تأملات في الآية الكريمة {رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}
من كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
الحلقة: 277
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1444ه/ مايو 2023م
يبدو هذا التدفق الروحاني واضح في تكرار لفظ {رَبَّنَا} في بداية كل آية، فقد نادى ربه بضمير الجمع، فقال {رَبَّنَا} أي أنه ربّه وربّ ذريته وربّ الوجود كله، وأنه أعلم بحالهم سرهم وعلانيتهم، وأن العلم على سواء يستوي فيه المغيب والمعلن وما غاب وما حضر.(1)
تعلم سرّنا كما تعلم علننا من الحاجات وغيرها وما سألناك هذه الحاجات لكونها غير معلومة لك، بل لإظهار افتقارنا إليك وتذللنا لعزتك.(2)
يا ربنا إنك العالم لما في القلوب تعلم ما تسر وما تظهر {مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ}، أي لا يغيب عليه تعالى شيء من الكائنات سواء منها ما كان في الأرض أو في السماء، فكيف تخفى عليه وهو خالقها وموجدها؟ فإبراهيم - عليه السّلام - يثني على الله تعالى بما هو أهله ويعترف بأنه تعالى هو الذي يعلم عواقب الأحوال، ونهايات الأمور مستقبلاً، وكأنه بهذا الثناء يقول: أنت الأعلم بما تحفظ ابنيّ إسماعيل وإسحاق؛ لأنه لا يخفى عليك شيء في الأرض ولا في السماء.(3)
فالله سبحانه وتعالى قد أحاط علمه بالظواهر والبواطن والإسرار والإعلان، وبالواجبات والمستحيلات والممكنات وبالعالم العلوي والسفلي، وبالماضي والحاضر والمستقبل، فلا يخفى عليه شيء.(4)
أ- قول أبو حيان في تفسيره الآية:
كرر النداء للتضرع والالتجاء، ولا يظهر تفاوت بين إضافة رب إلى ياء المتكلم وبين إضافته إلى جمع المتكلم، وما نخفي وما نعلن عام فيما يخفونه وما يعلنونه، وقيل: ما نخفي من الوجد لما وقع بيننا من الفرقة، وما نعلن من البكاء والدعاء، وقيل: ما نخفي من كآبة الافتراق، وما نعلن مما جرى بينه وبين هاجر حين قالت له عند الوداع إلى من تكلنا؟ قال: إلى الله أكِلكم، قالت: آلله أمرك بهذا؟ قال: نعم، قالت: لا نخشى تركتنا إلى كافٍ، والظاهر أن قوله: وما يخفى على الله من شيء في الأرض ولا في السماء من كلام إبراهيم لاكتناف ما قبله وما بعده من كلام إبراهيم ولما ذكر أنه تعالى عمم ما يخفي هو ومن كنى عنه تمم جميع الأشياء، وأنها غير خافية عنه سبحانه وتعالى.(5)
وقيل: وما يخفى الآية من كلام الله سبحانه تصديقاً لإبراهيم عليه السلام، كقوله تعالى: {كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} ]النمل:34[ بعد حكاية قول ملكة سبأ {قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً} ]النمل:34[، والذي يظهر لي أن قوله تعالى: {مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} هو تتمة لكلام إبراهيم عليه السلام، وقد التفت من الخطاب إلى الإخبار؛ لتربية المهابة والإشعار بعلة الحكم وعمومه.(6)
ب- قول الشوكاني في تفسيره الآية:
قال جمهور المفسرين: هو من كلام الله سبحانه تصديقاً لما قاله إبراهيم من أنه سبحانه يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه، فقال سبحانه: {وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ} من الأشياء الموجودة كائناً ما كان، وإنما ذكرت السماوات والأرض لأنها المشاهدة للعباد، وإلا فعلمه سبحانه محيط بكل ما هو داخل في العالم، وكل ما هو خارج عنه لا تخفى عليه منه خافية، قيل: ويحتمل أن يكون هذا من قول إبراهيم تحقيقاً لقول الأول وتعميماً بعد التخصيص.(7)
مراجع الحلقة السابعة والسبعون بعد المائتين:
(1) زهرة التفاسير، الإمام محمد أبو زهرة، (8/4040).
(2) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (4/330).
(3) دعاء الأنبياء والرسل، محمد محمود أحمد وموسى الخطيب، 101.
(4) ولله الأسماء الحسنى، عبد العزيز ناصر الجليل، ص333.
(5) البحر المحيط في التفسير، أبو حيّان الأندلسي، (5/422).
(6) التفسير الموضوعي لسور القرآن الكريم، (4/331).
(7) فتح القدير، الشوكاني، (3/160).
يمكنكم تحميل كتاب إبراهيم خليل الله دَاعِيةُ التَّوحِيدِ وَدينِ الإِسلَامِ وَالأُسوَةُ الحَسَنَةُ
من الموقع الرسمي للدكتور علي الصَّلابي