الخميس

1447-01-01

|

2025-6-26

الحلقة 97  - غزوة الأحزاب (فوائد، ودروس، وعبر):

أولاً: المعجزات الحسِّيَّة لرسول الله (ﷺ) :

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

ظهرت خلال مرحلة حفر الخندق معجزاتٌ حسِّيَّة للنَّبيِّ (ﷺ)، منها تكثير الطَّعام؛ الَّذي أعدَّه جابر بن عبد الله، فعن جابرٍ رضي الله عنه قال: إنَّا يوم الخندق مُحفر، فعرضَتْ كُدْيَةٌ شديدةٌ، فجاؤوا النَّبيَّ (ﷺ)، فقالوا: هذه كديةٌ عرضت في الخندق، فقال: «أنا نازلٌ» ثمَّ قام، وبطنه معصوبٌ بحجرٍ، ولبثنا ثلاثة أيَّامٍ لا نذوق ذواقاً، فأخـذ النَّبيُّ (ﷺ) المِعْوَل، فضرب في الكُدْيَـةِ، فعـادت كثيباً أهيل أو أهيم.

قال جابر: فقلت: يا رسول الله! ائذن لي إلى البيت، فقلت لامرأتي: رأيت بالنَّبيِّ (ﷺ) شيئاً ما كان في ذلك صبرٌ؛ فعندك شيءٌ؟ فقالت: عندي شعير، وعَناقٌ فذبحتُ العَناق، وطحنتُ الشَّعير، حتى جعلنا اللَّحم بالبُرمة، ثمَّ جئت النَّبيَّ (ﷺ) والعجين قد انكسر، والبرمة بين الأثافيِّ، قد كادت أن تنضجَ، فقلت: طُعَيِّمٌ لي، فقم أنت يا رسول الله! ورجل، أو رجلان، قال: «كم هو؟» فذكرت له، فقال: «كثيرٌ طيِّب» قال: «قل لها: لا تنزع البُرمة، ولا الخبز من التنُّور حتَّى آتي».

فقال: قوموا، فقام المهاجرون، والأنصار، فلـمَّا دخل على امرأته، قال: ويحك! جاء النَّبيُّ (ﷺ) بالمهاجرين، والأنصار، ومن معهم، قالت: هل سألك؟ قلت: نعم، قال: «ادخلوا، ولا تضاغطوا»، فجعل يَكْسِر الخبز، ويجعل عليه اللَّحم، ويخمِّر البُرمة والتَّنُّور إذا أخذ منه، ويقرِّب إلى أصحابه، ثم ينزع، فلم يزل يَكْسِر الخبز، ويغرف حتَّى شبعوا، وبقي بقيَّةٌ، قال: «كلي هذا، وأهدي؛ فإنَّ الناس أصابتهم مجاعةٌ».

وهذه ابنة بشير بن سعد تقول: دعتني أمِّي عمرة بنت رواحة، فأعطتني حفنةً من تمرٍ في ثوبي، ثمَّ قالت: أيْ بُـنَـيَّة! اذهبي إلى أبيك، وخالك عبد الله بن رواحة بغدائهما، قالت: فأخذتُها، فانطلقت بها فمررت برسول الله (ﷺ) وأنا ألتمس أبي، وخالي، فقال: «تعالَيْ يا بنية! ما هذا معك؟» فقلت: يا رسول الله! هذا تمرٌ بعثتني به أمِّي إلى أبي بشير بن سعدٍ، وخالي عبد الله بن رواحة يتغذَّيانه. قال: «هاتيه!» قالت: فصببته في كفَّيْ رسول الله (ﷺ) فما ملأتهما، ثمَّ أمر بثوبٍ، فبُسط له، ثمَّ دعا بالتَّمر عليه، فتبدَّد فوق الثوب، ثمَّ قال لإنسان عنده: «اصرخ في أهل الخندق: أن هلمَّ إلى الغذاء، فاجتمع أهل الخندق عليه، فجعلوا يأكلون منه، وجعل يزيد حتى صدر أهل الخندق عنه، وإنَّه ليسقط من أطراف الثَّوب. [ابن هشام (3/228 - 229)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/427)].

ففي هذين الخبرين معجزاتٌ حسِّيَّة ظاهرة للرسول (ﷺ)، كما يظهر دور المرأة المسلمة في مشاركة المسلمين في جهادهم، فعندما اشتغل المسلمون بحفر الخندق تركوا أعمالهم، وبعدت عنهم أرزاقهم، وقلَّ عنهم القوت، وأصاب النَّاس جوعٌ، وحرمانٌ، حتَّى كان رسول الله (ﷺ) والمسلمون معه يشدُّون على بطونهم الحجارة من شدَّة الجوع، فكانت المرأة المسلمة تعين المسلمين بإعداد ما قدرت عليه من الطَّعام.

ومن دلائل النُّبوة في أثناء حفر الخندق، إخباره (ﷺ) عمَّار بن ياسر، وهو يحفر معهم الخندق، بأنَّه ستقتله الفئة الباغية [البخاري (447)، ومسلم (2915)]؛ فقتل في صفِّين وكان في جيش عليٍّ.

وعندما اعترضت صخرةٌ الصَّحابة وهم يحفرون، ضربها الرَّسول (ﷺ) ثلاث ضربات، فتفتَّتت، قال إثر الضربة الأولى: «الله أكبر! أُعطيت مفاتيح الشَّام، والله! إنِّي لأبصر قصورها الحمراء السَّاعة». ثمَّ ضربها الثانية، فقال: «الله أكبر! أعطيت مفاتيح فارس، والله! إنِّي لأبصر قصر المدائن أبيض» ثمَّ ضرب الثَّالثة، وقال: «الله أكبر! أعطيت مفاتيح اليمن، والله! إنِّي لأبصر أبواب صنعاء من مكاني هذه السَّاعة». [أحمد (4/303)، وأبو يعلى (1685)، والبيهقي في دلائل النبوة (3/421)، ومجمع الزوائد (6/130)].

وقد تحقَّقت هذه البشارة الَّتي أخبرت عن اتِّساع الفتوحات الإسلاميَّة، والإخبار عنها في وقتٍ كان المسلمون فيه محصورين في المدينة، يواجهون المشاقَّ، والخوف، والجوع، والبرد القارس.

ثانياً: بين التَّصوُّر، والواقع:

قال رجلٌ من أهل الكوفة لحذيفة بن اليمان: يا أبا عبد الله! أرأيتم رسول الله، وصحبتموه؟ قال: نعم يا بن أخي! قال: فكيف كنتم تصنعون؟ قال: والله لقد كنَّا نجهد، قال: فقال: والله! لو أدركناه، ما تركناه يمشي على الأرض، ولحملناه على أعناقنا. فقال حذيفة: يابن أخي! والله لقد رأيتُنا مع رسول الله (ﷺ)، بالخندق، ثمَّ ذكر حديث تكليفه بمهمَّة الذَّهاب إلى معسكر المشركين.

هذا تابعيٌ يلتقي بالصَّحابيِّ حذيفة، ويتخيَّل: أنَّه لو وجد مع رسول الله (ﷺ) ؛ لاستطاع أن يفعل ما لم يفعله الصَّحابة الكرام، والخيال شيءٌ، والواقع شيءٌ آخر، والصَّحابة رضي الله عنهم بشرٌ، لهم طاقات البشر، وقدراتهم، وقد قدَّموا كلَّ ما يستطيعون، فلم يبخلوا بالأنفس، فضلاً عن المال والجهد، وقد وضع (ﷺ) الأمور في نصابها بقوله: «خير القرون قرني» [البخاري (6429)، ومسلم (2533)] فبيَّن: أن عملهم لا يعدله عملٌ.

إنَّ الذين جاؤوا من بعدُ، فوجدوا سلطان الإسلام ممتدّاً، وعاشوا في ظلِّ الأمن، والرَّخاء، والعدل، بعيدين عن الفتنة والابتلاء، هم بحاجةٍ إلى نقلةٍ بعيدةٍ يستشعرون من خلالها أجواء الماضي بكلِّ ما فيه من جهالاتٍ، وضلالاتٍ، وكفرٍ... وبعد ذلك يمكنهم تقدير الجهد المبذول من الصَّحابة حتَّى قام الإسلام في الأرض.

ثالثاً: سلمان منَّا أهل البيت:

قال المهاجرون يوم الخندق: سلمان منَّا، وقالت الأنصار: سلمان منَّا، فقال رسول الله (ﷺ) : «سلمان منَّا أهل البيت» [الحاكم (3/598)، والطبراني في المعجم الكبير (6/261)، وابن هشام (3/235) ومجمع الزوائد (6/130)]، وهذا الوسام النَّبويُّ الخالد لسلمان يشعر بأنَّ سلمان من المهاجرين؛ لأنَّ أهل البيت من المهاجرين.

رابعاً: الصَّلاة الوسطى:

قال (ﷺ) : «ملأ الله عليهم بيوتهم، وقبورهم ناراً، كما شغلونا عن الصَّلاة الوسطى حتَّى غابت الشَّمس» [سبق تخريجه]. وقد استدلَّ طائفةٌ من العلماء بهذا الحديث على كون الصَّلاة الوسطى هي صلاة العصر، كما هو منصوصٌ عليه، وألزم القاضي الماورديُّ مذهب الشَّافعي بهذا لصحَّة الحديث، وقد استدلَّ طائفةٌ من العلماء بهذا الصَّنيع على جواز تأخير الصَّلاة لعذر القتال، كما هو مذهب مكحولٍ، والأوزاعيِّ.

قال الدُّكتور البوطي: لقد فاتت النَّبيَّ (ﷺ) صلاةُ العصر، كما رأيت في هذه الموقعة؛ لشدَّة انشغاله، حتَّى صلاَّها قضاءً بعدما غربت الشَّمس، وفي رواياتٍ أخرى غير الصَّحيحين: أنَّ الذي فاته أكثرُ من صلاةٍ واحدةٍ، صلاَّها تباعاً بعدما خرج وقتُها، وفرغ لأدائها، وهذا يدلُّ على مشروعية قضاء الفائتة، ولا ينقض هذه الدَّلالة ما ذهب إليه البعض من أنَّ تأخير الصَّلاة لمثل ذلك الانشغال كان جائزاً إذ ذاك، ثمَّ نُسخ حينما شُرعت صلاة الخوف للمسلمين رجالاً، وركباناً عند التحام القتال بينهم وبين المشركين؛ إذ النَّسخ على فرض صحَّته ليس وارداً على مشروعية القضاء، وإنَّما هو وارد على صحَّة تأخير الصَّلاة بسبب الانشغال، أي: أنَّ نسخ صحَّة التأخير ليس نسخاً لما كان قد ثبت من مشروعية القضاء أيضاً، بل هي مسكوتٌ عنها، فتبقى على مشروعيَّتها السَّابقة.

خامساً: الحلال والحرام:

عَرَضَتْ قريشٌ فداءً مقابل جثَّة عمرو بن عبد ودٍّ، فقال (ﷺ) : «ادفعوا إليهم جيفته فإنَّه خبيث الجيفة، خبيث الدِّية، فلم يقبل منهم شيئاً». [أحمد (1/248)، وابن هشام (3/265)].

حدث هذا والمسلمون في ضنكٍ من العيش، ومع ذلك فالحلال حلالٌ والحرام حرامٌ، إنَّها مقاييس الإسلام في الحلال والحرام، فأين هذا من النَّاس المحسوبين على المسلمين الَّذين يحاولون إيجاد المبرِّرات لأكل الرِّبا، وما شابهه؟!.

سادساً: شجاعة صفيَّة عمَّة الرَّسول (ﷺ) :

كان (ﷺ) قد وضع النِّساء، والأطفال في حصن فارعٍ، وهو حصنٌ قويٌّ؛ حمايةً لهم، لأنَّ المسلمين في شغلٍ عن حمايتهم لمواجهتهم جيوش الأحزاب، فعندما نقض يهود بني قريظة عهدهم مع رسول الله (ﷺ) أرسلت يهوديّاً ليستطلع وضع الحصن الَّذي فيـه نساء المسلمين، وأطفالهم، فأبصرتـه صفيَّـة بنت عبد المطلب عمَّـة رسول الله (ﷺ)، فأخذت عموداً، ونزلت من الحصن، فضربته بالعمود، فقتلته، فكان هذا الفعل من صفيَّة رادعاً لليهود من التَّحرُّش بهذا الحصن الَّذي ليس فيه إلا النِّساء، والأطفال، حيث ظنَّت يهود بني قريظة: أنَّه محميٌّ من قبل الجيش الإسلاميِّ، أو أنَّ فيه على الأقلِّ مَنْ يدافع عنه من الرِّجال، ففي هذا الخبر دليلٌ للمرأة في الدِّفاع عن نفسها؛ إن لم تجد مَنْ يدافع عنها.

سابعاً: عدم صحَّة ما يروى عن جبن حسَّان رضي الله عنه:

وفي قصَّة صفيَّة عمَّـة رسول الله (ﷺ) وقتْلِهـا لليهوديِّ جاءت روايـةٌ سندها ضعيفٌ؛ أنَّ صفية رضي الله عنها قالت لحسان بن ثابتٍ: إنَّ هذا اليهودي يُطِيف بالحصن، كما ترى، ولا امنه أن يدلَّ على عورتنا مَنْ وراءنا من يهود، وقد شُغِل عنَّا رسولُ الله (ﷺ) وأصحابه، فانزِلْ إليه، فاقتُلْه. فقال: يغفر الله لكِ يا بنت عبد المطلب! والله! لقد عرفتِ ما أنا بصاحب هذا؟ قالت صفيَّة رضي الله عنها: فلـمَّا قال ذلك، احتجزت عموداً ثمَّ نزلت من الحصن إليه، فضربتُه بالعمود حتَّى قتلتُه، ثم رجعت الحصن، فقالت: يا حسان! انزل فاستلِبْه، فإنَّه لم يمنعني أن أستلبه إلا أنَّه رجلٌ، فقال: ما لي بسلبه من حاجةٍ يا بنت عبد المطلب! [ابن هشام (3/239)، والبيهقي في دلائل النبـوة (3/442 - 443). وهذا الخبر لا يصح لأمور منها:

1 - من حيث الإسناد، فالخبر ليس مسنداً، وهو ساقطٌ لا يصحُّ، ولا يجوز أن يروى، فيساء إلى صحابيٍّ من صحابة رسول الله (ﷺ)، كان ينافح عن الدَّعوة، وعن رسول الله (ﷺ) عُمُرَهُ كلَّه.

2 - لو كان حسّان بن ثابت رضي الله عنه معروفاً بالجبن؛ الَّذي ذكر عنه؛ لهجاه أعداؤه، ومبغضوه بهذه الخصلة الذَّميمة، لاسيَّما الَّذين كان يهاجيهم، فلم يسلم من هجائه أحدٌ من زعماء الجاهليَّة، والرَّسول (ﷺ) كان يؤيِّده، ويدعو له، ويشجِّعه على هجاء زعماء المشركين.

ثامناً: أول مستشفى إسلامي حربي:

أنشأ المسلمون أوَّل مستشفى إسلاميٍّ حربيٍّ في غزوة الأحزاب، فقد ضرب الرَّسول صلوات الله وسلامُه عليه خيمةً في مسجده الشَّريف في المدينة، عندما دارت رحى غزوة الأحزاب، فأمر (ﷺ) أن تكون رُفَيْدة الأسلميَّة الأنصاريَّة رئيسة ذلك المستشفى النَّبويِّ الحربيِّ، وبذلك أصبحت أوَّل ممرِّضةٍ عسكريَّةٍ في الإسلام، وجاء في السِّيرة النَّبويَّة لابن هشام: وكان (ﷺ) قد جعل سعد بن معاذ في خيمةٍ لامرأةٍ من أسلم، يقال لها: رُفيدة، في مسجده، كانت تداوي الجرحى، وتحتسب بنفسها على خدمة مَنْ به ضيعةٌ من المسلمين، وكان (ﷺ) قد قال لقومه حين أصابه السَّهم بالخندق: «اجعلوه في خيمة رفيدة حتَّى أعوده من قريب...» [ابن هشام (3/250)، والطبري في تفسيره (21/152)].

ويفهم من النَّص السَّابق أنَّ مَنْ أصيب من المسلمين، إن كان له أهلٌ؛ اعتنى به أهلُه، وإن لم يكن له أهلٌ؛ جيء به إلى المسجد؛ حيث ضُربت خيمةٌ فيه لمن كانت به ضيعةٌ من المسلمين، وسعدُ بن معاذ الأوسيُّ ليس به ضيعةٌ، ولكن لـمَّا أراد الرَّسول (ﷺ) الاطمئنان عليه باستمرارٍ، جعله في تلك الخيمة الَّتي أعدَّت لمن به ضيعةٌ، وليس له أهل؛ ذلك: أنَّ هؤلاء هم في رعاية رسول الله (ﷺ)، وإلا فِلِمَ ضُربت الخيمة في المسجد، وكان بالإمكان ضربها في أيِّ مكانٍ آخر!

إنَّ سعد بن معاذُ يكرَّم لماثره، وما بذله في سبيل الله تعالى، فيكون هذا التَّكريم أن يجعل في خيمةٍ أعدَّت لمن به ضيعةٌ، وهكذا حينما يرتفع السَّادة يجعلون مع المغمورين الَّذين أخلصـوا أعمالهم لله تعالى، فاستحقُّـوا أن يكونوا في رعايـة رسول الله (ﷺ)، وهذا منهجٌ نبويٌّ كريمٌ أصبح دستوراً للمسلمين على مدى الزَّمن.

تاسعاً: المسلم يقع في الإثم، ولكنَّه يسارع إلى التَّوبة:

أرسل بنو قريظة إلى أبي لبابة بن عبد المنذر - وكانوا حلفاءه - فاستشاروه في النُّزول على حكم رسول الله (ﷺ)، فأشار إلى حلقه - يعني الذَّبح - ثمَّ ندم فتوجَّه إلى مسجد النَّبيِّ (ﷺ)، فارتبط به حتَّى تاب الله عليه، وقد ظلَّ مرتبطاً بالجذع في المسجد ستَّ ليالٍ تأتيه امرأتُه في وقت كلِّ صلاةٍ فتحلُّه للصَّلاة، ثمَّ يعود، فيرتبط في الجِذْع.

وقد قال أبو لبابة: لا أبرح مكاني هذا حتَّى يتوب الله عليَّ ممَّا صنعتُ. قالت أمُّ سلمة: فسمعت رسول الله (ﷺ) من السَّحر وهو يضحك، فقلت: ممَّ تضحك يا رسول الله؟! أَضْحَكَ اللهُ سِنَّك، قال: «تِيبَ على أبي لبابة» قالت: قلت: أفلا أبشِّره يا رسول الله؟! قال: بلى؛ إن شئتِ، فقامت على باب حجرتها - وذلك قبل أن يضرب عليهنَّ الحجاب - فقالت: يا أبا لبابة؟ أبشر فقد تاب الله عليك!

قالت: فثار النَّاس؛ ليطلقوه، فقال: لا والله! حتى يكون رسول الله (ﷺ) هو الَّذي يُطلقني بيده. فلـمَّا مرَّ عليه رسول الله (ﷺ) خارجاً إلى صلاة الصُّبح؛ أطلقه عنه [ابن هشام (3/247 - 248)، والبيهقي في دلائل النبوة (4/16 - 17)]، وذلك في الاعتراف بالذَّنب، والتَّوبة النَّصوح، وإنَّ موطن العبرة في هذا الموقف يكمن في تصرُّف أبي لبابة بعدما وقعت منه هذه الزَّلَّة الَّتي أفشى بها سرّاً حربيّاً خطيراً، فأبو لبابة لم يحاول التَّكتُّم على ما بدر منه، والظُّهور أمام رسول الله (ﷺ) والمسلمين بمظهر الرَّجل الذي أدى مهمَّته بنجاحٍ، وأنَّه لم يحصل منه شيءٌ من المخالفات، وكان بإمكانه أن يخفي هذا الأمر، حيث لم يطَّلع عليه أحد من المسلمين، وأن يستكتم اليهود أمره، ولكنَّه تذكَّر رقابة الله عليه، وعلمه بما يُسِرُّ، ويُعلن، وتذكَّر حقَّ رسول الله (ﷺ) العظيم عليه، وهو الَّذي ائتمنه على ذلك السِّرِّ، ففزع لهذه الزَّلَّة فزعاً عظيماً(1)، وأقرَّ بذنبه، واعترف به، وبادر إلى العقوبة الذَّاتيَّة التلقائيَّة، دون انتظار التَّحقيق، وتوقيع العقوبة الواجبة: إنَّها صورةٌ تطبيقيَّةٌ لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ﴾ [النساء: 17].

إنَّها صورةٌ فريدةٌ لتوقيع العقوبة من الإنسان نفسِه على نفسِه... ولا يفعل ذلك إلا أهل الإيمان، وما ذلك إلا مِنْ آثار الإيمان العميق الرَّاسخ، الَّذي لا يرضى لصاحبه أن يخالطه إثمٌ، أو فسوقٌ.

وقد فرح الصَّحابة، وفرح النَّبيُّ (ﷺ) نفسه بتوبة الله على أبي لبابة، وتسابقوا إلى تهنئته، حتَّى كانت أمُّ سلمة زوج النَّبيِّ (ﷺ) هي الَّتي بادرت بالتهنئة بعد الإذن، فبشَّرته بقبول الله توبته.

وقد أنزل الله تعالى في أبي لبابة قوله تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [الأنفال: 27].

ونزل في توبته قوله تعالى: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 102].

عاشراً: من فضائل سعد بن معاذٍ رضي الله عنه:

ظهرت لسعد بن معاذ رضي الله عنه في هذه الغزوة فضائل كثيرةٌ، تدلُّ على فضله، ومنزلته عند الله ورسوله (ﷺ) ؛ منها:

- استجابة الله تعالى لدعائه عندما قال: (اللَّهمَّ إنَّك تعلم: أنَّه ليس أحدٌ أحبَّ إليَّ أن أجاهدهم فيك من قومٍ كذَّبوا رسولك (ﷺ)، وأخرجوه، اللَّهم! فإن بقي من حرب قريش شيءٌ؛ فأبقني له حتَّى أجاهدهم فيك) وقد استُجيب دعاؤه فتحجَّر جرحُه، وتماثل للشِّفاء حتَّى كانت غزوة بني قريظة، وجعل رسولُ الله (ﷺ) الحكم فيهم إليه، فحكم فيهم بالحقِّ، ولم تأخذه في الله لومةُ لائم، وهذا دليلٌ على تجرُّد قلبه للهِ تعالى.

ومن إكرام رسول الله (ﷺ) له قوله للأنصار عندما جاء سعدٌ للحكم في بني قريظة: «قوموا إلى سيدكم». [البخاري (3043 و4122)، ومسلم (1768/64)].

وهذا تكريمٌ لسعدٍ، وتقديرٌ لشجاعته، حيث سمَّاه سيِّداً، وأمر بالقيام له.

وعندما نفَّذ حكم الله في يهود بني قريظة؛ رفع سعدٌ يده يدعو الله ثانيةً، يقول: اللَّهمَّ! فإنِّي أظنُّ أنَّك قد وضعت الحرب بيننا وبينهم - يعني قريشاً والمشركين - فإنْ كنت قد وضعت الحرب بيننا وبينهم فافجر جرحي، واجعل موتتي فيها [سبق تخريجه]، وقد استُجيب دعاؤه، فانفجر جرحُه تلك اللَّيلة، ومات رحمه الله!

ومن خلال دعائه الأوَّل، والثَّاني نلحظ هذا الدُّعاء العجيب، دعاء العظماء، الَّذين يعرفون: أنَّ رسالتهم في الحياة ليست الاستشهاد فقط؛ بل متابعة الجهاد إلى اللَّحظة الأخيرة، فهو المسؤول عن نصرة الإسلام في قومه، وأمَّته.

ونرى من سيرته: أنَّه لو أقسم على الله؛ لأبرَّه، فهو وجيهٌ في السَّموات، والأرض، فقد شاءت إرادة المولى - تعالى - أن يعيد الأمر في بني قريظة كلَّه إليه، وأن يطلب بنو قريظة أن يكون الحُكْمُ فيهم لسعدِ بن معاذٍ رضي الله عنه.

إنَّه لا يحرص كثيراً على الحياة، بعد انتهاء الجهاد، وانتهاء المسؤوليَّة، وتأدية الأمانة المنوطة به في قيادة قومه لحرب الأحمر والأسود من النَّاس، فإذا انتهت الحرب، ووُضِعت بين المسلمين، وقريش، وشفى غيظ قلبه في الحكم في بني قريظة، وبدأ قطف الثِّمار للإسلام، فلا ثمرة أشهى عنده من الشَّهادة (فافجر جرحي، واجعل موتتي فيه).

وقد تحقَّقت اماله، فقد أصدر حكمه في بني قريظة، وشهد مصرع حلفاء الأمس أعداء اليوم، وهاهو جرحُه ينفجر. وعندما انفجر جرحه نقله قومُه، فاحتملوه إلى بني عبد الأشهل إلى منازلهم، وجاء رسول الله (ﷺ) فقال: «انطلقوا»، فخرج وخرج معه الصَّحابة، وأسرع حتى تقطَّعت شسوع نعالهم، وسقطت أرديتهم، فشكا إليـه أصحابـه ذلك، فقال النَّبيُّ (ﷺ) : «إنِّي أخاف أن تسبقنا الملائكة فتغسله كما غسلت حنظلة»، فانتهى إلى البيت، وهو يُغسل، وأمُّه تبكيه، وتقول:

وَيْلُ أمِّ سَعْدٍ سَعْدا            حَـــــــــــــــــــزَامَةً وَجَــــــــــــــــــــــدّا

 فقال: كلُّ نائحةٍ تكذب إلا أمَّ سعدٍ»، ثمَّ خرج به قال: يقول له القوم: ما حملنا يا رسول الله! ميتاً أخف علينا منه! قال: «وما يمنعه أن يخفَّ، وقد هبط من الملائكة كذا وكذا، ولم يهبطوا قطُّ قبل يومهم قد حملوه معكم». [ابن هشام (3/264)، والألباني في الصحيحة (1158)].

وقد جاء في النَّسائي عن ابن عمر رضي الله عنهما عددُ الملائكة الَّذين شاركوا في تشييع جنازة سعد، فقد قال (ﷺ): «هذا العبد الصَّالح الَّذي تحرَّك له العرش، وفُتحت له أبواب السَّماء، وشهده سبعون ألفاً من الملائكة، لم ينزلوا إلى الأرض قبل ذلك، لقد ضُمَّ ضمَّة، ثمَّ أفرج عنه» [النسائي (4/101)] يعني: سعداً.

وها هو رسول الله (ﷺ) يودِّع سعداً كما رَوَى عبد الله بن شدَّاد: دخل رسول الله (ﷺ) وهو يكيد نفسه، فقال: «جزاك الله خيراً من سيِّد قومٍ، فقد أنجزت ما وعدته، ولينجزك الله ما وعدك. [ابن أبي شيبة (5/322) و(12/145)].

لقد أثنى النَّبيُّ (ﷺ) على هذا العبد الصَّالح بعد موته كثيراً أمام الصَّحابة ؛ ليتعرَّف النَّاس على أعماله الصَّالحة، فيتأسَّوا به، فقد قال (ﷺ) : «اهتزَّ عرشُ الرَّحمن لموت سعد بن معاذ» [البخاري (3803)، ومسلم (2466/123 و124)].

وفي حديث البراء بن عازب رضي الله عنه قال: أُهْدِيَتْ لرسول الله (ﷺ) حلَّةُ حريرٍ، فجعل أصحابه يلمسونه، ويعجبون من لينها، فقال: «أتعجبون من لين هذا؟ لمناديل سعد بن معاذ في الجنَّة خيرٌ منها، وألين». [البخاري (3802)، ومسلم (2468/126)].

ومع كلِّ هذه الماثر، والمحاسن، والأعمال الجليلة الَّتي قدَّمها لخدمة دين الله، فقد تعرَّض لضمَّة القبر: لما انتهوا إلى قبر سعدٍ رضي الله عنه نزل فيه أربعةٌ: الحارث بن أوس، وأُسَيْد بن الحضير، وأبو نائلة سلكان، وسلمة بن سلامة بن وقش، ورسول الله (ﷺ) واقفٌ، فلـمَّا وضع في قبره تغيَّر وجه رسول الله (ﷺ)، وسبَّح ثلاثاً، فسبَّح المسلمون؛ حتَّى ارتجَّ البقيع، ثمَّ كبَّر ثلاثاً، وكبَّر المسلمون، فسئل عن ذلك فقال: «تضايق على صاحبكم القبر، وضمَّ ضمَّةً لو نجا منها أحدٌ؛ لنجا هو، ثمَّ فرَّج الله عنه». [سبق تخريجه].

إنَّ هذا الصَّحابيَّ الجليل قد استُشْهِدَ وهو في ريعان شبابه، فقد كان في السَّابعة والثلاثين من عمره يوم وافته منيته، وهذا يعني أنَّه قاد قومه إلى الإسلام، وهو في الثلاثين من عمره... فقد كانت هذه السِّيادة في العشرينات من عمره، وقبل أن يكون على مشارف الثلاثين، وإنَّما تتفجَّر الطَّاقات الكامنة، والمواهب بعد سنِّ الأربعين، الَّتي هي غاية الأَشُدِّ.

قـال تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأحقاف: 15].

فأيُّ طرازٍ هذا الَّذي حفل تاريخه بهذه الماثر، واستبشر أهل السَّمواتِ بقدومه، واهتزَّ عرش الرَّحمن فرحاً لوفاته من دون خلق الله أجمعين! كان سعد بن معاذ رجلاً أبيض، طوالاً، جميلاً، حسن الوجه، أعين، حسن اللِّحية رحمة الله عليه، ورضي عنه، وأعلى ذكره في المصلحين.

حادي عشر: مقتل حيي بن أخطب، وكعب بن أسد:

1 - مقتل حيي بن أخطب النَّضْرِيِّ:

روى عبد الرزَّاق في مصنَّفه بالسَّند إلى سعيد بن المسيِّب.... فذكر بعض خبر الأحزاب، وقريظة... إلى أن قال: فلـمَّا فضَّ الله جموع الأحزاب؛ انطلق - يعني: حيي - حتَّى إذا كان بالرَّوحاء ذكر العهد، والميثاق الَّذي أعطاهم، فرجع حتى دخل معهم، فلـمَّا أقبلت بنو قريظة أتي به مكتوفاً بعدُ، فقال حُيَيٌّ للنَّبيِّ (ﷺ) : أما والله ما لمت نفسي في عداوتك، ولكنَّه من يَخْذِلِ اللهُ يُخْذَل، فأمر به النَّبيُّ (ﷺ)، فَضُرِبَتْ عنقُه. [عبد الرزاق في المصنف (9737)، وابن هشام (3/252)، والبيهقي في دلائل النبوة (4/23)].

ثمَّ إنَّه أقبل على النَّاس قبل تنفيذ حكم الإعدام، وقال لهم: أيُّها النَّاس! إنَّه لابأس بأمر الله، كتابٌ وقَدَرٌ، وملحمةٌ كتبها الله على بني إسرائيل، ثمَّ جلس، فضربت عنقُه. وفي مقتل حييِّ بن أخطب دروسٌ، وعبرٌ؛ منها:

أ - لا يحيق المكر السَّيِّئ إلا بأهله:

فقد ألَّب القبائل العربيَّة، واليهوديَّة على محاربة الإسلام، ونبيِّه (ﷺ)، وأقنع بني قريظة بضرورة نقض العهد مع الرَّسول (ﷺ) وطعنه من الخلف، فجعل اللهُ كيدَه في نحره، وكبته، وفي النِّهاية قادته محاولاتُه إلى حتفه.

إنَّ الله لا يُهمِل الظَّالمين، ولكن يُمهِلُهم ويَستدرِجُهم، حتَّى إذا أخذهم؛ أخذهم أخذ عزيزٍ مقتدر، فكان أخذه أليماً شديداً، قال (ﷺ) : «إنَّ الله ليملي للظَّالمِ حتَّى إذا أخذه لم يُفْلِتْهُ» [البخاري (4686)] ثمَّ تلا قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ﴾ [هود: 102].

ب - التَّجلُّد في مواطن الشِّدَّة:

لقد تجلَّد حييٌّ وتقدَّم لتضرب عنقه؛ حتَّى لا يشمت فيه شامتٌ، وهو يعرف: أنَّه على باطلٍ، ظالمٌ لنفسه، قد أوردها موارد الهلاك، ومع هذا يموت على ذلك، والعزَّة بالإثم تأخذه إلى جهنَّم وبئس المصير؛ لأنَّه يعبد هواه، ولم يعبد ربَّه، قال تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ﴾ [الجاثية: 23].

ج - مَنْ يَخْذُلِ اللهَ يُخذَل:

إنَّ الله تعالى إذا خذل أحداً؛ فليس له نصيرٌ يمنعه، أو يدفع عنه، قال سبحانه: ﴿إِن يَنصُرْكُمُ اللّهُ فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الَّذِي يَنصُرُكُم مِّن بَعْدِهِ وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكِّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ [آل عمران: 160].

كما أنَّ عداوة حُيَيٍّ للرَّسول (ﷺ) باعثها الحسد والحقد، ولذلك عبر حُيَّيٌّ صراحةً: أنَّ الله لم يكن معه يوماً من الأيام، بل كان حُيَيٌّ في شقِّ الشَّيطان عدوّاً لأولياء الرَّحمن، يشاقق الله، فالله خاذلُه، ومُسْلِمُه لكلِّ ما يؤذيه، ويُتعبه، ولا توجد قوَّةٌ في الأرض، ولا في السَّماء تنصره، وتحول بينه وبين الهزيمة؛ لأنَّ إرادة الله هي النَّافذة، وقدَره هو الكائن، لا رادَّ لقضائه، لا يعجزِه شيءٌ في الأرض، ولا في السَّماء؛ قال تعالى: ﴿وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأنعام: 17].

2 - مقتل كعب بن أسد القرظيِّ:

وجيء برئيس بني قريظة، كعب بن أسد، وقبل أن يَضْرِب رسول الله (ﷺ) عنقه جرى بينه وبين كعبٍ الحوار التَّالي: قال رسول الله (ﷺ) : «كعبُ بن أسدٍ؟». قال كعبُ بن أسدٍ: نعم يا أبا القاسم! قال رسول الله (ﷺ) : «ما انتفعتم بنصح ابن خراشٍ لكم، وكان مصدِّقاً بي، أما أمركُم باتِّباعي، وإنْ رأيتمُوني تقرئوني منه السَّلام؟». قال كعب: بلى، والتَّوراةِ يا أبا القاسم! ولولا أن تعيِّرني يهود بالجزع من السَّيف لاتَّبعتُك، ولكنِّي على دين يهود. فأمر رسول الله (ﷺ) بضرب عنقه، فضربت.

وممَّا ترويه كتب السِّيرة النَّبويَّة عن يهود بني قريظة: أنَّهم كانوا يرسلون طائفةً تلو طائفةٍ؛ لتضرب أعناقهم، وقد سألوا زعيمهم كعب بن أسد، فقالوا: يا كعب! ما تراه يُصنع بنا؟ قال: أفي كلِّ موطنٍ لا تعقلون؟ ألا ترون الدَّاعي لا يَنْزِع، وأنَّه مَنْ ذهب به منكم لا يَرْجِع؟ هو والله! القتل. [ابن هشام (3/252)، والبيهقي في دلائل النبوة (4/23)].

ونلحظ في خبر مقتل كعب بن أسدٍ: أنَّه كان متعصِّباً ليهوديته، وهو يعلم بُطلانها، وأنَّه على علمٍ بصدق رسالة رسولنا (ﷺ)، ولكنَّه لم يؤمن، ولم يدخل الإسلام خوفاً من أن تعيِّره يهود بأنَّه جزع من السَّيف فعدم إيمانه، وبقاؤه على الكفر كان نتيجة ريائه، وحبِّه للثناء، وخوفه من ذمِّه، وتعييره، وهذا دليلٌ على السَّفه، والحُمْقِ، وخذلان الله لهذا اليهوديِّ المخادِع.

ثاني عشر: شفاعة ثابت بن قيس في الزَّبِير بن باطا وسلمى بنت قيس في رفاعة بن سَمَوْءل

1 - شفاعة ثابت بن قيس في الزَّبير بن باطا:

أقبل ثابت بن قيس بن شمَّاس إلى رسول الله (ﷺ)، فقال: هب لي الزَّبِير اليهوديَّ أَجْزِهِ فقد كانت له عندي يدٌ يوم بعاثٍ، فأعطاه إيَّاه، فأقبل ثابتٌ حتَّى أتاه فقال: يا أبا عبد الرحمن! هل تعرفني؟ فقال: نعم، وهل يُنْكِرُ الرَّجل أخاه؟! قال ثابت: أردت أن أجْزِيكَ اليوم بيدٍ لك عندي يوم بُعاث، قال: فافعل؛ فإنَّ الكريم يجزي الكريم، قال: قد فعلت، قد سألت رسول الله (ﷺ)، فوهبك لي، فأطلق عنك إساره، فقال الزَّبِير: ليس لي قائدٌ، وقد أخذتم امرأتي، وابني، فرجع ثابتٌ إلى رسول الله (ﷺ) فاستوهبه امرأتَه، وبنيه، فوهبهم له، فرجع ثابتٌ إلى الزَّبِير، فقال: ردَّ إليك رسول الله (ﷺ) امرأتك وبنيك، فقال الزَّبِير: حائط لي فيه أعذق، وليس لي ولا لأهلي عيش إلا به، فرجع ثابت إلى رسول الله (ﷺ)، فوهبه لـه، فرجع ثابت إلى الزَّبِير، فقال: قد ردَّ إليك رسول الله (ﷺ) أهلك، ومالك، فأسلِم؛ تسلَمْ، قال: ما فعل الجليسان؟ وذكر رجال قومه، قال ثابتٌ: قد قُتِلوا، وفُرِغَ منهم، ولعلَّ الله - تبارك وتعالى - أن يكون أبقاك لخير، قال الزَّبِير: أسألك بالله يا ثابت! وبيدي التي عندك يوم بُعاثٍ إلا ألحقتني بهم، فليس في العيش خيرٌ بعدهم، فذكر ثابت ذلك لرسول الله (ﷺ) فأمر بالزَّبِير، فقُتِل. [ابن هشام (3/253 - 254)، والبيهقي في دلائل النبوة (4/23 - 24)].

2 - شفاعة سلمى بنت قيس في رفاعة بن سَمَوْءَلٍ القرظيِّ:

كانت سلمى بنت قيس، وكنيتها أمُّ المنذر أخت سليط بن قيس، وكانت إحدى خالات رسول الله (ﷺ)، قد صلَّت معه القبلتين، وبايعتْه بيعة النِّساء، سألته رفاعة بن سَمَوْءَل القرظيَّ، وكان رجلاً قد بلغ، فلاذ بها، وكان يعرفهم قبل ذلك، فقالت: يا نبيَّ الله! بأبي أنت وأمِّي! هب لي رفاعة، فإنَّه قد زعم أنَّه سيصلِّي، ويأكل لحم الجمل، فوهبه لها، فاسْتَحْيَتْهُ. [ابن هشام (3/255)].

وفي هذا الخبر دليلٌ على أنَّ الإسلام يكرم المرأة، ويعتبر شفاعتها! هذه هي معاملة المرأة في هذا الدِّين، إنَّه يكرمها، ويساعدُها، ويشجِّعها على فعل الخير.

ثالث عشر: من أدب الخلاف:

في اختلاف الصَّحابة في فهم كلام رسول الله (ﷺ) : «أَلاَ لاَ يُصَلِّيَنَّ أحدٌ العصر إلا في بني قريظة» [سبق تخريجه](1) فبعضهم فهم منه المراد الاستعجال، فصَّلى العصر لـمَّا دخل وقتُه، وبعضهم أخذ بالظَّاهر، فلم يصلِّ إلا في بني قريظة؛ ولم يعنِّف النَّبيُّ (ﷺ) أحداً منهم، أو عاتبه، ففي ذلك دلالةٌ مهمَّةٌ على أصلٍ من الأصول الشَّرعية الكبرى، وهو تقدير مبدأ الخلاف في مسائل الفروع، واعتبار كلٍّ من المتخالفين، معذوراً، ومثاباً، كما أنَّ فيه تقريراً لمبدأ الاجتهاد في استنباط الأحكام الشَّرعيَّة، وفيه ما يدلُّ على أنَّ استئصال الخلاف في مسائل الفروع الَّتي تنبع من دلالاتٍ ظنِّيَّةٍ أمرٌ لا يمكن أن يُتصوَّر أو يتم.

إنَّ السَّعي في محاولة القضاء على الخلاف في مسائل الفروع معاندةٌ للحكمة الرَّبَّانيَّة، والتدبير الإلهي في تشريعه، عدا أنَّه ضربٌ من العبث الباطل؛ إذ كيف تضمن انتزاع الخلاف في مسألة ما دام دليلها ظنِّيّاً محتملاً؟ ولو أمكن ذلك أن يتمَّ في عصرنا، لكان أولى العصور به عصر رسول الله (ﷺ)، ولكان أولى النَّاس بألا يختلفوا هم أصحابُه، فما بالهم اختلفوا مع ذلك كما رأيت في الحديث السابق من الفقه أنه لا يعاب على من أخذ بظاهر حديث نبوي أو آية من كتاب الله، كما لا يعاب من استنبط من النص معنى يخصصه، وفيه أيضاً أن المختلفين في الفروع من المجتهدين، لا إثم على المخطئ؛ فقد قال (ﷺ) : «إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجرٌ» [البخاري (7352)، ومسلم (1716)].

وحاصل ما وقع: أنَّ بعض الصَّحابة حملوا النَّهي على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت - وقت الصَّلاة - توجيهاً لهذا النَّهي الخاصِّ على النَّهي العامِّ عن تأخير الصَّلاة عن وقتها.

وقد علَّق الحافظ ابن حجر على هذه القصَّة، فقال: ثمَّ الاستدلال بهذه القصَّة على أنَّ كلَّ مجتهدٍ مصيبٌ على الإطلاق ليس بواضحٍ، وإنَّما فيه ترك تعنيف من بذل وسعه، واجتهد، فيستفاد منه عدم تأثيمه، وحاصل ما وقع في القصَّة: أنَّ بعض الصَّحابة حملوا النَّصَّ على حقيقته، ولم يبالوا بخروج الوقت ترجيحاً للنَّهي الثَّاني على النَّهي الأوَّل، وهو ترك تأخير الصَّلاة عن وقتها، واستدلُّوا بجواز التأخير لمن اشتغل بأمر الحرب بنظير ما وقع في تلك الأيام بالخندق، والبعض الآخر حملوا النَّهي على غير الحقيقة، وأنَّه كنايةٌ على الحثِّ، والاستعجال، والإسراع إلى بني قريظة، وقد استدلَّ به الجمهور على عدم تأثيمِ من اجتهد، لأنَّه (ﷺ) لم يعنِّف أحداً من الطَّائفتين، فلو كان هناك إثمٌ؛ لعنَّف مَنْ أَثِمَ.

رابع عشر: توزيع غنائم بني قريظة، وإسلام ريحانة بنت عمرو:

1 - توزيع غنائم بني قريظة:

جمع صحابة رسول الله (ﷺ) الغنائم الَّتي خلَّفها بنو قريظة، فكانت كما يلي: من السُّيوف ألفاً وخمسمئة سيفٍ، ومن الرِّماح ألفي رمحٍ، ومن الدُّروع ثلاثمئة درعٍ، ومن التُّروس ألفاً وخمسمئة ترساً، وجحفةً، كما تركوا عدداً كبيراً من الشِّياه، والإبل، وأثاثاً كثيراً، وانيةً كثيرةً، ووجد المسلمون دناناً من الخمر، فوزعت الغنائم، وهي الأموال المنقولة، كالسِّلاح، والأثاث، وغيرها بين المحاربين من أنصارٍ، ومهاجرين ممَّن شهدوا الغزوة، فأعطى أربعة أخماس الغنائم لهم؛ إذ جعل للفَرَسِ سهمين، وللرَّاجل سهماً، فالفارس يأخذ ثلاثة أسهم له ولفرسه، وغير الفارس يأخذ سهماً واحداً له، والخمس المتبقِّي هو سهم الله ورسولِه (ﷺ) المقرَّر في كتابه تعالى.

وأما ما وجده رسول الله (ﷺ) والمسلمون من الخمر عند بني قريظة؛ فقد أراقوه، ولم يأخذوا منه شيئاً، ولم ينتفعوا به كذلك، وقد أسهم رسول الله (ﷺ) لسويد بن خلاَّد الَّذي قتلته المرأة اليهودية بالرَّحى، وأعطى سهمه لورثته، ولصحابيٍّ آخر مات في أثناء حصار بني قريظة، كما استجاب رسول الله (ﷺ) للنِّساء اللَّواتي حضرن، ولم يسهم لهنَّ، منهنَّ: صفية بنت عبد المطلب، وأمُّ عمارة، وأمُّ سليط، وأمُّ العلاء، والسُّميراء بنت قيس، وأمُّ سعد بن معاذ(3). وأمَّا الأموال غير المنقولة كالأراضي، والدِّيار؛ فقد أعطاها رسول الله (ﷺ) للمهاجرين دون الأنصار، وأمر المهاجرين أن يردُّوا إلى الأنصار ما أخذوه منهم من نخيلٍ وأرض، وكانت على سبيل العارية، ينتفعون بثمارها، قال تعالى عن تلك الأراضي والدِّيار: ﴿وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا ﴾ [الأحزاب: 27].

قال الأستاذ محمَّد دَرْوَزَةَ: أمَّا عبارة فقد قال المفسرون: إنَّها أرض ﴿وَأَرْضًا لَمْ تَطَأُوهَا﴾، وإنَّ الجملة بشرى سابقة لفتحها، غير أنَّ الذي تلهم روح الآية ومضمونها على ما يتبادر لنا : أنَّها أرض لبني قريظة بعيدةٌ عن مساكنهم، الت إلى المسلمين دون حربٍ، أو حصارٍ، ونتيجةً للمصير الذي صار إليه أصحابُها.

هذا وقد أرسل رسول الله (ﷺ) سعد بن عبادة رضي الله عنه بالخمس من الذُّرِّيَّة، والنِّساء إلى الشَّام فباعها، واشترى بالثَّمن سلاحاً، وخيلاً ليستعين به المسلمون في معاركهم مع الأعداء من يهود ومشركين، وكذلك بعث إلى نجدٍ سعد بن زيد، فباع سبياً، واشترى سلاحاً.

2 - إسلام ريحانة رضي الله عنها:

وكان من بين السَّبي ريحانةُ بنت عمرو بن خناقة إحدى نساء بني عمرو من بني قريظة، قد أراد الرَّسول (ﷺ) أن يتزوَّجها بعد أن تسلم، فتردَّدت، وبقيت وقتاً على دينها، ثمَّ شرح الله صدرها للإسلام، فأسلمت، فبعثها إلى بيت أمِّ منذر بنت قيس حتَّى حاضت ثمَّ طهرت، فجاءها، وخيَّرها: أيعتقها، ويتزوجها، أو تكون في ملكه (ﷺ) ؟ فاختارت أن تكون في ملكه رضي الله عنها.

خامس عشر: الإعلام الإسلاميُّ في غزوة الأحزاب:

قام شعراء الصَّحابة بدورهم الجهاديِّ، فقالوا قصائد رائعةً، وضَّحُوا بها موقف المسلمين في غزوة الأحزاب، نقتطف أبياتاً منها كنماذج لهذه القصائد، فَمِنْ ذلك قول كعب بن مالكٍ أخي بني سلمة:

 وَسَائِلَةٍ تُسَائِلُ مَا لَقِيْنَا

 وَلَوْ شَهِدَتْ رأَتْنَا صَابِرِيْنَا

 صَبَرْنَا لاَ نَرى للهِ عِدْلاً

 عَلَى مَا نَابَنَا مُتَوَكِّلِينَا

 وكان لَـنَا النَّبِيُّ وَزِيْرَ صِدْقٍ

 بِهِ نَعْلُو البَرِيَّةَ أَجْمَعِيْنَا

 نُقَاتِلُ مَعْشَرَاً ظَلَمُوا وَعَقُّوا

 وَكَانُوا بالعَدَاوَةِ مُرْصِدِيْنَا

 نُعَالِجُهُمْ إِذَا نَهَضُوا إِلَيْنَا

 بِضَرْبٍ يُعْجِلُ المُتَسَرِّعِيْنَا

 تَرَانَا فِي فَضَافِضَ سَابِغَاتٍ

 كغُدْرَانِ المَلا مُتَسَرْبِلِيْنَا

 إلى أن قال:

 لِنَنْصُرَ أَحْمَداً واللهَ حتَّى

 نَكُوْنَ عِبَادَ صِدْقٍ مُخْلِصِيْنَا

 ويَعْلَم أَهْلُ مَكَّةَ حِيْنَ سَارُوا

 وأَحْزَابٌ أَتَوا مُتَحَزِّبِيْنَا

 بأنَّ الله لَيْسَ لَهُ شَرِيْكٌ

 وأَنَّ اللهَ مَوْلَى المُؤْمِنِيْنَا

 فإِمَّا تَقْتُلوا سَعْداً سَفَاهاً

 فإنَّ الله خَيْرُ القَادِرِيْنَا

 سَيُدْخِلُه جِناناً طَيِّبَاتٍ

 تَكُوْنُ مُقَامَةً للصَّالِحْيَنا

 كَمَا قَدْ رَدَّكم فَلاًّ شَرِيْداً

 بِغَيْظِكُمُ خَزَايَا خَائِـبِـيْنَا

 خَزَايا لَمْ تنَالُوا ثَمَّ خَيْراً

 وَكِدْتُمْ أَنْ تَكُونُوا دَامِرِيْنَا

 بِرِيْحٍ عَاصِفٍ هَبَّت عَلَيْكُمْ

 فَكُنْتُمْ تَحْتَهَا مُتكمِّهِيْنَا

وقال كعبُ بن مالكٍ رضي الله عنه في قصيدةٍ طويلةٍ يردُّ فيها على عبد الله بن الزِّبَعْرَى:

 ومَوَاعِظَ مِنْ رَبِّنا نُهْدَىَ بها

 بِلِسَانِ أَزْهَرَ طَيِّبِ الأَثوَابِ

 عُرِضَتْ عَلَيْنَا فاشْتَهَيْنَا ذِكْرَها

 مِنْ بَعْـدِ ما عُرِضَتْ عَـلَى الأَحْزَابِ

 حِكَماً يَرَاهَا المُجْرِمُون بِزَعْمِهِمْ

 حَرَجاً وَيَفْهَمُهَا ذَوُو الألبابِ

 جاءتْ سَخِيْنَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا

 فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلاَّبِ

قال ابن هشام: حدَّثني مَنْ أثق به، قال: حدثني عبد الملك بن يحيى بن عبَّاد بن عبد الله بن الزبير رضي الله عنه، قال: لـمَّا قال كعب بن مالكٍ رضي الله عنه:

 جَاءَتْ سَخِيْنَةُ كَيْ تُغَالِبَ رَبَّهَا

 فَلَيُغْلَبَنَّ مُغَالِبُ الغَلاَّبِ

قال له رسول الله (ﷺ) : «لقد شكرك الله يا كعب! على قولك هذا». [ابن هشام (3/273)].

يمكن النظر في كتاب السِّيرة النَّبويّة عرض وقائع وتحليل أحداث على الموقع الرسمي للدكتور علي محمّد الصّلابيّ


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022