الإثنين

1446-12-20

|

2025-6-16

من كتاب الدولة الأموية: خلافة معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه

(حركة الجهاد ضد الدولة البيزنطية)

الحلقة: الثالثة والخمسون

بقلم الدكتور: علي محمد الصلابي

ربيع الأول 1442 ه/ أكتوبر 2020


كان معاوية رضي الله عنه يرى أن الخطر الأكبر من وجهة نظره: الدولة البيزنطية، وإن كانت قد خسرت أهم أقاليمها في الشرق ـ الشام ومصر ـ إلا أن جسم الدولة لا زال سليماً لم يمس، فعاصمتها باقية، وممتلكاتها في آسية الصغرى وأوروبة وشمال إفريقية لا زالت شاسعة وإمكانياتها كبيرة، وقدرتها على المقاومة هائلة، وهي لم تكفَّ بعدُ عن مناوأة المسلمين، وباختصار فهي العدو الرئيس والخطر الأكبر الماثل أمام المسلمين.
وكان معاوية رجل المرحلة قادراً على فهم وتقدير هذا الخطر، وعلى مواجهته أيضاً، فقد كان موجوداً بالشام منذ مطلع الفتوحات في عهد أبي بكر الصديق، وأصبح والياً عليه ولمدة عشرين سنة تقريباً، وهو يشكل مع مصر خط المواجهة الرئيس مع الدولة البيزنطية، فطول إقامة معاوية رضي الله عنه بالشام، أكسبته خبرة واسعة بأحوال البيزنطيين وسياستهم وأهدافهم؛ مما أعانه على أن يعرف كيف يتعامل معهم، لكل ذلك فليس غريباً أن نرى معاوية يولي حدوده مع الدولة البيزنطية وعلاقاته معها جل اهتمامه، ويرسم لنفسه نحوها سياسة واضحة ثابتة سار عليها هو وخلفاؤه من الأمويين إلى نهاية دولتهم، وقد كان من أهدافه الرئيسة الاستيلاء على عاصمتهم القسطنطينية.
أولاً: معاوية والقسطنطينية:
بعد أن استقر الأمر لمعاوية بن أبي سفيان سنة 41 هـ خليفة للمسلمين؛ باشر في تطوير الأسطول البحري ليكون قادراً على دك معاقل القسطنطينية عاصمة الروم ومبعث العدوان والخطر الدائم ضد المسلمين، فبعد أن قضى معاوية على حركات المردة أو الجراجمة الذين استخدمهم الروم وسيلة لرصد حركات الدولة الإسلامية ونقاط ضعفها وإبلاغ الروم عنها، متخذين من مرتفعات طوروس وجبل اللكام مقراً لهم، بدأ الخليفة نشاطه البحري بإرسال حملات بحرية استطلاعية؛ منها: حملة فضالة بن عبيد الأنصاري، للوقوف على تحركات الروم وجلب المعلومات الدقيقة عنهم لمنعهم من استخدام جزر قبرص، وأرواد، ورودس؛ ذوات الخدمة التعبوية والعسكرية في عملياتهم ضد الأسطول الإسلامي وقد باشر أعماله الاستطلاعية بإحدى الشواتي؛ وهي: شاتية بسر بن أبي أرطأة في البحر عام 43هـ، وأعقبها بشاتية مالك بن عبد الله بأرض الروم سنة 46 هـ، وصائفة عبد الله بن قيس الفزاري بحراً، وحملة عقبة بن عامر الجهني بأهل مصر في البحر سنة 48 هـ، وصائفة عبد الله بن كرز البجلي، وحملة عبد الله بن يزيد بن شجر الرهاوي، وشاتية بأهل الشام في سنة 49 هـ .
وكان نظام الشواتي والصوائف مستمراً، فقد وضع معاوية أمامه هدفاً واضحاً؛ وهو محاولة الضغط على الدولة البيزنطية من خلال الضغط على عاصمتها القسطنطينية تمهيداً للاستيلاء عليها، ولعل معاوية رضي الله عنه كان يرمي إلى إسقاط الدولة البيزنطية ذاتها بالاستيلاء على عاصمتها؛ فهو يعلم أن هذه العاصمة العتيدة هي مركز أعصاب الدولة ومستقر الأموال والرجال، وفيها العقول المفكرة، فإذا سقطت في يده فإن هذا سيؤدي إلى شلل كامل في الدولة كلها، وأمامه تجربة المسلمين مع الفرس، فبعد سقوط المدائن عاصمتهم في أيديهم أصابهم الارتباك ولاحقهم الفشل، ولم تقم لهم قائمة وزالت دولتهم، فإذا استطاع إسقاط عاصمة البيزنطيين فسيكون ذلك نذيراً بإسقاط الدولة، ويستريح من خصم عنيد وعدو رئيس، لذلك واصل ضغطه ومحاولاته لتحقيق هدفه.
وليس من المبالغة القول إن الدولة البيزنطية ظلت على قيد الحياة مدة تقرب من ثمانية قرون، وهي مدينة ببقائها لعاصمتها القسطنطينية، فمناعة المدينة وصمودها أمام محاولات الأمويين المستمرة لفتحها، حال دون ذلك، وبالتالي حال دون سقوط الدولة، والدليل على هذا أنه عندما استطاع السلطان العثماني محمد الفاتح فتح
القسطنطينية و الاستيلاء عليها في سنة 857 هـ التاسع والعشرين من مايو سنة 1453 م؛ كان إيذاناً بسقوط الدولة البيزنطية وزوالها من الوجود.
ثانياً: التخطيط الاستراتيجي عند معاوية للاستيلاء على القسطنطينية:
حرص معاوية رضي الله عنه أن يكون زمام المبادرة دائماً في يده، لأنها هي التي تمد جزر شرق البحر المتوسط بالقوات والعتاد، وتشجع أهلها على شن الغارات على ساحل مصر والشام، وقد سار في تحقيق هذا الهدف في عدة اتجاهات:
1 ـ الاهتمام بدور صناعة السفن في مصر والشام:
واختار معاوية أمهر الصناع للعمل فيها وأغدق عليهم بالأجور والهبات حتى يبذلوا قصارى جهدهم بالعمل، فقد أدرك معاوية ـ رضي الله عنه ـ بحسه العسكري وفكره العبقري أن معارك المسلمين مع الروم، ستعتمد أساساً على الأسطول البحري، وزاد هذا الإحساس عمقاً في قلب معاوية ونفسه تكتل الروم وإعدادهم أكثر من خمسمئة سفينة في معركة ذات الصواري لقهر الأسطول الإسلامي، ومع أن الروم باؤوا بفشل ذريع في هذه المعركة، إلا أنهم لم يكفوا عن الإعداد، ولم ينتهوا عن تجميع قواتهم لمواجهة قوة المسلمين في البحر، لقد كانوا يظنون أن قوة المسلمين البحرية يمكن القضاء عليها؛ لأنها لا زالت في دور التكوين، ولكنهم فوجئوا بهزيمتهم المنكرة في ذات الصواري، فتوقعوا بعد ذلك أن تكون المعركة القادمة على أسوار العاصمة القسطنطينية، فراحوا يستعدون لذلك.
وقد أدى التعاون بين مصر والشام في صناعات السفن إلى الوصول إلى نتائج ممتازة، ففي الشام كانت تتوفر أخشاب الصنوبر القوي والبلوط والعرعر التي تصلح لبناء السفن، وفي مصر كانت توجد الأخشاب التي تصلح لعمل الصواري، وضلوع جوانب السفن، وخشب الجميز واللبخ والدوم التي تصلح لصناعة المجاديف، وكذلك استغل معاوية معدن الحديد الذي كان متوافراً في مصر والشام واليمن لعمل المسامير والمراسي والخطاطيف والفؤوس، كما كان يتوافر في مصر مادة القطران اللازمة لقلفطة السفن، ونبات الدقس الذي كانت تصنع منه الحبال، وباختصار فقد أدى التعاون المصري الشامي إلى ازدهار البحرية الإسلامية التي ازدادت أهميتها بعد أن أمر معاوية عامله على مصر مسلمة بن مخلد الأنصاري ببناء دار لصناعة السفن في جزيرة الروضة عام 54 هـ، وذلك على أثر غارة شنها البيزنطيون على مصر.
2ـ تقوية الثغور البحرية في مصر والشام:
فقد آثر معاوية أن يحصِّن المدن الساحلية ويزودها بالقوات المجاهدة، بما يجعلها قواعد تنقل منها الجنود بحراً إلى أي مكان يشاء، ووضع لهذه المدن نظاماً عرف بالرباط، وهو ما يقصد به: الأماكن التي تتجمع بها الجند والركبان استعداداً للقيام بحملة على أرض العدو، واعتنى بهذا النظام حتى أصبح جزءاً مرتبطاً أشد الارتباط بالجهاد، إذ اجتذب الرباط إليه كل الأتقياء المتحمسين العاملين على إعزاز الإسلام ونصرته، وتدرج معاوية رضي الله عنه في تدعيم هذا النظام على نحو ما اتبعه في كل أعماله التي اتسمت بالدقة والابتعاد عن الارتجال والاندفاع، فأعد الربط لتكون حصوناً يتجمع فيها الجند للدفاع عن المناطق المعرضة لإغارات الأساطيل البيزنطية، ولتكون ملجأً يحتمي بها الأهالي في المناطق الساحلية بأن يأخذوا حذرهم إذا ما لاح خطر السفن البيزنطية في المياه الإقليمية، فكان الحصن في الرباط يضم حجرات للجند ومساكن لهم، ومخازن للأسلحة والمؤن، وبرج للمراقبة، ثم لم يلبث أن اتسع وازدادت أهميته حتى أصبح قاعدة للهجوم وشن الغارات .
وتعتبر سياسة منح الإقطاعات بالسواحل الخطوة الأخيرة في سلم السياسة البحرية الدفاعية التي رسمها معاوية قبل أن يستطيع ركوب البحر في عهد عثمان، إذ أتم بفضل هذه الامتيازات إعداد القواعد البحرية التي أخذ ينشأى فيها أساطيله، وكانت اية ازدهار المدن الساحلية نقل جماعات من أهالي بعلبك وحمص وإنطاكية عام 42 هـ إلى صور وعكا وغيرهما من المدن بسواحل الأردن، كذلك أصلح معاوية رضي الله عنه حصون هاتين المدينتين ولاسيما عكا التي خرج منها بأولى حملاته البحرية ضد قبرص، وبسط معاوية رضي الله عنه اهتمامه إلى سائر المدن الساحلية.
3 ـ الاستيلاء على الجزر الواقعة شرقي البحر المتوسط:
وقد بدأ ذلك معاوية بالاستيلاء على جزيرة قبرص ـ كما سبق ذكره ـ ثم استولى على جزيرة أخرى هامة؛ وهي: رودس، وأمر ببناء حصن بها، وبعث إليها جماعة من المسلمين يتولَّون الدفاع عنها، وجعلها رباطاً يدافعون منه عن الشام، واثر معاوية أن يحيط المسلمين في رودس بالجو الإسلامي الديني، ويعلي راية الإسلام بين أهاليها، فأرسل إليها فقيهاً يدعى مجاهد بن جبر يقرأى الناس القران، وأراد معاوية أن يتوج حملاته البحرية بغلق بحر إيجه وسد منافذه الرئيسة في وجه السفن البيزنطية، ومنعها من الوصول إلى بلاد المسلمين وعمل على تحقيق ذلك في الاستيلاء على جزيرة (كريت)، إذ تسيطر هذه الجزيرة تماماً على بحر إيجه، الذي يشبه طرفه الجنوبي فوهة قربة تمتد جزيرة (كريت) عبرها بامتدادها البالغ 160 ميلاً، وتقسم الجزيرة هذه فتحة إلى مدخلين يتحكم في كل منهما، وأرسل معاوية جنده الذين استولوا على رودس لفتح هذه الجزيرة الهامة، ومنع الأساطيل البيزنطية من التسلل عبر الفتحات البحرية المتاخمة لها لمهاجمة الشام، على أن جنادة بن أمية الأزدي لم يستطع الاستيلاء على هذه الجزيرة لضخامتها، واكتفى بالإغارة عليها والبطش بالبيزنطيين وأساطيلهم بها.
وهكذا وجه معاوية رضي الله عنه أنظار المسلمين شطر البحر الأبيض المتوسط، وأوقفهم على أهمية جزره، فاستولى على ما استطاعت أساطيله أن تفتحه منها، وطرق باب غيرها، ومهَّد الطريق لمن يأتي بعده من الخلفاء الأمويين، وكفل معاوية للمسلمين قوة بحرية نافست البيزنطيين أنفسهم في سيادتهم القديمة على البحر الأبيض المتوسط، ثم أخذ يعبئها لأهم عمل في تاريخها، وهو ضرب عاصمة البيزنطيين أنفسهم والاستيلاء عليها، ولكن تريث معاوية في تحقيق الهدف الأخير حتى يمكن لنفسه من التفوق البحري على البيزنطيين.
4 ـ تحصين أطراف الشام الشمالية:
كان من الضروري لكي تؤتي هذه الاستعدادات البحرية ثمارها، وتحقق أهدافها أن يصاحبها تحصين أطراف الشام الشمالية.
وهي التي تشكل مناطق الحدود بين الدولتين الإسلامية والبيزنطية، ضد غارات البيزنطيين من ناحية، ولتكون سنداً للقوات الزاحفة على القسطنطينية من ناحية ثانية؛ ذلك لأن المسلمين في فتوحاتهم الأولى في عهد الخلفاء الراشدين، وصلوا إلى أطراف الشام الشمالية، ثم وقفت أمامهم سلسلة جبال طوروس تحول دون وصولهم إلى اسية الصغرى البيزنطية، وكان البيزنطيون عند انسحابهم وتقهقرهم أمام المسلمين قد قاموا بتخريب المناطق الواقعة شمال حلب وإنطاكية لئلا يستفيد منها المسلمون، كما خربوا معظم الحصون فيما بين الإسكندرونة وطرسوس.
فرأى معاوية ضرورة الاهتمام بهذه المناطق وتعميرها وتحصينها، فاهتم أولاً بمدينة إنطاكية التي كانت معرضة دائماً للإغارات البيزنطية المفاجئة، واتبع في تعميرها السياسة التي سار عليها إزاء المدن الساحلية للشام، وأغرى الناس على الإقامة بإنطاكية، بأن منحهم إقطاعات من الأرض، وقوى الرباط المخصص للدفاع عنهم، وأخذ معاوية يوالي تدريجياً تعمير المدن الواقعة بين الإسكندرونة وطرسوس أثناء غاراته على أراضي البيزنطيين، حتى أصبحت حدود الشام تتاخم مباشرة جبال طوروس الحد الفاصل بين الشام واسية الصغرى، ولإحكام سيطرته على المعاقل الهامة الواقعة في مناطق التخوم الإسلامية البيزنطية، استولى على سميساط وملطية، كما جدد حصوناً أخرى؛ مثل: مرعش والحدث، ثم استولى على حصن زبطرة البيزنطي الهام وأعاد تحصينه، ولكي تكون الحركة مستمرة وتكون مناطق الحدود ميداناً عملياً لتدريب جند المسلمين، وتعويدهم على الدروب والطرق والممرات الجبلية الوعرة؛ دأب معاوية على الغزو المستمر، وأصبح هذا النشاط العسكري يعرف بغزوات الصوائف والشواتي، فلا تكاد تمر سنة وإلا ونجد ذكراً عند الطبري وغيره لغزو في البر أو البحر، كأن يقول: وفيها شتى فلان بأرض الروم أو كانت صائفة فلان إلى أرض الروم.
وكانت هذه الغزوات تنطلق إلى بلاد الأعداء وتخرب تحصيناتهم وتغنم وتعود، وكان تكرار هذه الغزوات يشكل ضغطاً على الدولة البيزنطية ويرهق أعصابها وينهك قواها، وقد برز في هذه الحملات المستمرة عدد من كبار القادة المسلمين الذين تلقوا تدريباتهم في ميدانها وأتقنوا فن الحرب، مثل عبد الله بن كرز البجلي، ويزيد بن شجرة الرهاوي، ومالك بن هبيرة السكوني، وجنادة بن أمية الأزدي، وسفيان بن عوف، وفضالة بن عبيد، ومالك بن عبد الله الخثعمي، الذي أطلقوا عليه مالك الصوائف لعلو كعبه في الميدان الحربي في اسية الصغرى، وهؤلاء القادة أبلوا بلاءً حسناً في الجهاد ضد البيزنطيين لإعلاء كلمة الله.
ثالثاً: الحصار الأول للقسطنطينية:
بعث معاوية رضي الله عنه سنتي 47 ـ 48 هـ سرايا من قواته لتُغِير على الأراضي البيزنطية لتمهِّد الطريق في سبيل الوصول إلى القسطنطينية؛ فتمكن مالك بن هبيرة السكوني من قضاء الشتاء في الأراضي البيزنطية.
ولقد شهدت سنة 49 هـ/669 م أول حصار إسلامي لمدينة القسطنطينية، ذلك أن نجاح قوات المسلمين في توغلهم في الأراضي البيزنطية، بالإضافة إلى الصراعات الداخلية التي واجهها الإمبراطور قُسطانز الثاني نتيجة تمرد اثنين من قادته هما سيليوس وميزيريوس، كل ذلك ساعد معاوية رضي الله عنه على أن يبعث قواته في البر والبحر بقيادة كل من فضالة بن عبيد الليثي وسفيان بن عوف العامري؛ يساعدهم يزيد بن شجرة الرهاوي، تجاه القسطنطينية، ووصل الأسطول الإسلامي إلى خلقيدونية ـ ضاحية من ضواحي القسطنطينية على البر الاسيوي ـ وحاصرها توطئة لاقتحامها في محاولة لاختراق المدينة من تلك الناحية، ولكن انتشار مرض الجدري وفتكه بكثير من جند المسلمين، علاوة على حلول الشتاء القارص؛ جعل ظروف الجيش المحاصر صعبة للغاية، فما كان من فضالة بن عبيد الليثي قائد الجيش البري إلا أن استنجد بمعاوية طالباً منه أن يمده بقوات إضافية، فأرسل معاوية رضي الله عنه مدداً من الجيش يضم بين أفراده مجموعة من الصحابة، أمثال: عبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير، وعبد الله بن عمرو بن العاص، وأبو أيوب خالد بن يزيد الأنصاري، رضي الله عنهم، وكان القائد العام لهذه الفرقة هو يزيد بن معاوية بن أبي سفيان.
وعندما وصل يزيد بقواته إلى خلقيدونية انضم إلى الجيش المرابط هناك، وزحفوا جميعهم نحو القسطنطينية وعسكروا خلف أسوارها ضاربين عليها الحصار حوالي ستة أشهر (من الربيع إلى الصيف)، وكان يتخلل هذا الحصار اشتباكات بين قوات القوتين، وأبلى يزيد في هذا الحصار بلاءً حسناً، وأظهر من ضروب الشجاعة والنخوة والإقدام ما حمل المؤرخين على أن يلقبوه بـ (فتى العرب).
وكادت القوات الإسلامية أن تحرز انتصاراً لولا أنهم واجهوا صعوبات جمة؛ منها: الشتاء الغزير المطر، والبرد القارص، مما أدى إلى نقص الطعام والأغذية، وتفشي الأمراض بينهم، كما كان لمناعة أسوار القسطنطينية أثرها في تراجع المسلمين وإجبارهم مرة أخرى على العودة إلى بلاد الشام، كما كانت النار التي فتحها المتحصِّنون بها على جيش المسلمين من أهم الأسباب التي عوقت قدرتهم على فتحها، فقد أحرقت النار كثيراً من سفن المسلمين.
ويعد غزو القسطنطينية من دلائل النبوة؛ حيث أخبر به نبينا محمد ﷺ؛ حيث قال: «... أول جيش من أمتي يغزون مدينة قيصر مغفور لهم»، وقد اشترك في غزو القسطنطينية عدد من كبراء الصحابة رضوان الله عليهم، طلباً للمغفرة التي بشَّر بها رسول الله ﷺ.
رابعاً: وفـاة أبي أيوب الأنصاري في حصـار القسطنطينيـة:
هو خالد بن زيد بن كليب، أبو أيوب الأنصاري الخزرجي، شهد بدراً والعقبة والمشاهد كلها، وشهد مع علي رضي الله عنه قتال الخوارج، وفي داره كان نزول رسول الله ﷺ حين قدم المدينة مهاجراً من مكة، فأقام عنده شهراً حتى بنى المسجد ومساكنه حوله، ثم تحوَّل إليها.
وقد وفد أبو أيوب على عبد الله بن عباس لما كان والياً على البصرة في عهد علي، فبالغ في إكرامه، وقال: لأجزينَّك على إنزالك النبي ﷺ عندك، فوصله بكل ما في المنزل، فبلغ ذلك أربعين ألفاً، وجاء في رواية: لما أراد الانصراف خرج له عن كل شيء بها، وزاده تحفاً وخدماً كثيراً، وأعطاه أربعين ألفاً وأربعين عبداً، إكراماً له لما كان أنزل رسول الله ﷺ في داره، وقد كان من أكبر الشرف له.
وهو القائل لزوجته أم أيوب حين قالت له: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ ـ أي: في حديث الإفك ـ فقال لهـا: أكنت فاعلـة ذلك يا أم أيوب ؟ فقالت: لا والله. فقال: والله لهي خير منك، فأنزل الله:
{لَّوۡلَآ إِذۡ سَمِعۡتُمُوهُ ظَنَّ ٱلۡمُؤۡمِنُونَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمۡ خَيۡرٗا ١٢}[سورة النور:12]
وقد آخى رسول الله ﷺ بين أبي أيوب ومصعب بن عمير رضي الله عنهما صاحب الفتح السلمي الكبير بالمدينة المنورة.
وكانت وفاته ببلاد الروم قريباً من سور قسطنطينية، وكان في جيش يزيد بن معاوية وإليه أوصى، وهو الذي صلى عليه. وقد جاء في رواية: غزا أبو أيوب، فمرض، فقال: إذا متُّ فاحملوني، فإذا صافقتم العدوَّ، فارموني تحت أقدامكم. أما إني سأحدثكم بحديث سمعته من رسول الله ﷺ يقول: «من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة»، ودفن أبو أيوب عند سور القسطنطينية، وقالت الروم لمن دفنه: يا معشر العرب ! قد كان لكم الليلة شأن. قالوا: مات رجل من أكابر أصحاب نبينا، والله لئن نُبش، لا ضُرِبَ بناقوس في بلاد العرب.
وبعد مجيء الدولة العثمانية وفتح القسطنطينية أصبحت مكانة أبي أيوب الأنصاري عظيمة في الثقافة العثمانية، فقد درج السلاطين العثمانيون يوم يتربعون على الملك أن يقيموا حفلاً دينياً في مسجد أبي أيوب، حيث يتقلدون سيفاً للرمز إلى السلطة التي أفضت إليهم، وكان لأبي أيوب رضي الله عنه عند الترك خواصهم وعوامهم رتبة ولي الله الذي تهوي إليه القلوب المؤمنة، وينظرون إليه كونه مضيف رسول الله، فقد أكرمه وأعانه وقت العسرة، كما أنه له مكانة مرموقة بين المجاهدين، واعتبروا ضيافته لرسول الله ﷺ وجهاده في سبيل الله أعظم مناقبه وأظهر ماثره.
وقد ترك أبو أيوب رضي الله عنه في وصيته بأن يدفن في أقصى نقطة من أرض العدو صورة رائعة تدل على تعلقه بالجهاد، فيكون بين صفوفهم حتى وهو في نعشه على أعناقهم، وأراد أن يتوغَّل في أرض العدو حياً وميتاً، وكأنما لم يكفه ما حقق في حياته فتمنى مزيداً عليه بعد مماته، وهذا ما لا غاية بعده في مفهوم المجاهد الحق بالمعنى الأصح الأدق.
ومن الغريب ما نراه في حياتنـا من حرص بعض المسلمين إذا مات خارج بلده أن يوصي أهله بإرجاعه ودفنه في أرضه، والأرض أرض الله والبلاد بلاد الله. وقد مدحه شعراء الأتراك في أشعارهم، وهذا شيخ الإسلام أسعد أفندي يشير إشارة لامحة إلى موقعه بقوله:
شهدَ المشاهدَ جاهداً ومجاهـداً
ومكابداً بحروبِهِ مـا كابَدا

حتَّى أتـى بصلابةٍ ومهـابةٍ
في اخر الغَزَوات هذا المشْهَدا

قد مات مبطوناً غريباً غازياً
فغدا شهيداً قبلَ أن يُستشهدا

كان أبو أيوب رضي الله عنه عندما خرج في غزوة الفسطنطينية قد تقدمت به السن وأصبح شيخاً كبيراً وكان يقول: قال الله تعالى: {ٱنفِرُواْ خِفَافٗا وَثِقَالٗا} [سورة التوبة:41] . لا أجدني إلا خفيفاً أو ثقيلاً، وكان أبو أيوب رضي الله عنه يعلم الناس الفهم الصحيح لايات الله ومفاهيم الإسلام؛ فعن أبي عمران التجيبي قال: غزونا من المدينة نريد القسطنطينية، وعلى الجماعة عبد الرحمن بن خالد بن الوليد ـ يعني: الجماعة الذين غزوا من المدينة ـ والروم ملصقو ظهورهم بحائط قسطنطينية، فحمل رجل على العدو فقال الناس: مه، مه، لا إله إلا الله، يلقي بيديه إلى التهلكة! فقال أبو أيوب: إنما نزلت هذه الاية فينا معشر الأنصار، لما نصر الله نبيه ﷺ وأظهر الإسلام قلنا: هلمَّ نقيم في أموالنا ونصلحها، فأنزل الله تعالى: {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ ٱللَّهِ وَلَا تُلۡقُواْ بِأَيۡدِيكُمۡ إِلَى ٱلتَّهۡلُكَةِ} [سورة البقرة:195] بالأيدي إلى التهلكة أن نقيم في أموالنا ونصلحها وندع الجهاد، قال أبو عمران: فلم يزل أبو أيوب يجاهد في سبيل الله حتى دفن بالقسطنطينيةفهذا الحديث يبين لنا خطورة الاشتغال بالأموال عن الجهاد في سبيل الله تعالى، وإن الهلاك الحقيقي هو هلاك الاخرة بسبب التهاون في واجبات الإسلام.


يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022