الأربعاء

1446-11-02

|

2025-4-30

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج1)

(موقف الحسن البصري من ثورة ابن الأشعث)

الحلقة: 111

بقلم الدكتور علي محمد الصلابي

جمادى الأولى 1442 ه/ ديسمبر 2020


يعد الحسن البصري واحداً من أولئك العلماء الذين اعتزلوا القرب من الولاة والأمراء، وابتعدوا عن المناصب ورغبوا عن وجاهتها، فقد كان ينهى العلماء عن طرق أبواب الأمراء والتزلف لهم، لأن في ذلك إهانة للعلم وحطّاً من قدر العلماء ومكانتهم ، وبقي الحسن معتزلاً القرب من الولاة بعيداً عن تولي مناصبهم حتى توفي ـ رحمه الله ـ. إلا أن ذلك لم يكن سبباً في انزوائه عما يجري في عصره من أحداث سياسية، بل كان علماً بارزاً يهتدي كثير من الناس بتوجيهاته المفيدة وارائه السديدة، لاسيما في أوقات الفتن وفترات الخلاف، لذا قال فيه الثقات: كان والله الحسن من رؤوس العلماء في الفتن والدماء والفروج ، وكان ينحو في نصحه للعامة إلى جمع الكلمة وتوحيد الصف وينهى عن الإثارة والفرقة، ويدعو إلى السمع والطاعة للولاة، وكان يرى وجوب الموازنة بين الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ووحدة الجماعة.
ولقد عاصر الحسن البصري معظم فترات الحكم الأموي، وتأثر بالواقع السياسي في هذه الفترة، فأصبح يمثل مدرسة سياسية في عصره، فهو يرى أن حكم بني أمية فيه ظلم وجور، ولكنهم في نفس الوقت يملكون القوة العسكرية، وموازين القوى في صالحهم، كما أن الفئة الراغبة في التغيير والشاكية من الظلم، ينقصها التنظيم والإعداد والقوة والصبر، ويرى أن الذين يحملون راية الخروج على حكم بني أمية إما مخلص لدينه ولكنه لا يصلح للحكم ولا يقدر على إحداث التغيير، وإما رجال يستخدمون الدين والدعوة للتغيير لأغراض دنيوية، منها حبهم للسلطة والحكم، فليسوا بأحسن حال من الأمويين ، وعلى ذلك أصبح موقفه من الحكم الأموي يقوم على أمور؛ منها:
أ ـ عدم الخروج على حكم بني أمية؛ لما في ذلك: من سفك الدماء، وتقويض لقوة المسلمين، وازدياد الجور والظلم ، فقد دخل عليه رجل فقال: يا أبا سعيد ! إني أريد أن أسألك عن الولاة، فقال الحسن: سل عما بدا لك. فقال: ما تقول في أئمتنا هؤلاء؟ فسكت الحسن ملياً ثم قال: وما عسى أن أقول فيهم وهم يلونا من أمورنا خمساً: الجمعة والجماعة، والفيء والثغور، والحدود ؟! والله ما يستقيم الدين إلا بهم، وإن جاروا وإن ظلموا، والله ما يصلح الله بهم أكثر مما يفسدون، والله إن طاعتهم لغبطة، وإن فرقتهم لكفر، فقال الرجل: يا أبا سعيد ! والله إني لذو مال كثير، وما يسرني أن يكون لي أمثاله وإني لم أسمع منك الذي سمعت، فجزاك الله عن الدين وأهله خيراً.
وحين سئل عن الحجّاج قال: يتلو كتاب الله، ويعظ وعظ الأبرار، ويطعم الطعام، ويؤثر الصدق، ويبطش بطش الجبارين. قالوا: فما ترى في القيام عليه؟ فقال: اتقوا الله، وتوبوا إليه يكفيكم جوره . وكان إذا قيل له: ألا تخرج فتغير ؟ قال: إن الله إنما يغير بالتوبة ولا يغير بالسيف . وكان يرى أن جور الحكام بسبب ما يحدثه الناس من ذنوب ومعاصٍ، وإن من أهم أسباب دفع الجور والظلم هو الرجوع إلى الله، وكان يحث الناس على تجنب الفتن والبعد عن أسباب إشعالها.
وحين بلغ السخط على الحجّاج أوجه وثار عليه الناس مع ابن الأشعث وكان في جملتهم عدد من العلماء، لزم الحسن موقفه من الفتن، فلم يخرج مع من خرج، بل كان يكره ذلك وينهى الناس عنه، وكان أخوه سعيد ممن يرى الخروج على الحجّاج ويدعو له، فعن حماد بن زيد بن أبي التياح، قال: شهدت الحسن وسعيد بن أبي الحسن حين أقبل ابن الأشعث، فكان الحسن ينهى عن الخروج على الحجّاج، ويأمر بالكف، وكان سعيد بن أبي الحسن يحضض، فقال سعيد فيما يقول: ما ظنك بأهل الشام إذا لقيناهم غداً، فقلنا: والله ما خلعنا أمير المؤمنين ولا نريد خلعه، ولكنا نقمنا عليه استعمال الحجّاج، فاعزله عنا ؟ فلما فرغ سعيد من كلامه تكلم الحسن فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: يا أيها الناس ! إنه والله ما سلط الله عليكم الحجّاج إلا عقوبة، فلا تعارضوا عقوبة الله بالسيف، ولكن عليكم السكينة والتضرع، وأما ما ذكرت من ظني بأهل الشام؛ فإن ظني بهم أن لو جاؤوا فألقمهم الحجّاج دنياه لم يحملهم على أمر إلا ركبوه، هذا ظني بهم ، وقدم عليه جماعة من العلماء يناقشونه في الخروج مع ابن الأشعث على الحجّاج، ويحاولون إقناعه بالخروج، ولكنه رفض الخروج وقال: أرى أن لا تقاتلوه؛ فإنها إن تكن عقوبة من الله فما أنتم برادي عقوبة الله بأسيافكم، ولكنهم لم يسمعوا كلامه ولم يأخذوا برأيه فخرجوا مع ابن الأشعث فقتلوا جميعاً .
وعندما أفتى رجلاً بعدم جواز الخروج على الحجّاج قال له الرجل: لقد كنت أعرفك سيِّأى القول في الحجّاج غير راضٍ عن سيرته، فقال الحسن: وايم الله إني اليوم لأسوأ فيه رأياً، وأكثر عتباً، وأشد ذماً، ولكن لتعلم عافاك الله أن جور الملوك نقمة من نقم الله تعالى، ونقم الله لا تلاقى بالسيوف، وإنما تتقى وتستدفع بالدعاء والتوبة والإنابة والإقلاع عن الذنوب . ولما توفي الحجّاج وجاء خبر وفاته الحسن، سجد وقال: اللهم عقيرك وأنت قتلته، فاقطع عنا سنته وأرحنا من سنته وأعماله الخبيثة .
وكان يوضح للناس حقيقة ما يعيشه بعض الولاة من تقلبه في عيش الفتنة بزخرف الحياة الفانية حتى لا يغتر بهم الناس، فكان يقول: هؤلاء ـ يعني الملوك ـ وإن رقصت بهم الهماليج ، ووطأى الناس أعقابهم؛ فإن ذل المعصية في قلوبهم، إلا أن الحق ألزمنا طاعتهم، ومنعنا الخروج عليهم، وأمرنا أن نستدفع بالتوبة والدعاء مضرتهم، فمن أراد الله به خيراً لزم ذلك وعمل به، ولم يخالفه .
وكان ينهى العامة عن القتال وحمل السلاح حين تقبل الفتن، فعن سلم بن أبي الذيال قال: سأل رجل الحسن وهو يسمع وأناس من أهل الشام، فقال: يا أبا سعيد ! ما تقول في الفتن؛ مثل: يزيد بن المهلب وابن الأشعث؟ فقال: لا تكن مع هؤلاء ولا مع هؤلاء، فقال رجل من أهل الشام: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد؟ فغضب ثم قال بيده فخطر بها، ثم قال: ولا مع أمير المؤمنين يا أبا سعيد، نعم ولا مع أمير المؤمنين ، فكان يرى أنه يجب على المسلم الاعتزال وعدم المشاركة في سفك دماء المسلمين، فلا يقاتل في صفوف الخارجين على السلطة، ولا مع جيش الخليفة إذا كان ظالماً .
ب ـ وبالرغم من قوله بعدم الخروج على حكم بني أمية، إلا أنه كان يرى وجوب الإنكار عليهم لظلمهم، واستئثارهم بالأموال، وتوليتهم الولاة الظلمة، كأمثال الحجّاج، وكان شديد الانتقاد للحكم الأموي وخاصة سياسات الحجّاج في العراق، وكان يواجه الحجّاج بانتقاداته غير خائف من بطشه ، وعن ميمون بن مهران قال: بعث الحجّاج إلى الحسن وقد همّ به، فلما قام بين يديه قال: يا حجّاج، كم بينك وبين ادم من أب؟ قال: كثير، قال: فأين هم؟ قال: ماتوا. قال: فنكس الحجاج رأسه وخرج الحسن. وقال أيوب السختياني: إن الحجّاج أراد قتل الحسن مراراً فعصمه الله منه .
وكان يحذر العلماء من مخالطة السلاطين والحكام لكي لا يوهموا المسلمين برضاهم عن حكمهم، ولكي يشعروا الحكام بعدم رضاهم عن سياساتهم الجائرة، وكان يرى أن في مخالطة العالم والمفتي للحاكم إذلالاً لمكانته العلمية، والاجتماعية، وكان يقول لبعض الفقهاء ممن كانوا يخالطون الأمراء: والله لو أنكم زهدتم فيما عندهم لرغبوا فيما عندكم وهابوكم، ولكنكم رغبتم فيما عندهم فزهدوا فيكم ، ومع حرصه الشديد على عدم مخالطة الأمراء والحكام، إلا أنه تولى القضاء في البصرة في عهد عمر بن عبد العزيز ، نظراً لعدل وحسن سيرة عمر بن عبد العزيز .
إن منهج الحسن في التعامل مع الحكام منهج وسط معتدل، فهو مع نهيه عن الخروج على الولاة وكرهه للمواجهة معهم لما يترتب على ذلك من مفاسد عظيمة من سفك الدماء، وتفريق الأمة، وتعطيل الجهاد..إلخ. إلا أن ذلك لا يفهم منه تبريره لأخطاء الولاة أو عدم إنكارها، بل كان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر.


يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC9(1).pdf
الجزء الثاني:
http://alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC139.pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022