ماذا يعني أن يتكلم عيسى عليه السلام في المهد وينطق بكلمة التوحيد؟!
لما ولدت مريم بعيسى عليهما السلام وأتت به قومها تحمله، استنكروا ذلك عليها، واتهموها بالزنا، فأشارت مريم إلى عيسى كي يتكلم عنها، فبدأ عيسى عليه السلام كلامه بأن الله وحده هو الإله الرب، لا يشاركه أحد في ألوهيته وربوبيته، وأنه عبد الله، عبد مخلوق، خلقه الله خلقاً خاصاً بمعجزة خارقة، بدون أب، وأنه عبد الله وليس شريكاً له ولا ابناً له.
قال الإمام ابن كثير: «أول شيء تكلم به أن نزّه جناب ربه تعالى وبرّأه عن الولد وأثبت لنفسه العبودية لربه».
فالله وحده هو الرب الإله، وكل ما سواه له عبد، وأي خلط بين الإله والعبد يعتبر كفراً بالله وشركاً به، فإذا ما رفع قوم عبداً من عبيد الله وجعلوه ندّاً لله صاروا كفاراً مشركين بالله.
وهذه البداية الإيمانية لعيسى عليه السلام التي بدأ بها وهو طفل في المهد يقرر فيها أنه عبد الله، وأن الله وحده هو الرب، تكذيب مبكر لما سيقوم به ـ بعض الناس ـ فيما بعد عندما ادّعوا أنه ابن الله، وبعدما نصَّ على عبوديته لله تحدث عما سيعطيه الله في المستقبل فقال: ﴿آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا﴾ [مريم: 30] ، وهذا على تقدير المستقبل: سيؤتيني الكتاب، ويجعلني نبياً، والمراد بالكتاب هنا الإنجيل، الذي سيؤتيه الله إياه ويجعله مصدقاً للتوراة قبله.
لم يتكلم عيسى الوليد بهذا الكلام من نفسه وإنما كان بإلهام من الله، ألهمه أن يقول هذا القول، وأخبره أن سينزل عليه الإنجيل، وسيجعله نبياً رسولاً.
وإذا كان قوله (إني عبد الله) تكذيباً مبكراً لما سيزعمه ـ بعض الناس ـ من نبوّته لله من بعض فرق النصارى، فإن قوله (وجعلني نبياً) تكذيب مبكر لما سيزعمه اليهود، حيث سيكفرون به وينكرون نبوته ويحاولون قتله.
وقول عيسى عليه السلام بعد ولادته ﴿نَبِيًّا *﴾، هو تطبيق عملي للوعد الذي بشر به جبريل عليه السلام مريم قبل فترة من حملها بعيسى ووضعها له وهو الذي ذكر قوله تعالى: ﴿يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾ [آل عمران: 45-46].
القصص القرآني، عرض وقائع وتحليل أحداث، صلاح الخالدي، 4/273.
من كتاب: " المسيح عيسى ابن مريم عليه السلام"، د. علي محمد محمد الصلابي، ص 146.