الجمعة

1446-11-04

|

2025-5-2

من كتاب الدولة الأموية عوامل الازدهار وتداعيات الانهيار (ج2):
عبد الملك والشعر والشعراء:
الحلقة: 126
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
جمادى الأولى 1442 ه/ يناير 2021
 
كان عبد الملك بن مروان راوياً للشعر، ناقداً له، كثير الاستشهاد به في كثير من المناسبات، يكثر من الأسئلة والمحاورة منه في مجلسه، عن اهتمامه بمعانيه، كما كان يعلم خطورته في التأثير الإعلامي في كسب الأنصار والهجوم على خصومه، ولذلك اهتم بالشعراء اهتماماً كبيراً، ووظفهم لمدحه ودولته وبني أمية، ولم يبخل عليهم بالعطاء، ولذلك كان كبار شعراء عصره من الأمويين؛ مثل: الأخطل، والفرزدق، وجرير، وغيرهم، كما أنه عمل على كسب خصومه ؛ حتى إنهم مدحوه بعد أن هجموا عليه بقصائد قوية في سبه وذمه؛ مثل: عبيد الله الرقيات، وإليك شيء من شعر شعراء الدولة الأموية:
1 ـ الأخطل:
هو غياث بن غوث التغلبي النصراني، شاعر زمانه، وقد قيل للفرزدق: من أشعر الناس؟ قال: كفاك بي إذا افتخرت، وبجرير إذا هجا، وبابن النصرانية إذا امتدح ، وكان عبد الملك بن مروان يجزل عطاء الأخطل، ويفضله في الشعر على غيره، فقد كان شاعر الدولة الرسمي الذي أكثر من مدح خلفائها، والدعاية لها، والترويج لسادتها نحو ربع قرن ، ومن مدحه في بني أمية:
تمَّتْ جدودُهُمُ واللهُ فضَّلهُمْ
وأنتُمُ أهلُ بيتٍ لا يوازنُهم
وجَدُّ قومٍ سواهُمْ خاملٌ نَكِدُ
بيتٌ إذا عدتِ الأحسابُ والعددُ
ومن شعره المتميز في بني أمية قوله:
حشدٌ على الحقِّ عيَّافو الخَنَا أُنُفٌ ْ
شمسُ العداوةِ حتى يستقادَ لهمْ
إذا ألمَّتْ بهمْ مكروهةٌ صبرُوا ُ
وأعظمُ النَّاسِ أحلاماً إذا قدرُوا
وكان كثير المديح لعبد الملك والتنويه بصلاح السياسة في عهده؛ كقوله:
ت إلى إمام تغدينا فواضلُه
الخائضُ الغَمْرَ والميمونُ طائرُه
والمستمرُّ بهِ أمرُ الجميعِ فَمَا
نفسي فداءُ أميرِ المؤمنينَ إذا
أظفرَه اللهُ فليهنأْ لَهُ الظَّفَرُ
خليفةُ اللهِ يُسْتَسْقَى به المطرُ
يغتره بعدَ توكيدٍ له غررُ
أبدَى النَّواجِزَ يوماً عارمٌ ذَكَرُ
وعُرف الأخطل بأنه يعاود شعره بالتنقيح والصقل، حتى لقد قالوا: إنه كان ينظم القصيدة تسعين بيتاً، ثم يضرب عن ستين ويبقي ثلاثين، وهذا هو السبب في جودة تعبيره، وندرة سقطه، وهو بهذا يشبه المنقحين القدماء، مثل: زهير والحطيئة وأضرابهما، مما سماهم الأصمعي عبيد الشعر . ومن أحسن ما قال من الشعر قوله:
والناسُ همُّهُمُ الحياةُ ولا أرَى شمسُ وإذا افتقرتَ إلى الذَّخَائِرِ لم تَجِدْ ْ
طولَ الحياةِ يزيدُ غيرَ خَبَالِ ُ
ذُخْراً يكونُ كصالحِ الأَعْمَالِ
2 ـ الفـرزدق:
هو همام بن غالب بن صعصعة بن ناجية بن عقال بن مجاشع، وكان ممن مدح بني أمية، وقال في عبد الملك بن مروان:
فالأرضُ للهِ ولاّها خليفَتَهُ
بعدَ الفسادِ الذي قَدْ كان قامَ بِهِ
راموا الخلافةَ في غدرٍ فأخطأَهُمْ
والناسُ في فتنةٍ عمياءَ قَدْ تركَتْ
دعوْا ليستخلف الرحمنُ خيرَهُمُ
فأصبحَ اللهُ ولَّى الأمرَ خيرَهُمُ
تراثُ عثمانَ كانوا الأولياءَ بِهِ
وصاحبُ اللهِ فيها غيرُ مغلوبِ
كذَّابُ مَكَّةَ مِنْ مكرٍ وتخريبِ
منها صدورٌ وفازوا بالعراقيبِ
أشرافَهُم بينَ مقتولٍ ومحروبِ
واللهُ يسمعُ دعْوى كلَّ مكروبِ
بعدَ اختلافٍ وصدعٍ غيرِ مشعوبِ
سربالَ ملكٍ عليهم غيرَ مسلوبِ
وكان للفرزدق أخٌ شاعر، وهو هميم، وهو القائل:
عمرُ أبيكَ فـلا تكذبَن
وقد فُتِنَ الناسُ في دينهِم
لقدْ ذهبَ الخيرُ إلا قليلا
وخلَّى ابنُ عفانَ شرّاً طويلا
3 ـ جرير:
هو جرير بن عطية بن الخطفي التميمي البصري، مدح خلفاء بني أمية، وشعره مدوَّن ، وقد مدح عبد الملك ووصفه بأنه ركن الدين، والحفيظ على أحكام الشرع، ولولاه ما اجتمع المسلمون في صلواتهم في المساجد في الجمع، ثم يصفه بأنه أمين الله، والمبارك الذي يهدي به الله عباده، ويقول: إن أوامره ميمونة مطاعة، وإن الله فضل بني أمية على غيرهم من أهل البدع، يريد الأحزاب المعادية لبني أمية ، حيث قال:
لولا الخليفةُ والقرانُ يقرَؤه
أنتَ الأمينُ أمينُ اللهِ لا سرفٌ
أنتَ المباركُ يهدي اللهُ شيعَتَهُ
فكلُّ امرأًى على يُمنٍ أمرتَ بِهِ
يا الَ مروانَ إن اللهَ فضَّلكم
ما قامَ للنَّاسِ أحكامٌ ولا جُمَعُ
فيما وليتَ ولا هيابةٌ وَرِعُ
إذا تفرقتِ الأهواءُ والشِّيَعُ
فينا مطاعٌ ومهما قلتَ يستمعُ
فضلاً عظيماً على مَنْ دينُهُ البِدَعُ
ومدح عبد الملك بقصيدة جاء فيها:
سأشكرُ إن رددتَ عليَّ ريشِي
ألستُم خيرَ من رَكِبَ المطايا
وأنبتَّ القوادمَ من جناحِي
وأنْدى العالمين بُطُونَ راحِ
فقال عبد الملك: من مدحنا فليمدحنا بمثل هذا أو ليسكت، ووهبه مئة ناقة، فسأله الرعاء، فوهبه ثمانية أعبد، ورأى صحاف ذهب بين يديه فقال: يا أمير المؤمنين والمحلب ، وأشار إليها، فنحاها إليه بالقضيب، وقال: خذها لا نفعتك.
وكان في جرير على هجائه للناس عفة ودين، وحسن خلق، ورقة طبع، اتفق علماء الأدب وأئمة نقد الشعر،
على أنه لم يوجد في الشعراء الذين نشؤوا في ملك بني أمية أبلغ من جرير والفرزدق والأخطل، وإنما اختلفوا في أيهم أشعر . وإن لجرير في كل باب من الشعر أبياتاً سائرة، هي الغاية التي يضرب بها المثل:
أ ـ فيقال: إن أغزل شعر قالته العرب هو قوله:
إنَّ العيونَ التي في طَرْفِهَا حَوَرٌ
يَصْرَعْنَ ذا اللُّبِّ حتى لا حِراكَ به
قتلْنَنَا ثمَّ لمْ يُحْيينَ قَتْلانا
وهُنَّ أضعفُ خَلْقِ اللهِ إنسانا
ب ـ أفخر بيت قوله:
إذا غضبتْ عليكَ بنو تميمٍ
رأيتَ النَّاس كلَّهُمُ غِضَابَا
جـ أهجى بيت مع التصوُّن عن الفحش قوله:
فَغُضَّ الطَّرْفَ إنكَ منْ نُمَيْرٍ
فلا كَعْباً بلغْتَ ولا كِلابا
د ـ أصدق بيت قوله:
إنِّي لأرجو منكَ خيراً عاجلاً
والنفسُ مولعةٌ بحبِّ العاجِلِ
هـ أشد بيت تهكماً قوله:
زَعَمَ الفرزدقُ أن سيقتلُ مِرْبَعاً
أَبْشِرْ بطولِ سلامةٍ يا مِرْبَعُ
ومن جيد شعره قوله من قصيدة يرثي به امرأته:
لولا الحياءُ لهاجني استعبارُ
ولقد نظرتُ وما تمنَّع نظرة
وَلَّهْتِ قلبي إذ علتني كبرةٌ
لا يلبثُ القرناءُ أن يتفرَّقوا
صلى الملائكةُ الذين تخيَّروا
فلقد أراكِ كسيتِ أحسنَ منظرٍ
كانت إذا هَجَرَ الحبيبُ فِرَاشَها
ولزرتُ قبرَكِ والحبيبُ يُزارُ
في اللَّحْدِ حيث تمكنَ الإحفارُ
وذوو التمائمِ من بَنِيكِ صِغارُ
ليلٌ يكرُّ عليهِمُ ونهارُ
والطيّبون عليكِ والأبرارُ
ومع الجمالِ سكينةٌ ووَقَارُ
خُزِنَ الحديثُ وعَفَّتِ الأَسرارُ
وكان قد افتخر على الأخطل في قصيدة، وبيَّن أن عبد الملك ابن عمه، ولو شاء ساق إليه قبيلة الأخطل؛ حيث قال:
إنَّ الذي حَرَمَ المكارمَ تغلباً
هل تملكونَ من المشاعرِ مشعراً
مضرٌ أبي وأبو الملوكِ فَهَلْ لكم
هذا ابنُ عمِّي في دمشقَ خليفةٌ
جعلَ النبوَّةَ والخلافةَ فينا
أو تشهدونَ مَعَ الأذان أذينا؟
يا حُرزَ تغلبَ من أبٍ كأبينا
لو شئتُ ساقكُمُ إليَّ قطينا
قال الذهبي عن جرير: كان عفيفاً منيباً، توفي سنة 110 هـ بعد الفرزدق بشهر .
4 ـ الـراعـي:
من كبار الشعراء، وهو أبو جندل، عبيد بن حصين النُّميري، وإنما لقب بالراعي لكثرة ما يصف الإبل في شعره، وقد امتدح عبد الملك ،
وانضم إلى الفرزدق على جرير، فقال فيه جرير قصيدته المشهورة التي صارت وبالاً على بني نمير:
أقلِّي اللومَ عـاذلَ والعِتَابا
وقولي إنْ أصبتُ لقَدْ أَصَابا
وفيها يقول له:
فغضَّ الطرفَ إنَّكَ من نُمَيْرٍ
فلا كعباً بلغْتَ ولا كِلابا
وأهم ما بقي للراعي لاميته التي مدح بها عبد الملك بن مروان، ويشكو له العريف أو الجابي، ويرجو التخفيف عن قومه، ويتبرأ من الخوارج النجدية والزبيريين، ويعد نفسه بذلك مخلصاً للأمويين ، ويبدو الراعي كان أموياً لأجل قومه ورغبة في عبد الملك أن يرفع عن قومه ظلم الجباة، ومن شعر الراعي لعبد الملك:
إنّي حلفتُ على يمينٍ برَّةٍ
ما إنْ أتيتُ نُجيدةَ بنَ عُوَيمرٍ
لا أكذبُ اليومَ الخليفةَ قِيلا
أبغي الهُدى فيزيدُني تَضْلِيلا
إلى أن قال في رواية أخرى:
أحْليفةُ الرَّحْمنِ إنا معشرٌ
عُربٌ نرى للهِ في أموالِنا
إنَّ السُّعاةَ عَصَوْك يوم أمرتَهُمْ
أخذوا العَريفَ فقطَّعوا حَيْزومَه
إنَّ الذينَ أمرتَهُم أن يعدِلوا
فادفعْ مظالمَ عيَّلَتْ أبناءَنا
حُنفاءُ نسجدُ بكرةً وأصيلا
حقَّ الزَّكاةِ منزَّلاً تنزيلا
وأتوا دواهيَ لو علمتَ وغُولا
بالأصْبَحِيَّةِ قائماً مَغْلولا
لمْ يفعلوا ممَّا أمرتَ فتيلا
عنَّا وأنقِذْ شِلْوَنَا المَأْكولا
هؤلاء من أشهر شعراء عهد عبد الملك، وكان يهتم بهم ويسمع لهم ويجزل لهم في العطاء، وكسبهم في صفِّه، وأصبحوا من أبرز المدافعين عن الخليفة ودولته، وكان لا يتورع عن دفع الأموال للشعراء ما داموا يمدحون ويبجلون خلفاء بني أمية.
 
يمكنكم تحميل كتاب الدولة الأموية عوامل الإزدهار وتداعيات الإنهيار
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول:
الجزء الثاني:
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022