تأملات في الآيات الكريمة: {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 119
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ربيع الآخر 1444ه / نوفمبر 2022م
نستشف من دعاء إبراهيم - عليه السّلام - {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} مدى شعوره بأهوال اليوم الآخر، ومدى حيائه من ربه، وخشيته من الخزي أمامه، وخوفه من تقصيره وهو النبي الكريم، كما نستشف في قوله: {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)} مدى إدراكه لحقيقة ذلك اليوم، وإدراكه كذلك لحقيقة القيم، فليست هناك من قيمة في يوم الحساب إلا قيمة الإخلاص، إخلاص القلب كله لله، وتجرده من كل شائبة، ومن كل مرض، ومن كل غرض، وصفائه من الشهوات والانحرافات وخلوه من التعلق بغير الله، فهذه سلامته التي تجعل له قيمة ووزناً {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ}، ولا ينفع شيء من هذه القيم الزائلة الباطلة والتي يتكالب عليها المتكالبون في الأرض، وهي لا تزن شيئاً في الميزان الأخير(1).
أ- {وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ} ]الشعراء:87 [:
- قال ابن جرير: ولا تذلني بعقابك إياي يوم تبعث عبادك من قبورهم لموقف القيامة(2).
- وقال مصطفى المنصوري: وهذا تواضع منه أمام عظمة الله جلاله، وكل ذلك مبني على هضم النفس منه - عليه السّلام -(3).
- وقال الناصري: تضمن التماس العزّ والكرامة وعدم التعرض للهوان والذل يوم القيامة(4).
ب- {يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ(89) } ]الشعراء:88-89[:
- قال ابن كثير: لا يقي المرء من عذاب الله ماله، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً، {وَلَا بَنُونَ} ولو افتدى بمن في الأرض جميعاً، ولا ينفع يومئذ إلا الإيمان بالله، وإخلاص الدين له، والتبري من الشرك، ولهذا قال: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} أي: سالم من الدنس والشرك، قال محمد بن سيرين: القلب السليم أن يعلم أن الله حقّ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها، وأن الله يبعث من في القبور.
- وقال ابن عباس: {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} حَيّ يشهد أن لا إله إلا الله.
- وقال مجاهد والحسن وغيرهما: {بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} يعني من الشرك.
- وقال سعيد بن المسيب: القلب السليم هو القلب الصحيح، هو قلب المؤمن؛ لأنَّ قلب الكافر والمنافق مريض، قال تعالى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} ]البقرة:21[.
- وقال أبو عثمان النيسابوريّ: هو القلب الخالي من البدعة المطمئن إلى السنة(5).
- وقال المراغيّ: أي: يوم لا يقي المرء من عذاب الله المال ولو افتدى بملء الأرض ذهباً، ولا البنون ولو افتدى بهم جميعاً، ولكن ينفعه أن يجيء خالصاً من الذنوب وأدرانها وحبّ الدنيا وشهواتها، وخصّ الابن بالذكر؛ لأنه أولى القرابة بالدفع والنفع، فإذا لم ينفع فغيره من القرابة أولى(6).
- وقال النسقيّ: إنَّ المال إذا صرف في وجوه البرّ وبنوه صالحون، فإنه ينتفع به وبهم سليم القلب، أو جعل المال والبنون في معنى الغنى كأنه قيل يوم لا ينفع غنى إلا غنى من أتى الله بقلب سليم؛ لأن غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه كما أن غناه في دنياه بماله وبنيه، وقد جعل "من" مفعولاً "لينفع"، أي: لا ينفع مال ولا بنون إلا رجلاً سلِم قلبه مع ماله، حيث أنفقه في طاعة الله ومع بنيه، حيث أرشدهم إلى الدين وعلمهم الشرائع، ويجوز على هذا {إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ} من فتنة المال والبنين، وقد صوّب الجليل استثناء الخليل إكراماً له ثم جعله صفة له في قوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84)} ]الصافات:83-84[.
- وما أحسن ما رتّب - عليه السّلام - كلامه مع المشركين حيث سألهم أولاً عما يعبدون سؤال مقرر لا مُستفهم، ثم أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها بأنها لا تضرّ ولا تنفع ولا تسمع، وعلى تقليدهم آباءهم الأقدمين، فأخرجه من أن يكون شبهة فضلاً عن أن يكون حجة، ثم صور المسألة في نفسه دونهم حتى تخلص منها إلى ذكر الله تعالى فعظم شأنه، وعدد نعمته من حين إنشائه إلى وقت وفاته مع ما يرجى في الآخرة من رحمته، ثم أتبع ذلك أن دعا بدعوات المخلصين وابتهل إليه ابتهال الأوَّابين، ثم وصله بذكر يوم القيامة، وثواب الله وعقابه، وما يدفع إليه المشركون يومئذ من الندم والحسرة على ما كانوا فيه من الضلال، وتمني الكره إلى الدنيا ليؤمنوا ويطيعوا(7).
- قال ابن قيم الجوزية: فالقلب السليم: هو الذي سَلِمَ من أن يكون لغير الله فيه شرك بوجه ما، بل قد خلصت عبوديته لله تعالى: إرادة ومحبة وتوكلا وإنابة وإخباتا وخشية ورجاء، وخلص عمله لله؛ فإن أحبَّ أحبَّ في الله، وإن أبغض أبغض في الله، وإن أعطى أعطى لله، وإن منع منع لله، ولا يكفيه هذا حتى يسلم من الانقياد والتحكيم لكل من عدا رسوله -صلّى الله عليه وسلّم- فيعقد قلبه معه عقداً محكماً على الائتمام والاقتداء به وحده دون كل أحد في الأقوال والأعمال؛ من أقوال القلب وهي العقائد، وأقوال اللسانوهي الخبر عما في القلب، وأعمال القلب وهي الإرادة والمحبة والكراهة وتوابعها، وأعمال الجوارح، فيكون الحاكم عليه في ذلك كله دِقَّه وجِلَّه هو ما جاء به الرسول صلى الله تعالى عليه وآله وسلم فلا يتقدم بين يديه بعقيدة ولا قول ولا عمل، كما قال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ} ]الحجرات:1[، أي: لا تقولوا حتى يقول، ولا تفعلوا حتى يأمر(8).
وقال أيضاً: فهذا القلب السليم في جنة معجّلة في الدنيا، وفي جنة البرزخ، وفي جنة يوم المعاد، ولا تتم سلامته مطلقاً حتى يسلم عن خمسة أشياء:
• من شرك يناقض التوحيد.
• وبدعة تخالف السنة.
• وشهوة تخالف الأمر.
• وغفلة تناقض الذكر.
• وهوى يناقض التجريد والإخلاص.
وهذه الخمسة حجب عن الله وتحت كل واحد منها أنواع كثيرة تتضمن أفراداً لا تنحصر(9).
إنَّ القلب السليم هو القلب السالم من أمراض الشبهات والشهوات(10)، وقد عرّفه ابن القيم بقوله: وقد اختلفت عبارات الناس في معنى القلب السليم، والأمر الجامع لذلك: أنه الذي قد سلم من كل شهوة تخالف أمر الله ونهيه، ومن كل شبهة تعارض خيره، فسلم من عبودية ما سواه، وخلصت عبوديته لله تعالى: إرادة، ومحبة، وتوكلاً وإنابة وإخباتاً وخشية ورجاءً(11).
ويلاحظ أن دعوات إبراهيم - عليه السّلام - خالية من طلب أي غرض من أغراض هذه الأرض، إنّه دعاء يتجه إلى آفاق أعلى، تحركه مشاعر أصفى، ودعاء القلب الذي عرف الله، فأصبح يحتقر ما عداه والذي ذاق فهو يطلب المزيد، والذي يرجو ويخاف في حدود ما ذاق وما يريد(12).
مراجع الحلقة التاسعة عشر بعد المائة:
(1) في ظلال القرآن، سيد قطب، (5/2605).
(2) تفسير الطبري "جامع البيان في تأويل القرآن"، (19/86-87).
(3) المقتطف من عيون التفاسير، مصطفى الخيري المنصوري، ، (4/65).
(4) التيسير في أحاديث التفسير، محمد المكي الناصري، (4/377).
(5) تفسير القرآن العظيم (تفسير ابن كثير)، (5/190-191).
(6) تفسير المراغي، أحمد مصطفى المراغي، (19/75).
(7) مدارك التنزيل وحقائق التأويل (تفسير النسفي)، (3/188).
(8) إغاثة اللهفان في مصايد الشيطان، ابن قيم الجوزية (1/11-13).
(9) الداء والدواء، ابن قيم الجوزية، ص219.
(10) الإخلاص في القرآن الكريم، حمد الوهيبي، ص232.
(11) المرجع نفسه، ص232.
(12) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (6/170).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي