعسكر ينهبون، وقد التقت صفوف أصحاب رسول الله (ص)، فهم هكذا - وشبك بين أصابع يديه -، والتبسوا، فلـمَّا أخلَّ الرُّماة تلك الخَلَّة الَّتي كانوا فيها، دخلت الخيل من ذلك الموضع على أصحاب النَّبيِّ (ص)، فضرب بعضهم بعضاً، والتبسوا، وقُتل من المسلمين ناسٌ كثير».

ورأى خالد بن الوليد - وكان على خيَّالة المشركين -، الفرصة سانحةً ليقوم بالالتفاف حول المسلمين، ولـمَّا رأى المشركون ذلك، عادوا إلى القتال من جديدٍ، وأحاطوا بالمسلمين من جهتين، وفقد المسلمون مواقعهم الأولى، وأخذوا يقاتلون بدون تخطيطٍ، فأصبحوا يقاتلون متفرِّقين، فلا نظام يجمعهم، ولا وحْدَة تشملهم، بل لم يعودوا يميِّزون بعضهم، فقد قَتَلُوا اليَمانَ - والد حُذيفة بن اليَمان - خطأً [البخاري (4065)، وابن هشام (3/129)] . وأخذ المسلمون يتساقطون شهداء في الميدان، وفقدوا اتِّصالهم بالرَّسول (ص)، وشاع: أنَّه قُتِل، واختلط الحابِلُ بالنَّابل واشتدَّت حرارة القتال، وصار المشركون يقتلون كلَّ من يلقونه من المسلمين، واستطاعوا الخلوص قريباً من النَّبيِّ (ص)، فرموه بحجر كسر أنفه الشَّريف، ورباعيَـتَـهُ، وشجَّه في وجهه الكريم، فأثقله تفجَّر الدَّم منه (ص) .

عن أنسٍ رضي الله عنه: أنَّ رسول الله (ص) كُسِرَتْ رَبَاعيَّتُه يوم أُحدٍ، وشُجَّ في رأسه، فجعل يَسْلُتُ الدَّمَ عنه، ويقول: كيف يُفْلح قومٌ شجُّوا نبيَّهم، وكسروا ربَاعيَّته، وهو يدعوهم إلى الله؟ [البخاري تعليقاً (8/112)، ومسلم (1791)] فأنزل الله - عزَّ وجلَّ -: ﴿لَيْسَ لَكَ مِنَ الأَمْرِ شَيءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ ﴾ [آل عمران: 128].وحمل ابن قَمِئَةَ على مُصعب بن عمير رضي الله عنه حيث كان شديدَ الشَّبه برسول الله (ص)، فقتله، فقال لقريش: قد قتلت محمَّداً.

وشاع: أنَّ محمَّداً قد قُتِل، فتفرَّق المسلمون، ودخل بعضهم المدينة، وانطلقت طائفةٌ منهم فوق الجبل، واختلطت على الصَّحابة أحوالهم، فما يدرون كيف يفعلون من هول الفاجعة، ففرَّ جَمْعٌ من المسلمين من ميدان المعركة، وجلس بعضهم إلى جانب ميدان المعركة بدون قتالٍ، واثر آخرون الشَّهادة بعد أن ظنُّوا: أنَّ رسول الله (ص) قد مات؛ ومن هؤلاء أنسُ بن النَّضر، الَّذي كان يأسف لعدم شهوده بدراً، والَّذي قال في ذلك: «والله! لئن أراني اللهُ مشهداً مع رسول الله (ص) ليرينَّ اللهُ كيف أصنع» وقد صدق في وعده، فقد مرَّ يوم أُحدٍ على قومٍ ممَّن أذهلتهم الشَّائعـةُ، وألقوا بسلاحهم، فقال: ما يجلسكم؟ قالوا: قُتل رسولُ الله (ص) ! فقال: يا قوم ! إن كان محمَّدٌ قد قُتل، فإن ربَّ محمَّد لم يُقتل، وموتوا على ما مات عليه. وقال: اللّهمَّ إنِّي أعتذر إليك ممَّا قال هؤلاء - يعني: المسلمين -، وأبرأ إليك ممَّا جاء به هؤلاء - يعني: المشركين -، ثم لقي سعد بن معاذ، فقال: يا سعد! إنِّي لأجد ريح الجنَّـة دون أحـدٍ، ثمَّ ألقى بنفسه في أَتُونِ المعركة، وما زال يقاتل؛ حتَّى اسْتُشْهِد، فوُجد فيه بضعٌ وثمانون ما بين ضربةٍ بسيفٍ، أو طعنةٍ برمح، أو رميةٍ بسهم، فلم تعرفه إلا أختُه ببنانه [البخاري (4048)، وابن هشام (3/88)]. وفي هذا، وأمثاله نزل قولُ الله تعالى: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23].

أمَّا أولئك النَّفر الَّذين فرُّوا لا يلوون على شيءٍ رغم دعوة النَّبيِّ (ص) لهم بالصُّمود، والثَّبات، فقد نزل فيهم قوله تعالى: ﴿إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلاَ تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ ﴾ [آل عمران: 153].

ولقد حكى القرآن الكريم خبرَ فرار هذه المجموعة من الصَّحابة، الَّذين ترخَّصوا في الفرار بعد سماعهم نبأ مقتل النَّبيِّ (ص)، الَّذي شاع في ساحة المعركة، وكان أوَّل مَنْ علم بنجاة الرَّسول (ص)، وأنَّه حيٌّ هو الصَّحابيُّ كعب بن مالك، الَّذي رفع صوتَه بالبُشرى، فأمره النَّبيُّ (ص) بالسُّكوت حتَّى لا يفطنَ المشركون إلى ذلك [الطبراني في الأوسط (1108)، وفي الكبير (19/100)، ومجمع الزوائد (6/112)].

وقد نصَّ القرآن الكريم على أنَّ الله تعالى قد عفا عن تلك الفئة الَّتي فرَّت. قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ ﴾ [آل عمران: 155].

ثالثاً: خطَّة الرَّسول (ص) في إعادة شتات الجيش:

عندما ابتدأ الهجوم المعاكس من المشركين خلف المسلمين، والهدف الرَّئيس فيه شخص النَّبيِّ (ص)، لم يتزحزح (ص) من موقفه؛ والصَّحابة يسقطون واحداً تلو الواحد بين يديه، وحُوصرَ رسولُ الله (ص) في قلب المشركين، وليس معه إلا تسعةٌ من أصحابه؛ سبعةٌ منهم من الأنصار. [مسلم (1789)].

وكان الهدف أن يفكَّ هذا الحصار، وأن يصعد في الجبل ليمضي إلى جيشه، واستبسل الأنصار في الدِّفاع عن رسول الله (ص)، واستشهدوا واحداً بعد الآخر، ثمَّ قاتل عنه طلحةُ بن عبيد الله حتَّى أُثْخِنَ، وأصيب بسهم شَلَّت يمينَه، وأراد النَّبيُّ (ص) أن يصعد صخرةً فلم يستطع، فقعد طلحةُ تحته حتَّى استوى على الصَّخرة قال الزُّبيـر: فسمعت الـنَّبيَّ (ص) يقول: «أوجب طلحـة» [أحمد (1/165)، والترمذي (1692)].

وقاتل سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه بين يدي رسول الله (ص)، وكان يناوله النِّبال ويقول له: «ارمِ يا سعد! فداك أبي، وأمِّي!» [أحمد (1/137)، والبخاري (4055)، ومسلم (2412)]. كما قاتل بين يديه أبو طلحة الأنصاري؛ الَّذي كان من أمهر الرُّماة، وهو الَّذي قال عنه النَّبيُّ (ص) : «لصوت أبي طلحة في الجيش، أشدُّ على المشركين من فئةٍ» [أحمد (3/203)، وعبد بن حميد (1384)]. وقد كان متترِّساً على رسول الله بحَجَفةٍ له، وكان رامياً شديدَ النَّزع، كَسَرَ يومئذٍ قوسين، أو ثلاثاً، وكان الرَّجل يمرُّ معه الجَعْبَةُ من النَّبْل، فيقول رسولُ الله (ص) : «انثرها لأبي طلحة»، ثمَّ يشرف إلى القوم، فيقول أبو طلحة: «يا نبيَّ الله! بأبي أنت وأمي! لا تُشْرِف يصيبك سهمٌ من سِهام القوم، نَحْرِي دون نحرك!» [البخاري (4064)].

ووقفت نُسَيْبة بنت كعب تذبُّ عن رسول الله (ص) بالسَّيف، وترمي بالقوس، وأُصيبت بجراحٍ كبيرةٍ، وترَّس أبو دجانة دون رسول الله (ص) بنفسه؛ يقع النَّبل في ظهره وهو مُنْحَنٍ عليه حتَّى كثر فيه النَّبْلُ.

والتفَّ حول الرَّسول (ص) في تلك اللَّحظات العصيبـة أبو بكرٍ، وأبو عبيدة، وقام أبو عبيدة بنزع السَّهمين من وجه النَّبيِّ (ص) بأسنانه، ثمَّ توارد مجموعةٌ من الأبطـال المسلمين؛ حيث بلغوا قرابـة الثَّلاثين، يذودون عـن رسول الله (ص) ؛ منهم: قتـادة، وثابت بن الدَّحداح، وسهل بـن حنيف، وعمر بـن الخطَّاب، وعبد الرَّحمن بن عوف، والزُّبير بن العوَّام.

واستطاع عمر بن الخطَّاب أن يردَّ هجوماً مضادّاً، قاده خالد ضدَّ المسلمين من عالية الجبل، واستبسل الصَّحابة الَّذين كانوا مع عمر في ردِّ الهجوم العنيف، وعاد المسلمون، فسيطروا على الموقف من جديد، ويئس المشركون من إنهاء المعركة بنصرٍ حاسمٍ، وتعبوا من طولها، ومن جَلادة المسلمين، وانسحب النَّبيُّ (ص) بمن معه ومن لحق به من أصحابه إلى أحَد شعاب جبل أُحدٍ، وكان المسلمون في حالةٍ من الألم، والخوف، والغمِّ لما أصاب رسولَ الله (ص)، وما أصابهم رغم نجاحهم في ردِّ المشركين، فأنزل الله عليهم النُّعاس، فناموا يسيراً، ثمَّ أفاقوا امنين مطمئنين.

قال تعالى: ﴿ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لاَ يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ﴾ [آل عمران: 154].

وقد أجمع المفسرون على أنَّ الطَّائفـة الَّتي قد أهمَّتهم أنـفسُهم هم المنافقون، أمَّا قريشٌ فإنَّها يئست من تحقيق نصرٍ حاسمٍ، وأُجْهد رجالُها من طول المعركة، ومن صمود المسلمين وجَلَدهم، وخاصَّةً بعد أن اطمأنُّوا، وأنزل الله عليهم الأمنة، والصُّمود، فالتفُّوا حول النَّبيِّ (ص) ؛ ولذلك كَفُّوا عن مطاردة المسلمين، وعن محاولة اختراق قوَّاتهم.

رابعاً: من شهداء أُحد:

أ - حمزة بن عبد المطَّلب رضي الله عنه سيِّد الشُّهداء عند الله تعالى يوم القيامة:

قاتل أسدُ الله حمزةُ قتالاً ضارياً، وأثخن في المشركين قتلاً، وأطاح برؤوس نفرٍ من حملة لواء المشركين من بني عبد الدَّار، وبينما هو على هذه الحال من الشَّجاعة، والإقدام، كَمَنَ له وحشيٌّ؛ حتَّى تمكَّن منه، ثمَّ رماه بحربته، فأصاب منه مقتلاً، ولندع وحشيّاً يخبرُنا عن هذا المشهد المؤلم. قال وحشيٌّ: إنَّ حمزة قتل طُعَيْمةَ بن عديِّ بن الخيار ببدرٍ، فقال لي مولاي جُبَيْر بن مُطْعِم: إنْ قتلتَ حمزةَ بعمِّي؛ فأنت حرٌّ، فلـمَّا أنْ خرج النَّاسُ عام عَيْنَين - وعينين جبلٌ بحيال أحدٍ، بينه وبينه وادٍ -، خرجتُ مع النَّاس إلى القتال، فلـمَّا اصطفُّوا للقتال؛ خرج سِبَاعٌ، فقال: هل من مبارز؟ قال: فخرج إليه حمزةُ بن عبد المطلب، فقال: يا سِباعُ! يا بنَ أمِّ أنمارٍ مُقطِّعة البُظور، أتحادُّ الله ورسولَه (ص) ؟ ثمَّ شدَّ عليه، فكان كأمس الذَّاهب، قال: وكَمَنتُ لحمزة تحت صخرةٍ، فلـمَّا دنا منِّي رميتُه بحربتي، فأضَعُها في ثُنَّتهِحتَّى خَرَجَتْ من بين وَرِكيه، قال: فكان ذاك العهدَ به، فلـمَّا رجع النَّاس؛ رجعت معهم، فأقمت بمكَّة حتى فشا فيها الإسلامُ. ثمَّ خرجتُ إلى الطَّائف، فأرسلوا إلى رسول الله (ص) رُسلاً، فقيل لي: إنَّه لا يَهيج الرُّسُلَ، قال: فخرجتُ معهم حتَّى قدمتُ على رسول الله (ص)، فلـمَّا راني؛ قال: « أنت وحشيُّ؟ » قلت: نعم، قـال: « أنت قتلتَ حمزة؟ » قلت: قد كان من الأمر ما قد بلغك، قال: « فهل تستطيعُ أن تُغَيِّبَ وجهك عنِّي؟ » قال: فخرجتُ، فلـمَّا قُبض رسولُ الله (ص)، فخرج مسيلمةُ الكذَّاب، قلت: لأخرجنَّ إلى مسيلمة لَعَلِّي أقتلُه فأكافئ به حمزة، قال: فخرجت مع النَّاس فكان من أمره ما كان، قال: فإذا رجل قائمٌ في ثَلَمةِ جداركأنَّه جمل أَوْرَقُ ثائر الرأس، قال: فرميتُه بحربتي، فأضعها بين ثدييه حتَّى خرجت من بين كتفيه، قال: ووثب إليه رجلٌ من الأنصار، فضربه بالسَّيف على هامته. قال: قال عبد الله بن الفضل: فأخبرني سليمان بن يسار: أنَّه سمع عبد الله بن عمر رضي الله عنهما يقول: «فقالت جاريةٌ على ظهر بيتٍ: وا أميرَ المؤمنين! قتله العبدُ الأسود» [البخاري (4072)، والبيهقي في الدلائل (3/241 - 243)، والطبري في تاريخه (2/516 - 517)].

1 - سؤال النَّبيِّ (ص) عن مقتل حمزة رضي الله عنه:

بعد انتهاء المعركة، سأل رسولُ الله (ص) أصحابه: «مَنْ رأى مقتل حمزة؟» فقال رجل: أنا رأيت مقتله، قال: «فانطلق أرناه» فخرج رسول الله (ص) حتَّى وقف على حمزة، فرآه وقد شُقَّ بطنُه، وقد مُثِّل به، فقال: يا رسول الله! مُثِّل به والله![الطبراني في الكبير (19/82)، ومجمع الزوائـد (6/119)]. وفي روايةٍ: لما بلـغ النَّبيَّ (ص) قتلُ حمزة؛ بكى، فلـمَّا نظر إليه شهِق، ووقف بين ظهراني القتلى، فقال: «أنا شهيد على هؤلاء، كفِّنوهم في دمائهم، فإنَّه ليس جرحٌ يجرح في الله إلا جاء يـوم القيامة يَدمى؛ لونُه لون الدَّم، وريحُه ريحُ المسك، قدِّموا أكثرهم قرآناً، فاجعلوه في اللَّحد» [البخاري (2079)، وأبو داود (3138)، والترمذي (1036)، والنسائي (1954)، وابن ماجه (1514)]. وباستشهاد حمزة وأصحاب رسول الله (ص) في أُحدٍ تحقَّقت رؤيا رسولِ الله (ص)، فقد أخبر أصحابه عن رؤياه قبل الخروج إلى أُحدٍ، فقال: «رأيت في سيفي ذي الفقار فَلاًّ، فأوَّلْتُه فَلاًّ يكون فيكم (أي: انهزاماً)، ورأيت أنِّي مردفٌ كَبْشاً، فأوَّلْتُه كبش الكتيبة، ورأيت أنِّي في درع حصينةٍ، فأوَّلتها المدينة، ورأيت بقراً تُذبح، فبقرٌ والله خيرٌ! فبقرٌ والله خيرٌ!» فكان الَّذي قال رسول الله (ص).

2 - صبر صفيةَ بنت عبد المطلب على شقيقها حمزة:

قال الزُّبير بن العوَّام رضي الله عنه: إنَّه لـمَّا كان يوم أُحد؛ أقبلت امرأة تسعى، حتَّى كادت أن تشرف على القتلى، قال: فَكَرِهَ النَّبيُّ (ص) أن تراهم، فقال: المرأة ... المرأة! قال الزُّبير: فتوسَّمتُ: أنَّها صفيَّة، قال: فخرجت أسعى إليها، قال: فأدركتها قبل أن تنتهي إلى القتلى، قال: فَلَدَمَتْ صدري، وكانت امرأة جَلْدةً، قالت: إليك عنِّي، لا أرضَ لك! فقلت: إنَّ رسول الله (ص) عزم عليك.

قال: فوقفت، وأخرجت ثوبين معها، فقالت: هذان ثوبان جئت بهما لأخي حمزة، فقد بلغني مقتله، فكفِّنوه فيهما. قال: فجئنا بالثَّوبين لنكفِّن فيهما حمزة، فإذا إلى جنبه رجلٌ من الأنصار قتيل فُعِلَ به كما فُعل بحمزة، قال: فوجدنا غضاضةً وحياءً أن يكفَّن حمزة في ثوبين والأنصاريُّ لا كفن له، فقلنا: لحمزة ثوبٌ وللأنصاريِّ ثوبٌ، فقدَّرناهما، فكان أحدُهما أكبر من الآخر، فأقرعنا بينهما، فكفَّنا كلَّ واحدٍ منهما في الثَّوب الَّذي صار له. [أحمد (1/165)، والبزار (1797)، وأبو يعلى (686)، والبيهقي في الدلائل (3/290)، ومجمع الزوائد (6/118)].

3 - من شعر صفيَّة في بكاء حمزة:

أَسَائِلةٌ أصْحَابَ أُحْدٍ مَخَافةً

بَنَاتُ أَبِي مِنْ أَعْجَمٍ وخَبيرِ

فَقَالَ الخَبِيْرُ إنَّ حَمْزَةَ قَدْ ثَوَى وَزِيْرُ رَسُولِ اللهِ خَيْرُ وَزِيْرِ

دَعَاهُ إلـهُ الحقِّ ذُو العَرْشِ دَعْوَةً إلَى جنَّةٍ يَحْيَا بِهَا وَسُرُوْرِ

فَذَلِكَ مَا كُنَّا نُرَجِّي وَنَرْتَجِي

لِحَمْزَةَ يَوْمَ الحَشْرِ خَيْرَ مَصِيْرِ

فَوَاللهِ لاَ أَنْسَاكَ ما هبَّتِ الصَّبا

بُكَاءً وَحُزْناً مَحْضَري وَمَسِيْرِي

عَلَى أَسَدِ الله الَّذِيْ كَانَ مِدْرَهاً

يَذُوْدُ عَنِ الإسْلاَمِ كلَّ كَفُوْرِ

فَيَا لَيْتَ شِلْوي عِنْدَ ذَاكَ وَأَعْظُمِي

لَدَى أضْبُعٍ تَعْتَادُنِي وَنُسُورِ

أَقُولُ وَقَدْ أعْلَى النَّعِيُّ عَشِيْرَتِي

جَزَى اللهُ خَيْراً مِنْ أخٍ وَنَصِيْرِ

4 - حمزة لا بواكي له:

لـمَّا رجع رسولُ الله (ص) من أُحدٍ؛ سمع نساء الأنصار يبكين، فقال: «لكنَّ حمزة لا بواكيَ له»، فبلغ ذلك نساءَ الأنصار، فبكين حمزة، فنام رسول الله (ص)، ثمَّ استيقظ، وهنَّ يبكين، فقال: «يا ويحهنَّ! ما زلن يبكين منذ اليوم، فليبكين، ولا يبكين على هالكٍ بعد اليوم» [أحمد (2/40، 84، 92)، وابن ماجه (1591)، والطبراني في الكبير (2943)، وأبو يعلى (3576)، ومجمع الزوائد (6/120)]. وبذلك حرِّمت النِّياحة على الميت، وبعد فترة من الزَّمن نزل الوحي يشدِّد على تحريم النِّياحة على الميت، ويجعلها من كبائـر الذُّنوب، وهو بذلـك يتغلغـل داخـل أعماق المؤمنين، والمؤمنات، يتتبَّع آثار الجاهلية؛ لكي يمحوها، ويغرس مكانها تعاليم الإسلام».

قال (ص): «النِّياحة على الميت من أمر الجاهليَّة، وإن النَّائحة إذا لم تتب قبل أن تموت، فإنَّها تُبْعَثُ يوم القيامة عليها سرابيلُ من قطران، ثمَّ يُعلى عليها بدروعٍ من لهب النَّار» [ابن ماجه (1582)]. وقال (ص): «اثنتان في النَّاس هما بهم كفرٌ: الطَّعنُ في النَّسب، والنِّياحةُ على الميِّت» [أحمد (2/496)، ومسلم (67)]، فتوقف النُّواح، ولم تتوقف الدُّموع.

5 - رسول الله (ص) يسمِّي غلاماً للأنصار بحمزة:

قال جابر بن عبد الله: ولد لرجل منَّا غلام، فقالوا: ما نسمِّيه؟ فقال النَّبيُّ (ص) : «سَمُّوه بأحبِّ الأسماء إليَّ، حمزة بـن عبد المطلب» [الحاكم (3/196)]؛ فحمزة مُتَجَـذِّرٌ في القلب النَّبويِّ، عالقٌ بالذَّاكرة الكريمـة، ولكن الله سبحانه ينزل على نبيِّه (ص) فيما بعد أحبَّ الأسماء إليـه، فيقولها (ص) لمن حولـه: «إنَّ أحبَّ أسمائكم إلى الله: عبدُ الله، وعبدُ الرَّحمن» [مسلم (2132)، وأبو داود (4949)، والترمذي (2833)، وابن ماجه (3728)].

6 - «فهل تستطيع أن تُغَيِّبَ وجهَك عنِّي» [البخاري (4072)، وأحمد (5073)]:

في هذا التَّوجيه الكريم لا يوجد فيه شيءٌ من المؤاخذة والتَّأثيم لوحشيٍّ؛ وإنَّما هو تذكيرٌ له بأنَّ رؤيته إيَّاه تجلب له شيئاً من المتاعب النَّفسيَّة، وتُحرِّك في نفسه ذكريات حادث القتل، وما تبعه من تمثيلٍ شنيعٍ بَشعٍ بعمِّه، فتثير عنده حزازاتٍ بشريَّة ربما لا يكون من المستطاع منعها، ومقاومتها إلا بشيءٍ من العسر، والعنت الشَّديد؛ ممَّا قد يُشْغِلُ النَّبيَّ (ص) ويُقْلِقُه، فأشار عليه (ص) بأن يغيِّب وجهه حتَّى يفقد مصدر التَّذكير بتلك المصيبة. في روايةٍ صحيحةٍ: قال وحشيُّ: أتيتُ النَّبيَّ (ص)، فقال لي: «وحشيٌّ» قلت: نعم، قال: «قتلت حمزة؟»، قلت: نعم، الحمد لله الَّذي أكرمه بيدي، ولم يهنِّي بيده، فقالت له قريش: أتحبُّه؛ وهو قاتل حمزة. فقلت: يا رسول الله! فاستغفر لي، فتفل رسول الله (ص) في الأرض ثلاثةً، ودفع صدري ثلاثةً، وقال: «وحشيٌّ، اخرج فقاتلْ في سبيل الله، كما قاتلت لِتَصُدَّ عن سبيل الله» [الطبراني في الكبير (22/139)، ومجمع الزوائد (6/127)].

فهذا من التَّوجيه الإرشاديِّ النَّبويِّ إلى مكفِّرات ما سلف من الكفر، ومحادَّة الله تعالى ورسوله (ص)، وذكرُ القتال في سبيل الله بيانٌ للأمر الأنسب في التَّكفير، وفيه حضٌّ من النَّبيِّ (ص) لإعلاء راية الجهاد، ولعلَّ مخرجَ وحشيٍّ إلى اليمامة، وقتله مسيلمةَ الكذَّاب كان أثراً من آثار توجيه النَّبيِّ (ص) إلى أفضل ما يمحو الخطايا، ويحتُّالذُّنوب، ويطهِّر الاثام. وقد أدرك وحشيٌّ ذلك، فقال حين قتل مسيلمةَ الكذَّاب: قتلتُ خير النَّاس - يعني: سيِّد الشُّهداء حمزةَ بنَ عبد المطَّلب -، وقتلتُ شرَّ النَّاس مسيلمةَ الكذَّاب.

ب - مصعب بن عمير رضي الله عنه:

قال خبَّاب رضي الله عنه: هاجرنا مع رسول الله (ص) ونحن نبتغي وجه الله، فوقع أجرُنا على الله؛ فَمِنَّا مَنْ مضى في سبيله، ولم يأكل مِنْ أجره شيئاً، منهم مصعبُ بن عمير قُتل يوم أُحدٍ، ولم يترك إلا نَمرَةً، فكنَّا إذا غطَّينا رأسه؛ بدت رجلاه، وإذا غطَّينا رجليه بدا رأسُه، فقال رسولُ الله (ص) : «غطُّوا رأسَه، واجعلوا على رجليه الإذخر»، ومنا من أينعت له ثمرتُه، فهو يَهْدِبُها. [البخاري (1276) و(3897)].

ومن حديث عبد الرَّحمن بن عوف أنَّه أُتي بطعامٍ، وكان صائماً، فقال: قُتل مصعب بن عمير، وكـان خيراً منِّي، فلم يوجد له ما يُكفَّن فيه إلا بُرْدَةٌ، وقتل حمزة - أو رجلٌ آخر - خيرٌ منِّي، فلم يُوجد له ما يُكفَّن فيه إلا بُرْدَةٌ، لقد خَشِيتُ أن يكون قد عُجِّلت لنا طيِّباتُنا في حياتنا الدُّنيا، ثمَّ جعل يبكي حتَّى ترك الطَّعام [البخاري (1274)، و(1275)، و(4045)].

ومن حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: إنَّ رسول الله (ص) حين انصرف من أُحدٍ، مرَّ على مصعب بن عمير ؛ وهو مقتولٌ على طريقـه، فوقف عليه، ودعا له، ثمَّ قرأ هذه الآية: ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ﴾ [الأحزاب: 23]، ثمَّ قال رسول الله (ص) : «أشهد: أنَّ هؤلاء شهداء عند الله يوم القيامة، فائتوهم، وزوروهم، والَّذي نفسي بيده، لا يسلِّم عليهم أحدٌ إلى يوم القيامة، إلا ردُّوا عليه» [الحاكم (3/200)، والبيهقي في الدلائل (3/284)].

ج - سعد بن الرَّبيع رضي الله عنه:

هذا هو الَّذي اسْتَـكْتَمَهُ رسولُ الله (ص) خبرَ مسير قريشٍ، وكان رسول الله (ص) يحبُّه، فلـمَّا انتهت معركة أُحدٍ؛ قال رسول الله (ص) : «مَنْ رجلٌ ينظرُ ما فعل سعدُ بن الرَّبيع، أفي الأحياء هو، أم في الأموات؟» لأنَّ النَّبيَّ (ص) قد رأى الأسِنَّة أشرِعَتْ إليه، فقال أُبيُّ بن كعب رضي الله عنه: أنا أنظره لك يا رسول الله! فقال له: «إن رأيتَ سعد بن الرَّبيع، فأقرئه منِّي السَّلام، وقل له: يقول لك رسول الله (ص) : كيف تجدُك؟» فنظر أُبَيٌّ، فوجده جريحاً به رَمَقٌ.

فقال له: إنَّ رسول الله (ص) أمرني أن أنظر أفي الأحياء أنت، أم في الأموات، فقال: قد طُعِنْتُ اثنتي عَشرةَ طعنةً، وقد أنفذت إلى مقاتلي. وفي روايةٍ صحيحةٍ قال: على رسول الله، وعليك السَّلام، قل له: يا رسول الله! أجد ريح الجنَّة، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله إنْ خُلِصَ إلى رسول الله (ص) ؛ وفيكم عينٌ تطرُف، قال: وفاضت نفسُه رحمه الله. [الحاكم (3/201)، والبيهقي في الدلائل (3/285)]! وهذا نُصْحٌ لله، ورسولِه (ص) في سكرات الموت يدلُّ على قوَّة الإيمان، والحرص على الوفاء بالبيعة، لم يتأثر بالموت ولا الام القروح.

د - عبد الله بن جحشٍ رضي الله عنه:

قال سعد بن أبي وقَّاص رضي الله عنه: إنَّ عبد الله بن جحشٍ قال له يوم أُحدٍ: ألا تدعو الله، فَخَلَوْا في ناحيةٍ، فدعا سعدٌ، فقال: يا ربِّ! إذا لقيتُ العدوَّ، فَلَقِّني رجلاً شديداً بأسُه، شديداً حردُه، أقاتلُه، ويقاتلني، ثمَّ ارزقني الظَّفَرَ عليه حتَّى أقتلَه، واخذَ سَلَبَهُ، فأمَّن عبد الله بن جحشٍ، ثمَّ قال: اللَّهمَّ ارزقني رجلاً شديداً حردُه، شديداً بأسُه، أقاتله فيك ويقاتلُني، ثمَّ يأخذُني، فَيَجْدَعُ أنفي، وأذني، فإذا لقيتُك غداً، قلتَ: من جَدَعَ أنفَك، وأذنَك؟ فأقول: فيك، وفي رسولك، فتقول: صدقتَ. قال سعد: يا بنيَّ، كانت دعوة عبد الله بن جحش خيراً من دعوتي، لقد رأيتُه آخر النَّهار وإنَّ أنفه، وأذنه لمعلَّقان في خيطٍ. وفي هذا الخبر جواز دعاء الرَّجل أن يُقتل في سبيل الله، وتمنِّيه ذلك، وليس هذا من تمنِّي الموت المنهيِّ عنه.

ه ـ حنظلةُ بن أبي عامرٍ رضي الله عنه (غَسِيل الملائكة):

لـمَّا انكشف المشركون؛ ضرب حنظلةُ فرسَ أبي سفيان بن حربٍ، فوقع على الأرض، فصاح وحنظلةُ يريد ذبحه، فأدركه شدَّاد بن الأسود، ويقال له: ابن شَعوب، فحمل على حنظلةَ بالرُّمح، فأنفذه، ومشى إليه حنظلة بالرُّمح وقد أثبته، ثمَّ ضرب الثَّانية فقتله، فذُكِر ذلك لرسول الله (ص) فقال: «إنِّي رأيت الملائكة تغسِّله بين السَّماء والأرض بماء المُزْن، في صِحَافِ الفضَّة» فقال رسول الله (ص) : «فاسألوا أهلَه ما شأنُه؟» فسألوا صاحبته عنه، فقالت: خرج وهو جُنُب حين سمع الهاتفة، فقال رسول الله (ص) : «فلذلك غَسَّلَتْهُ الملائكة» [الحاكم (3/204 - 205)، والبيهقي في السنن الكبرى (4/15)، والطبراني الكبير (12094)، ومجمع الزوائد (3/23)].

وفي رواية الواقديِّ: وكان حنظلة بن أبي عامر تزوَّج جميلة بنت عبد الله بن أبي بن سلول، فأُدخلت عليـه في اللَّيلة الَّتي في صبحها قتـال أُحدٍ، وكان قد استأذن رسولَ الله (ص) أن يبيتَ عندها، فأذن له، فلـمَّا صلَّى بالصَّبح غدا يريد رسولَ الله (ص)، ولزمته جميلةُ فعـاد، فكان معها، فأجنب منها، ثمَّ أراد الخروج، وقد أرسلت قبل ذلك إلى أربعةٍ من قومها فأشهدتهم أنَّـه قد دخل بها، فقيل لها بَعْدُ: لم أشهدتِ عليه؟ قالت: رأيت كأنَّ السَّماء فُرِجَتْ فدخل فيها حنظلة، ثمَّ أُطبقت، فقلت: هذه الشَّهادة، فأشهدْتُ عليه: أنَّه قد دخل بي. وتَعْلَقُ بعبد الله بن حنظلة، ثمَّ تزوَّجها ثابت بن قيس بعدُ، فولدت له محمَّد بن ثابت بن قيس.

وفي هذا الخبر مواقفُ، وعبرٌ؛ منها:

1 - في تعلُّق جميلة بنت عبد الله بن أُبي، بحنظلة بن أبي عامر حين رأت له تلك الرُّؤيا الَّتي فسَّرتها بالشَّهادة، فالمظنون في مثل هذه الحال أن تحاول الابتعاد عنه حتَّى لا تحمل منه، فتكون بعد ذلك غير حظيَّة لدى الخُطَّاب، لكنَّها تعلَّقت به رجاءَ أن تحمل منه، فتلد ولداً ينسب لذلك الشَّهيد، الَّذي بلغ درجاتٍ عليا في الصَّلاح أولاً، ثمَّ بما ترجوه من نيله الشَّهادة. ولقد حصل لها ما أمَّلت به، فحملت منه، وولدت ولداً ذكراً سمِّي عبد الله، وكان له ذِكْرٌ بعد ذلك، وكان مِنْ أعلى ما يفتخر به أن يقول: أنا ابنُ غَسِيْلِ الملائكة.

2 - حَرَصَ حنظلةُ القويُّ على مقارعة أعداء الله، الَّذي يتمثَّل في سرعة خروجه إلى الميدان، الأمر الذي لم يتمكَّن معه من غسل الجنابة.

3 - شجاعتُه الفائقة الَّتي تظهر في تصدِّيه لقائد المشركين، أبي سفيان بن حرب، والقائد غالباً يكون حوله مَنْ يحميه، وهو فارسٌ، وحنظلة راجلٌ.

4 - تشريفٌ ربانيٌّ كريمٌ، في نزول الملائكة لتغسيل حنظلة بمياه الْمُزْن في صحاف الفضَّة.

5 - معجزةٌ نبويَّةٌ في إخبار الصَّحابة عمَّا قامت به الملائكة مِنْ تغسيلٍ؛ حيث رأى (صلى الله عليه وسلم ) الملائكة وهي تغسل، ولم يرَ الصَّحابةُ ذلك.

6 - إذا كان الشَّهيد جنباً غُسِّل، كما غسلت الملائكةُ حنظلةَ بن أبي عامر.

و - عبد الله بن عمرو بن حَرَامٍ رضي الله عنه:

أصرَّ عبـدُ الله بن عمرو بن حرامٍ على الخروج في غزوة أُحدٍ، فخاطب ابنه جابراً بقوله: يا جابرُ! لا عليك أن تكون في نظاري المدينة حتَّى تعلم إلى ما يصيرُ أمرُنا، فإنِّي والله لولا أنِّي أترك بنات لي بعدي؛ لأحببتُ أن تُقْتلَ بين يديَّ. [أحمد (3/397 - 398)، ومجمع الزوائد (4/135)]. وقال لابنه أيضاً: ما أراني إلا مقتولاً في أوَّل من يُقْتَلُ من أصحاب النَّبيِّ (ص)، وإنِّي لا أتركُ بعدي أعَزَّ عليَّ منك؛ غيرَ نفسِ رسول الله (ص)، وإنَّ عليَّ ديناً فاقضِ، واستوصِ بإخوتك خيراً [البخاري (1351)].

وخرج مع المسلمين ونال وسام الشَّهادة في سبيل الله، فقد قُتل في معركة أُحدٍ، وهذا جابرُ يحدِّثنا عن ذلك، حيث يقول: لـمَّا قُتل أبي يوم أحدٍ، جعلتُ أكشفُ عن وجهه، وأبكي، وجعل أصحابُ رسول الله (ص) ينهونني وهو لا ينهاني، وجَعَلَتْ عمَّتي تبكيه، فقال النَّبيُّ (ص): «تبكين، أو لا تبكين، ما زالت الملائكة تُظِلُّهُ بأجنحتها حتَّى رَفَعْتُموه» [البخاري (1244)، ومسلم (2471/130)].

وقال رسول الله (ص) : «يا جابر! مالي أراك منكسراً؟» قال: يا رسول الله، استشهد أبي، وترك عيالاً، ودَيناً. قال (ص) : «أفلا أبشرك بما لقي الله به أباك؟» قال: بلى يا رسول الله! قال (ص) : «ما كَلَّمَ اللهُ أحداً قطُّ إلاَّ من وراء حجاب، وكلَّم أباك كفاحاً. يا جابر! أما علمت أنَّ الله أحيا أباك، فقال: يا عبدي! تمنَّ عليَّ أُعطِك. قال: يا رب! تحييني فأُقتل فيك ثانيةً. فقال الرَّبُّ سبحانه: إنَّه سبق منِّي أنَّهم إليها لا يُرجعون. قال: يا رب! فأبلغ مَنْ ورائي» [الترمذي (3010)، وابن ماجه (190) و(2800)]، فأنزل الله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ﴾ [آل عمران: 169].

وقـد رأى عبد الله بـن عمرو رؤيـا في منامـه قبل أُحـد؛ قال: رأيت فـي النَّوم قبل أُحدٍ، مبشِّر بن عبد المنذر يقول لي: أنت قادم علينا في أيامٍ، فقلت: وأين أنت؟ فقال: في الجنَّة نَسْرَحُ فيهـا كيف نشـاء. قلت له: ألم تُـقْتَل يوم بـدرٍ ؟ قال: بلى! ثمَّ أُحييتُ. فذكر ذلك لرسول الله (ص)، فقال: «هـذه الشَّهادة يا أبا جابر» ! [الحاكم (3/204)] وقد تحقَّقت تلك الرُّؤيا بفضل الله ومَنِّهِ.

زـ خيثمة أبو سعد رضي الله عنه:

قال خيثمة أبو سعد - وكان ابنه استشهد مع رسول الله (ص) يوم بدرٍ -: لقد أخطأتني وقعة بدرٍ، وكنت والله عليها حريصاً، حتَّى ساهمتُ ابني في الخروج، فخرج سَهْمُهُ، فرُزِقَ الشَّهادة، وقد رأيت البارحة ابني في النَّوم في أحسن صورةٍ، يسرح في ثمار الجنَّة، وأنهارها، ويقول: الحق بنا ترافقنا في الجنَّة، فقد وجدتُ ما وعدني ربي حقاً، وقد والله يا رسول الله أصبحت مشتاقاً إلى مرافقته في الجنَّة، وقد كبِرَتْ سِنِّي، ورَقَّ عظمي، وأحببتُ لقاء ربِّي، فادعُ الله يا رسول الله! أن يرزقني الشَّهادة، ومرافقة سعدٍ في الجنَّة، فدعا له رسول الله (ص) بذلك، فقُتِل بأُحدٍ شهيداً. [البيهقي في الدلائل (3/249)].

ح - وهب المزنيُّ، وابن أخيه رضي الله عنهما:

أقبل وهب بن قابوس المزنيُّ، ومعه ابن أخيه الحارث بن عُقبة بن قابوس بغنمٍ لهما من جبل مُزَينة، فوجدا المدينة خلواً، فسألا: أين النَّاس؟ فقالوا: بأُحدٍ؛ خرج رسول الله (ص) يقاتل المشركين من قريشٍ. فقالا: لا نبتغي أثراً بعد عين، فخرجا حتَّى أتيا النَّبي (ص) بأُحدٍ، فيجدان القوم يقتتلون، والدَّولة لرسول الله (ص) وأصحابه، فأغارا مع المسلمين في النَّهْب، وجاءت الخيل مِنْ وراءهم، خالد بن الوليد وعكرمة بن أبي جهل، فاختلطوا، فقاتلا أشدَّ القتال، فانفرقت فرقةٌ من المشركين، فقال رسول الله (ص): «من لهذه الفرقة؟» فقال وهب بن قابوس: أنا يا رسول الله! فقام فرماهم بالنَّبْل حتَّى انصرفوا، ثمَّ رجع. فانفرقت فرقةٌ ثانيةٌ، فقال رسول الله (ص) : «من لهذه الكتيبة؟» فقال المزنيُّ: أنا يا رسول الله! فقام فذبَّها بالسَّيف حتى ولَّوْا، ثمَّ رجع المُزَنيُّ، ثمَّ طلعت كتيبةٌ ثالثة، فقال: «مَنْ يقوم لهؤلاء؟» فقال المزنيُّ: أنا يا رسول الله! فقال: «قم، وأبشر بالجنَّة»، فقام المزنيُّ مسروراً، يقول: والله لا أقيل، ولا أستقيل، فقام فجعل يدخل فيهم فيضرب بالسَّيف، ورسول الله (ص) ينظر إلى المسلمين حتَّى خرج من أقصاهم، ورسول الله (ص) يقول: «اللّهم ارحمه!» ثمَّ يرجع فيهم فما زال كذلك، وهم مُحدقون به، حتَّى اشتملت عليه أسيافهم، ورماحهم، فقتلوه، فوُجد به يومئذ عشرون طعنةً برمح، كلُّها قد خلصت إلى مقتلٍ، ومُثِّلَ به أقبح مُثلةٍ يومئذٍ، ثمَّ قام ابن أخيه، فقاتل قتاله حتَّى قتل، فكان عمر بن الخطَّاب يقول: إنّ أحبَّ ميتةٍ أموت لمَا مات عليها المزنيُّ. [المغازي للواقدي (1/275)].

وكان بلال بن الحارث المزنيُّ يُحدِّث، يقول: شهدنا القادسيَّة مع سعد بن أبي وقَّاص، فلـمَّا فتح اللهُ علينا، وقُسمت بيننا غنائمنا، فأُسْقِطَ فتىً من ال قابوس من مُزينة، فجئت سعداً حين فرغ من نومه، فقال: بلال؟ قلت: بلال! قال: مرحباً بك، مَنْ هذا معك؟ قلت: رجلٌ من قومي مِنْ ال قابوس. قال سعد: ما أنت يا فتى من المُزني الَّذي قُتل يوم أُحد؟ قال: ابن أخيه. قال سعد: مرحباً، وأهلاً، وأنْعَمَ الله بك عَيْناً، ذلك الرَّجل شهدتُ منه يوم أُحد مشهداً ما شهدتُه من أحدٍ، لقد رأيتنا وقد أحدق المشركون بنا من كلِّ ناحيةٍ، ورسولُ الله (ص) وسطنا، والكتائب تطلع من كلِّ ناحيةٍ، وإنَّ رسول الله (ص) ليرمي ببصره في النَّاس يتوسَّمُهم يقول: «من لهذه الكتيبة؟» كلُّ ذلك يقول المزنيُّ: أنا يا رسول الله! كلُّ ذلك يردُّه، فما أنسى آخر مرَّةٍ قامها، فقال رسول الله (ص) : «قم وأبشر بالجنَّة!» قال سعد: وقمت على أثره، يعلم الله أنِّي أطلب مثل ما يطلب يومئذ من الشَّهادة، فخضنا حَوْمتهم حتَّى رجعنا فيهم الثَّانية، وأصابوه - رحمه الله ! - ووَدِدْتُ والله أنِّي كنت أُصبتُ يومئذٍ معه، ولكنَّ أجَلِي استأخر، ثمَّ دعا سعد من ساعته بسهمه، فأعطاه، وفضَّله، وقال: اختر في المقام عندنا، أو الرُّجوع إلى أهلك، فقال بلال: إنَّه يستحبُّ الرُّجوع، فرجعنا.

وقال سعد: أشهدُ لرأيتُ رسول الله (ص) واقفاً عليه؛ وهو مقتولٌ، وهو يقول: «رضي الله عنك فإنِّي عنك راضٍ»، ثمَّ رأيتُ رسولَ الله (ص) قام على قدميه وقد نال النَّبيَّ (ص) من الجراح ما ناله، وإنِّي لأعلم أنَّ القيام ليشقُّ عليه على قبره حتى وُضع في لحده، وعليه بُرْدَةٌ لها أعلام خضر، فمدَّ رسول الله (ص) البُردة على رأسه، فخمَّره، وأدرجه فيها طولاً، وبلغت نصف ساقيه، وأمرنا فجمعنا الحَرْمَل، فجعلناه على رجليه؛ وهو في لحده، ثمَّ انصرف. فما حالٌ أموتُ عليها أحبُّ إليَّ من أن ألقى الله تعالى على حال المُزَنيِّ.

وهكذا يفعل الإيمان بأصحابه، فهذا وَهْبٌ المزنيُّ، وابن أخيه، تركوا الأغنام بالمدينة، والتحقوا بصفوف المسلمين، وحرصوا على نيل الشَّهادة، فأكرمهم الله بها، وقد كانت تلـك الملحمة الَّتي سطَّرها المزنيُّ محفورةً في ذاكرة الصَّحابة، فهذا سعد بن أبي وقَّاص يتذكَّرها بعد مرور ثلاث عشرة سنة تقريباً على غزوة أُحدٍ، لمجرَّد سماع اسم رجل من عشيرة المزنيِّ، ويتمنَّى أن يموت، ويلقى الله على مثل حالة المزنيِّ.

ط - عمرو بن الجَمُوح رضي الله عنه:

كان عمرو بن الجموح رضي الله عنه أعرجَ شديدَ العرج، وكان له بنونَ أربعةٌ مثل الأُسد، يشهدون مع رسول الله (ص) المشاهد، وهم: خلاَّد، ومُعوَّذ، ومُعاذ، وأبو أيمن، فلـمَّا كان يوم أُحد أرادوا حَبْسَهُ، وقالوا: إنَّ الله - عزَّ وجلَّ - قد عذرك، فأتى رسولَ الله (ص)، فقال: إنَّ بَنيَّ يريدون أن يحبسوني عن هذا الوجه، والخروج معك فيه، فو الله! إنِّي لأرجو أن أطأ بعرجتي هذه في الجنَّة. فقال له رسول الله (ص) : «أمَّا أنت فقد عذرك الله تعالى، فلا جهاد عليك»، وقال لبنيه: «ما عليكم ألاَّ تمنعوه، لعلَّ الله أن يرزقه الشَّهادة» فخرج؛ وهو يقول مستقبل القبلة: اللهم! لا تردَّني إلى أهلي خائباً. فقُتل شهيداً رضي الله عنه. وفي رواية: أتى عمرو بن الجموح رضي الله عنه إلى رسول الله (ص)، فقال: يا رسولَ الله! أرأيتَ إنْ قاتلت في سبيل الله حتَّى أُقتل، أمشي برجلي هذه صحيحة في الجنَّة - وكانت رجله عرجاء -؟ فقال رسول الله (ص) : «نعم»، فقتلوه يوم أُحد هو، وابـن أخيه، ومولى لهما، فمرَّ بهم رسولُ الله (ص)، فجُعلُوا في قبرٍ واحد [أحمد (5/299)، والبيهقي في الدلائل (3/246)، والواقدي في المغازي (1/264)، وابن هشام (3/96)، ومجمع الزوائد (9/315)]. وفي هذا الخبر، دليلٌ على أنَّ مَنْ عذره الله في التَّخلُّف عن الجهاد لمرضٍ، أو عَرَج يجوز له الخروج إليه، وإن لم يجب عليه، كما خرج عمرو بن الجَمُوح؛ وهو أعرج. وفيه دليلٌ على شجاعة عمرو بن الجَمُوح، ورغبته في نيل الشَّهادة، وصدقه في طلبها، وقد أكرمه الله بذلك.

ي - أبو حذيفة بن اليمان وثابت بن وقش رضي الله عنهم:

لـمَّا خرج رسول الله (ص) إلى أُحدٍ، رُفع حُسَيل بن جابر، وهو اليمان أبو حذيفة ابن اليمان، وثابت بن وَقش في الاطام، مع النِّساء، والصِّبيان، فقال أحدُهما لصاحبه - وهما شيخان كبيران -: لا أبا لك! ما تنتظر؟ فو الله ما بقي لواحدٍ منَّا من عمره إلا ظِمء حمارٍ، إنَّما نحن هامةُ اليوم، أو غد، أفلا نأخذ أسيافنا، ثمَّ نلحق برسول الله (ص)، لعلَّ الله يرزقنا شهادةً مع رسول الله (ص) ؟!

فأخذا أسيافهما، ثمَّ خرجا حتَّى دخلا في النَّاس ولم يُعلم بهما، فأمَّا ثابت بن وقش؛ فقتله المشركون، وأمَّا حُسَيل بن جابرٍ فاختلفت عليه أسيافُ المسلمين، فقتلوه، ولا يعرفونه، فقال حذيفة: أبي! فقالوا: والله إن عرفناه، وصدقوا. قال حذيفة: يغفر الله لكم، وهو أرحم الرَّاحمين، فأراد رسول الله (ص) أن يَديَهُ، فتصدَّق حذيفةُ بديته على المسلمين، فزاده ذلك عند رسول الله (ص) خيراً.

وفي هذا الخبر يظهر أثر الإيمان في نفوس الشُّيوخ الكبار؛ الَّذين عذرهم الله في الجهاد، وكيف ترَكُوا الحصون، وخرجوا إلى ساحات الوَغى طلباً للشَّهادة، وحباً، وشوقاً للقاء الله تعالى، وفيه موقفٌ عظيم لحذيفة؛ حيث تصدَّق بدية والده على المسلمين، ودعا لهم بالمغفرة؛ لكونهم قتلوا والده خطأً، وفيه أيضاً: أنَّ المسلمين إذا قتلوا واحداً منهم في الجهاد يظنُّونه كافراً؛ فعلى الإمام دِيَتُه من بيت المال؛ لأنَّ رسول الله (ص) أراد أن يَدِيَ اليمان أبا حذيفة، فامتنع من أخذ الدِّية، وتصدَّق بها على المسلمين.

ك - الأمور بخواتيمها:

إنَّ الأمور بخواتيمها، وقد وقع في غزوة أُحدٍ ما يحقِّق هذه القاعدة المهمَّة في هذا الدِّين، فقد وقع حادثان يؤكِّدان هذا الأمر، وفيهما عظةٌ، وعبرةٌ لكلِّ مسلمٍ متَّعظٍ، ومعتبرٍ، وهما:

1 - شأن الأُصَيْرِم رضي الله عنه:

واسمه عمرو بن ثابت بن وَقش، عُرض عليه الإسلام، فلم يُسلِم، وروى قصَّته أبو هريرة رضي الله عنه، قال: إنَّ الأُصَيْرم كان يأبى الإسلام على قومه، فجاء ذات يومٍ ورسولُ الله (ص)، وأصحابه بأُحدٍ، فقال: أين سعدُ بن معاذ؟ فقيل: بأُحدٍ، فقال: أين بنو أخيه؟ قيل: بأُحدٍ. فسأل عن قومه، فقيل: بأُحدٍ، فبدا له الإسلام، فأسلم، وأخذ سيفه، ورمحه، وأخذ لأمتَهُ، وركب فرسه، فعدا حتَّى دخل في عُرْض النَّاس، فلـمَّا رآه المسلمون؛ قالوا: إليك عنا يا عمرو! قال: إنِّي قد امنت. فقاتل حتَّى أثخنته الجراح، فبينما رجالٌ من بني عبد الأشهل يلتمسون قتلاهم في المعركة؛ إذا هم به، فقالوا: والله إنَّ هذا للأُصيرم، ما جاء به؟ لقد تركناه وإنَّـه مُنكرٌ لهذا الحديث، فسألوه: ما جاء بك ؟ أحدَبٌ على قومك، أم رغبـةٌ في الإسلام؟ فقال: بل رغبـةً في الإسلام، امنت بالله تعالى ورسوله (ص)، وأسلمت، ثمَّ أخذت سيفي فغدوتُ مع رسول الله (ص)، ثمَّ قاتلتُ حتَّى أصابني ما أصابني، وإن متُّ فأموالي إلى محمَّد يضعها حيث شاء، فذكروه لرسول الله (ص) فقال: إنَّه من أهل الجنَّة. [ابن هشام (3/95)، والبيهقي في الدلائل (3/247)]. وقيل: مات، فدخل الجنة، وما صلَّى من صلاةٍ، فقال النَّبيُّ (ص) : «عَمِلَ يسيراً وأُجرَ كثيراً» [البخاري (2808)، ومسلم (1900)].وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول: حدِّثوني عن رجلٍ دخل الجنَّة، ولم يُصلِّ قطُّ! فإذا لم يعرفه النَّاس؛ سألوه مَنْ هو؟ قال: هو أُصَيرِم بن عبد الأشهل.

2 - شأن مُخَيْرِيق:

لـمَّا كانت غزوة أُحدٍ، وخرج رسول الله (ص) يقاتل المشركين، جمع مُخَيْريقٌ قومه اليهود وقال لهم: يا معشرَ يهود! والله! لقد علمتم أنَّ نصر محمدٍ عليكم لحقٌّ. قالوا: إنَّ اليوم يوم السَّبت، قال: لا سبت لكم! فأخذ سيفه، وعُدَّتَـهُ، وقال: إن أُصِبْتُ فمالي لمحمَّدٍ يَصْنَعُ فيه ما شاء. ثمَّ غدا إلى رسول الله (ص)، فقاتل معه حتى قُتِل، فقال رسول الله (ص) : «مُخَيْرِيق خيرُ يهود» [ابن سعد (1/501)، وأبو نعيم في الدلائل (ص 18)، والطبري في تاريخه (2/531)، والواقدي في المغازي (1/263)].

وقد اختلف في إسلامـه، فنقل الذَّهبيُّ فـي التَّجريد، وابن حجر في الإصابة عن الواقديِّ: أنَّ مخيريق مات مسلماً. وذكر السُّهيليُّ في الرَّوض الأُنف: أنَّه مسلمٌ، وذلك حين قال معقِّباً على رواية ابن إسحاق عن رسول الله (ص) : أنَّه قال: «مُخَيْريق خير يهود» قال: ومُخَيْرِيق مسلمٌ، ولا يجوز أن يقال في مسلم هو خير النَّصارى، ولا خير اليهود؛ لأنَّ أفعل من كذا إذا أضيف، فهو بعض ما أضيف إليه، فإن قيل: وكيف جاز هذا؟ قلنا: لأنَّه قال: خير يهود، ولم يقل خير اليهود، ويهود اسم علم كثمود، يقال: إنَّهم نُسبوا إلى يهوذا بن عقوب، ثمَّ عربت الذَّال دالاً، وقد حقَّق هذه المسألة الدُّكتور عبد الله الشقاري في كتابه: «اليهود في السُّنَّة المطهَّرة» وذهب إلى أنَّ مُخَيْرِيق قد أسلم، ودفعه ذلك إلى القتال مع المسلمين، وإلى التصدُّق بماله مع كثرته، ومع ما عرف عن اليهود من حبِّ المال، والتَّكالب عليه.

ل - إنما الأعمال بالنِّـيَّـات:

كان ممَّن قاتل مع المسلمين يوم أُحدٍ رجلٌ يدعى قُزْمَان، كان يُعرف بالشَّجاعة، وكان رسول الله (ص) يقول إذا ذُكر له: «إنَّه لمن أهل النار»، فتأخَّر يوم أُحدٍ، فعيَّرته نساء بني ظَفَر، فأتى رسولَ الله (ص) وهو يسوِّي الصفوف، حتَّى انتهى إلى الصفِّ الأوَّل، فكان أوَّل من رمى من المسلمين بسهمٍ، فجعل يرسل نبلاً كأنَّها الرِّماح، ويكتُّ كتيت الجمل، ثمَّ فعل بالسَّيف الأفاعيل، حتَّى قتل سبعةً، أو تسعةً، وأصابته جِرَاحَةٌ، فوقع، فناداه قتادة بن النُّعمان: يا أبا الغَيْداق! هنيئاً لك الشَّهادة! وجعل رجالٌ من المسلمين يقولون له: والله! لقد أبليتَ اليوم يا قُزْمَان، فأبشر! قال: بماذا؟ فوالله ما قَاتلتُ إلا عن أحساب قومي، ولولا ذلك ما قاتلتُ. فذُكِرَ ذلك لرسول الله (ص) فقال: «إنَّه من أهل النَّار، إنَّ الله تعالى يؤيِّد هذا الدِّين بالرَّجل الفاجر» [البخاري (4203)، ومسلم (111، 112)]. وفي هذا الخبر، بيانٌ لمكان الـنِّـيَّة في الجهاد، وأنَّه مَنْ قاتل حميَّةً عن قومه، أو ليقال: شجاعٌ، ولم تكن أعماله لله تعالى؛ لا يقبل الله منه.

خامساً: من دلائل النُّبوَّة:

1 - عين قتادة بن النُّعمان رضي الله عنه:

أُصيبت عينُ قتـادة رضي الله عنه حتَّى سقطت على وَجْنَتِـهِ، فردَّها رسولُ الله (ص) بيده، فكانت أحسن عينيه، وأحَدَّهُمَا، وأصبحت لا ترْمَد إذا رمدت الأخرى، وقد قدم ولده على عمر بن عبد العزيز - رحمه الله -، فسأله: من أنت؟ فقال له مرتجلاً:

أنا ابْنُ الَّذي سَالَتْ عَلَى الخَدِّ عَيْنُهُ

فَرُدَّتْ بكَفِّ المُصْطَفى أَحْسَنَ الرَّدِّ

فَعَادَتْ كَمَا كَانَتْ لأَوَّلِ أَمْرِهَا

فَيَا حُسْنَهَا عَيْناً وَيَا حُسْنَ ما ردِّ

فقال عمر بن عبد العزيز عند ذلك:

تِلْكَ المَكَارِمُ لا قَعْبَانِ مِنْ لَبَنٍ

شيْبا بمَاءٍ فَعَادَا بَعْدُ أَبْوَالا

>

ثمَّ وصله، فأحسن جائزته .

2 - مقتل أُبيِّ بن خلف:

كان أُبَيُّ بن خلف يَلْقَى رسولَ الله (ص) بمكَّة، فيقول: يا محمد! إنَّ عندي العَوْذ؛ فرساً أعْلِفُه كلَّ يوم فَرَقاً من ذُرَةٍ، أقتلك عليه، فيقول رسول الله (ص) : «بل أنا أقتلـك إن شاء الله» فلـمَّا كان يـوم أُحد، وأُسند رسولُ الله (ص) في الشِّعْب؛ أدركه أُبَيُّ بن خلف، وهو يقول: أي محمد! لا نجوتُ إن نجوتَ! فقال القوم: يا رسول الله! أيعطفُ عليه رجلٌ منا؟ فقال رسول الله (ص) : «دَعُوه»، فلـمَّا دنا، تناول رسولُ الله (ص) الحَرْبَةَ من الحارث بن الصِّمَّة، فلـمَّا أخذها رسولُ الله (ص) منه انتفض بها انتفاضة تطايَرنا عنه تطايرَ الشَّعراء عن ظهر البعير إذا انتفض بها، ثمَّ استقبله، فطعنه في عنقه طعنةً تدأدأ منها عن فرسه مراراً، فلـمَّا رجع إلى قريش وقد خَدَشَهُ في عنقه خَدشاً غير كبيرٍ، فاحتقَنَ الدَّم، قال: قتلني والله محمدٌ! قالوا له: ذهب والله فؤادك! والله إنْ بك من بأسٍ، قال: إنَّه قد كان قال لي بمكَّة: أنا أقتلُك، فو الله! لو بَصَق عليَّ؛ لقتلني، فمات عدوُّ الله بسَرفٍ وهم قافلون به إلى مكَّة. وفي هذا الخبر مَثَلٌ رفيعٌ على شجاعة رسول الله (ص)، فقد كان أُبي بن خلف مُدَجَّجاً بالسِّلاح، ومتدرِّعاً بالحديد الواقي، ومع ذلك استطاع رسولُ الله (ص) أن يطعنه بالرُّمح من فُرْجَةٍ صغيرة في عنقه بين الدِّرْع، والبيضة، وهذا يدلُّ على قدرة رسول الله (ص) القتاليَّة، ودقَّته في إصابة الهدف. وفي هذا الخبر معجزةٌ للنَّبيِّ (ص)، فقد أخبر أُبَيّاً بأنه سوف يقتله بمشيئة الله، وتمَّ ذلك، وفي الخبر عبرةٌ في إيمان المشركين بصدق النَّبيِّ (ص)، وأنه إذا قال شيئاً؛ وقع، فقد كان أُبيُّ بن خلف على يقينٍ بأنَّه سيموت من تلك الطَّعنة، ومع ذلك لم يدخلوا في الإسلام لعنادهم، وعبادة أهوائهم. وقد خلَّد حسَّانُ بن ثابت هذه الحادثة في شعره فقال:

لَقَدْ وَرِثَ الضَّلاَلَةَ عَنْ أَبِيْهِ

أُبَيٌّ يَوْمَ بَارَزَهُ الرَّسُولُ

أتيْتَ إِلَيْهِ تَحْمِلُ رِمَّ عَظْمٍ

وَتُوْعِدُهُ وَأَنْتَ بِهِ جَهُوْلُ

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث

على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022