في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
الحصار الثاني للموصل:
الحلقة: التاسعة و الستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ يوليو 2020
ما لبثت الأحداث التي استجدَّت في الموصل أن فرضت على صلاح الدين التدخُّل مرةً أخرى في شؤونها ، ففي شهر جمادى الأولى عام 579 هـ/شهر أيلول عام 1183 م استمع عز الدين مسعود الأول إلى وشاية بعض كبار أمرائه ضدَّ نائبه مجاهد الدِّين قايماز ممَّن تربطهم به عداوة مستحكمةٌ ، فقبض عليه ، وسجنه ، وصادر أمواله ، وكانت إربل ، وجزيرة ابن عمرو ، وشهرزور ، ودقوقا ، وقلعة عقر الحميدية تحت حكم قايماز ، وبها نواب يحكمون باسمه ، فلمَّا قُبض عليه ، وشقَّ هؤلاء الأمراء عصا الطاعة ، وأرسل كلٌّ من زين الدين يوسف صاحب إربل ، ومعز الدين سنجر شاه صاحب جزيرة ابن عمرو رسالة ولاء إلى صلاح الدين ، وأضحت هاتان المدينتان تابعتين له.
وبهذا التصرُّف الَّلامسؤول ساهم عز الدين مسعود الأول في إضعاف موقفه أمام صلاح الدِّين ، فمال إلى السياسة، فأرسل القاضي بهاء الدين بن شدَّاد إلى الخليفة العباسي في شهر شوال 579 هـ/شهر كانون الثاني 1184 م ، يطلب منه التوسُّط من جديد في الصُّلح بينه ، وبين صلاح الدِّين ، فاستجاب الخليفة إلى طلبه ، وأرسل شيخ الشيوخ ، وبشير الخادم إلى دمشق للتفاوض مع صلاح الدين لحلِّ المشاكل القائمة بينه وبين صاحب الموصل ، وانضمَّ إليهما محيي الدين الشهرزوري ممثلاً عن صاحب الموصل ، ومعه القاضي ابن شدَّاد. تعثَّرت المفاوضات ، ثمَّ توقفت؛ لأن صلاح الدين اشترط أن يكون لأميري إربل ، وجزيرة ابن عمرو حرية الاختيار في الانضمام إليه ، أو إلى صاحب الموصل ، وهذا ما رفضه ممثل عز الدين مسعود الأوَّل؛ الذي تمسَّك بتبعيتهما لصاحب الموصل ، وأصرَّ على ذكر اسميهما في نسخة الصُّلح. ورجعت الرسل بغير ظفر بطائل.
أدرك عز الدين مسعود الأول ، الذي أوقع نفسه في هذا المأزق بحرج موقفه ، وندم على ما بدر منه بحقِّ نائبه ، فتدارك الأمر ، وأخرجه من السجن ، وأعاد إليه نفوذه السابق. خرج مجاهد الدين قايماز من السجن في الوقت الذي شهدت فيه الموصل تراجعاً في قوِّتها ، وانهياراً في معنويات حكَّامها ، فعمل على إعادة القوَّة إلى أجهزة الدَّولة بما فيها الجيش ، وطلب مساعدةً من القوى المجاورة ، ونجحت مساعيه في استقطاب قزل صاحب أذربيجان، فأمدَّه بثلاثة ألاف جندي ، وبعد أن وثق بقدرته على التحرُّك؛ قَرَّر إعادة المدن التي خسرتها الأتابكية ، فهاجم إربل ، لكنَّه فشل في اقتحامها.
ولم يكن صلاح الدين بغافل عمَّا يجري من أحداث ، فعزم على التدخل لصالح حليفه زين الدين يوسف ، صاحب إربل ، والتوجُّه بعد ذلك إلى الموصل لانتزاعها من يد عز الدين مسعود الأوَّل مستغلاً الهدنة التي عقدها مع ريموند صاحب أنطاكية لمدة أربع سنوات ، فكفل بذلك تأمين مؤخرة جيشه. ولم يلبث أن حشد قواته ، وخرج على رأسها إلى حرَّان في شهر صفر عام 581 هـ/شهر أيار عام 1185 م ونزل برأس العين ، ثمَّ رحل إلى دُنَيْسر ، حيث انضمَّ إليه عماد الدين بن قرا أرسلان الأرتقي ومعه عساكر أخيه نور الدين محمد صاحب حصن كيفا ، وامد ، وساروا جميعاً إلى نصيبين؛ حيث وافاهم فيها معز الدين سنجر شاه بن سيف الدين غازي الأوَّل صاحب جزيرة ابن عمرو ، وتابع صلاح الدين زحفه باتجاه الموصل ، ونزل بالإسماعيليات الواقعة بالقرب منها في شهر ربيع الأول 581 هـ/شهر حزيران 1185 م.
وتدعيماً لمواقفه أرسل رسالة إلى الخليفة العباسي يخبره بعزمه على تصفية أموره في الموصل ، وأشار إلى أنَّ أهلها يخطبون باسم طغرل السَّلجوقي سلطان العجم ، المعادي للخليفة ، ويضربون السكَّة باسمه ، كما أنهم يراسلون الصَّليبيين ، ويحرِّضونهم على مهاجمة بلاد المسلمين ، وأنه لم يأت رغبةً في توسيع ملكه ، أو التخلص من البيت لزنكي، وإنما قصد أن يردَّهم إلى طاعة الخليفة، ونصرة الإسلام، ومنعهم من ارتكاب الظلم، وانتهاك الحرمات، وقطع صلتهم بسلاجقة العجم ، وإلزامهم بما يجب عليهم من حفظ الجار ، وصلة الرَّحم.
كان الضغط شديداً على عز الدين مسعود الأول ، الذي أسقط في يده ، فمال إلى المهادنة ، وأرسل إليه وفداً ضمَّ دولته ، وابنة عمِّه نور الدين محمود ، وغيرهما من النساء ، وجماعةً من أعيان الدَّولة لطلب الصلح ، والكفِّ عن حصار الموصل ، وكان رأي صلاح الدين قبول الصُّلح لولا اعتراض الفقيه عيسى الهكَّاري، والأمير علي بن أحمد المشطوب؛ الَّلذين حذَّراه من الإقدام على قبول الصُّلح، وقالا له: مثل الموصل لا يترك لامرأة، فإنَّ عز الدين مسعود ما أرسلهن إلا وقد عجز عن حفظ البلد. فاقتنع برأيهما، واعتذر لوفد الموصل، ومضى يحاصر المدينة لكن اعترضه عدَّة صعوبات، اضطرته إلى فكِّ الحصار عن الموصل، ولعلَّ أهمها:
ـ كان أهل الموصل يخرجون من الجانب الشرقي ، فيقاتلون القوات الأيوبية ، ويعودون إلى داخل المدينة ، ممَّا ضايق صلاح الدين.
ـ لقد حصَّن قايماز البلد بالاستحكامات ، وأصلح أوضاع الجيش ، ليتمكَّن من التصدِّي للهجمات الأيوبية ، فاستبسل أفراده في الدِّفاع.
ـ حدث حصار الموصل في فصل الصَّيف حيث درجة الحرارة مرتفعةٌ ، والحرُّ شديدٌ ، فأمر صلاح الدين بوقف المناوشات العسكرية إلى أن يزول الحرُّ.
ـ وصادف آنذاك أن خفَّت مياه نهر دجلة ، فأشار المهندسون على صلاح الدين بتحويل مجرى النهر بعيداً عن الموصل ، لقطع الماء عن أهلها ، فيصيبهم العطش ، ويضطرون إلى الاستسلام. لكن صلاح الدين رأى أنَّ هذا المشروع قد يستغرق وقتاً طويلاً ، لا يتوفر له ، ويأخذ مجهوداً شاقاً ، قد يُنهك الجيش.
ـ حدث أثناء الحصار أن توفي كلٌّ من شاه أرمن صاحب خلاط دون أن يترك ولداً يخلفه في الحكم ، ونور الدين محمَّد صاحب امد ، وحصن كيفا ، فأراد صلاح الدين أن يرتِّب أوضاع الإمارات الأرتقيَّة بشكلٍ يخدم أهدافه.
ـ محاولة ضمِّ خلاط: استولى أحد مماليك شاه أرمن ، ويدعى سيف الدين بكتمر على الحكم في خلاط بعد وفاة صاحبها ، فتطلَّع صلاح الدين إليها لضمِّها ، واستشار أركان حربه في ذلك ، فأشار بعضهم إلى مواصلة حصار الموصل في حين نصحه البعض الاخر بالرَّحيل إلى خلاط للسَّيطرة عليها بحجة أنها تشكل خطوةً تمهيدية للسَّيطرة على باقي القلاع في المنطقة ، نتيجةً لهذا الاختلاف في وجهات النظر تردَّد صلاح الدين في اتِّخاذ قرار ما، ولم يتحدَّد موقفه إلا بعد أن جاءته الكتب من أهل خلاط يستدعونه؛ ليسلِّموا البلاد إليه. والواقع أن شمس الدين بهلوان بن إيلدكز ، صاحب أذربيجان ، وهمذان طمع في تملُّك خلاط عندما علم بوفاة شاه أرمن ، فخشي بكتمر أن يفقد منصبه ، كما رفض أهل خلاط الخضوع له ، وحتَّى يصدَّه عنها اتفق بكتمر مع أعيان البلد على مراسلة صلاح الدين ، والدُّخول في طاعته ، وفي نيَّتهم ضرب الطرفين بعضهما ببعض؛ حتى تبقى البلد بأيديهم.
وسار صلاح الدين باتجاه خلاط دون أن يعلم بنوايا بكتمر ، وعلى مقدمته ابن عمِّه نصر الدين محمَّد بن شيركوه، ومظفر الدين بن صاحب حرَّان ، وغيرهما ، ونزلوا بطوانة بالقرب من خلاط ، وأرسل الفقيه عيسى الهكَّاري ، وغرس الدين قلج أرسلان إلى خلاط لتقرير قواعد التسليم ، وتوجَّه هو إلى ميافارقين لضمِّها ، وأما البهلوان فقد تقدَّم نحو خلاط ، ونزل قريباً منها ، ثم تردَّدت رسل بكتمر بين الطرفين ، الذين هدَّدوا البهلوان من أنَّه إذا هاجم خلاط ، فإن بكتمر سوف يسلِّم البلد إلى صلاح الدين ، ولكن البهلوان تمكَّن من استمالة بكتمر وزوَّجه ابنته ، واعتذر هذا الأخير لرسل صلاح الدين الذين عادوا دون أن يحقِّقوا الهدف ، وهكذا فشلت جهود صلاح الدين في تملك خَلاط ، ومن جهته فقد اعترف قطب الدين سقمان ـ الذي خلف أباه في حكم امد ، وحصن كيفا ـ بالطَّاعة والولاء بعد أن خشي أن يستردَّ منه آمد.
ضمُّ ميافارقين:كانت ميافارقين تحت حكم حسام الدين يولق بن قطب الدين إيلغازي صاحب ماردين ، وله من العمر عشر سنوات ، وفيها حامية لشاه أرمن خلاط ، وعلى رأس أجنادها أسد الدين يرنقش ، وقد رفض الانضواء تحت راية صلاح الدين ، وأعلن عصيانه ، فاضطرَّ صلاح الدين إلى حصار المدينة؛ إلا أنَّه لم يتمكَّن من اقتحامها ، فمال إلى استعمال أسلوب الدَّهاء السياسي ، فاتصل بزوجة قطب الدِّين المقيمة فيها ، وأوهمها أن يرنقش اتفق معه على تسليم البلد ، كما أرسل إلى هذا الأخير يخبره بميل الخاتون إليه ، وبهذا الأسلوب السياسي ضمَّ البلد إلى أملاكه في 29/جمادى الأولى عام 581 هـ/28 اب عام 1185 م ، ووصل إلى صلاح الدين انذاك كتاب من الخليفة العباسي بتقليده النَّظر في أمر ديار بكر ، ومصالح أيتام ملوكها ، فخُطب له في الولايات الأرتقية ، وضُربت النقود باسمه.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: