في سيرة صلاح الدين الأيوبي:
صلاح الدين و ضم دمشق... المعارك و الإستراتيجيات
الحلقة: السابعة و الستون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو الحجة 1441 ه/ يوليو 2020
1 ـ معركة قرون حماة: كان سيف الدين غازي الثاني ـ صاحب الموصل ـ يراقب توسعات صلاح الدين في بلاد الشام، وضايقه انتزاعه دمشق ، وحمص ، وحماة ، وبعلبك ، وأثار غضبه حصاره لحلب في محاولة لضمِّها إلى أملاكه ، ثمَّ بدت له الصورة واضحةً فيما إذا استمرَّ صلاح الدين في تقدُّمه ونجح في ضمِّ حلب ، فإن ذلك يشكل تهديداً خطيراً للموصل؛ التي تصبح بعد ذلك هدفاً سهلاً له. من هنا أدرك سيف الدين غازي الثاني ضرورة الارتباط مع حلب في حلفٍ دفاعيٍّ ضدَّه ، وحدث آنذاك أن تعرَّض الصالح إسماعيل لضغط صلاح الدين ، فاستنجد بابن عمِّه صاحب الموصل ، وطلب منه إمداده بالجند ، وتمكَّن وفده من إقناعه بضرورة تقديم المساعدة للوقوف في وجه صلاح الدِّين؛ لأنَّه متى ملك حلب؛ لم يكن له قصد إلا الموصل.
ولم يكن سيف الدين غازي الثاني بحاجةٍ إلى من يستحثُّه لمواجهة صلاح الدين ، فقد أدرك: أنَّه متى غفل عنه؛ استملك البلاد ، واستقرَّ قدمه في الملك ، وتعدَّى الأمر إليه ، فبادر إلى جمع العساكر من الموصل ، والجزيرة ، وأعدَّ العدَّة لعبور الفرات إلى حلب ، وأرسل إلى أخيه عماد الدين زنكي الثاني ، صاحب سنجار ، يطلب منه موافاته بعساكره ، لكن هذا الأخير امتنع عن تلبية طلبه بعد أن استقطبه صلاح الدين ، ونفخ في روعه: أنه أحقُّ من أخيه بالملك؛ لأنه كبير البيت الزنكي ، فاضطرَّ صاحب الموصل أن يُخضع أخاه ، ويوجِّه في الوقت نفسه قوةً عسكرية إلى حلب ، عَهِد بقيادتها إلى أخيه عز الدين مسعود. عَبَرَ عزُّ الدين مسعود الفرات متوجهاً إلى حلب ، ولما وصل إليها؛ انضمَّ إليه من كان بها من العسكر ، وسار إلى حماة ، وحاصرها وبعد تداول الأمور رأى الجانبان الأيوبي ، والزنكي: أنَّ المصلحة العامة تقتضي بضرورة التفاهم ، وحقن دماء المسلمين ، فجرت مفاوضات بينهما تقررَّ بنهايتها:
ـ الإغضاء عن حركة الموصل المعادية لصلاح الدين.
ـ يتنازل صلاح الدين للصَّالح إسماعيل عن المدن ، والقلاع التي انتزعها في بلاد الشام لا سيما حمص وحماة مكتفياً بدمشق ، على أن يكون فيها نائباً عنه ، منتمياً إليه ، والخطبة ، والسِّكَّة له.
ـ يعيد صلاح الدين كل ما أخذه من الخزانة.
أتاح هذه الاتفاق فرصةً طيبة للزَّنكيين لاستعادة نفوذهم في بلاد الشام ، وحِفظ هيبة البيت الزنكي. ثم إنَّ قبول صلاح الدين لمبدأ التفاهم كان بهدف حفظ البلاد من التفكُّك ، والانقسام بعيداً عن المطامع الشخصية ، لكن الزَّنكيين الذين اعتزُّوا بقوَّتهم ، وطمعوا في الحصول على مزيدٍ من الامتيازات بعد أن علموا بقلَّة عدد أفراد جيشه؛ طالبوه بالرَّحبة وأعمالها, فاعتذر عن إجابتهم بحجَّة أنها في يد ابن عمِّه ناصر الدين محمد بن أسد الدين شيركوه ، ولا سبيل إليها ، وبذلك لم يسمح صلاح الدين لأي انشقاق يحدث داخل صفوفه ، وربما اكتشف بأنَّ الزنكيين أرادوا ضرب قوته من الدَّاخل ، ففضَّل الحفاظ على وحدة صفِّه.
ونتيجة لهذا الرفض قرَّر الزنكيُّون استئناف العمليات العسكرية؛ إلا أنَّ صلاح الدين هزم الجيش الزنكي في مكانٍ يقع عند حدود حماة في وادي نهر العاصي يُعرف بـ (قرون حماة) إلى الشَّمال من المدينة وذلك في 19 رمضان عام 570 هـ/23 نيسان عام 1175 م ، وأسر, جماعة من أمرائه ، ثم أطلقهم ، وطارد خصومه حتى أبواب حلب ، وحاصر المدينة للمرَّة الثانية وأمر بقطع الخطبة للملك الصَّالح ، وأزال اسمه من السِّكَّة في المناطق الواقعة تحت حكمه ، ومع ذلك لم يشعر: أنَّ له من القوَّة ما يكفي لمواصلة القتال. ومن جهتهم فإنَّ الحلبيين مالوا إلى الصُّلح ، ونتيجةً للمباحثات التي جرت بين الطرفين تقرَّرت الهدنة التي قضت بأن يكون لصلاح الدين ما بيده من بلاد الشام ، وللحلفاء الزَّنكيين ما بأيديهم ، وأن تضاف إلى أملاكه بعض الأراضي الواقعة شمال حماة مثل المعرَّة ، وكفر طاب. وبعد توقيع الاتفاق رحل صلاح الدين عن حلب. وقد ساعد الانتصار الذي حقَّقه صلاح الدين في «قرون حماة» على تثبيت مركزه تماماً في بلاد الشَّام ، كما أضعف مركز مناوئيه تماماً في بلاد الشام ، ودفعه إلى أن يتلقَّب: «ملك مصر والشام» ودُعي له على منابرها ، كما سكَّ نقوداً ذهبية باسمه.
والواقع: أنَّ صلاح الدين كان صادق النية في التعامل الإيجابي مع الملك الصَّالح إسماعيل ، وحاول إقناعه بأنه على استعداد لخدمته بإخلاص ، مع أنَّه كان واضحاً: أنه لن يسمح لخصومه بالتقرُّب منه ، وعدَّ الصالح من جهته هذه الخدمة بأنَّها حقيقة السيادة ، وهي واجبة عليه ، وبهذا الرفض الإيجابي لكلِّ محاولة للتفاهم لم يكن أمام صلاح الدين إلا أن يتحلَّل من هذا الولاء ، وفي هذه الظروف لم يجد مبرراً لعدم الإقدام على أن يتلقَّب بلقب ملك.
كانت أصداء معركة القرون خطيرةً بقدر ما كانت نتائجها خطيرةً ، فإنَّ السلطان ما وصل حماة في طريق العودة؛ حتى وصلته رسل الخليفة المستضيء ، ومعهم التَّشريفات الجليلة ، والأعلام السُّود ، وتوقيع من الدِّيوان بالسلطنة على بلاد مصر ، والشام عدا حلب؛ فأصبح السُّلطان الشَّرعي ، والأكبر ، والأقوى في المنطقة كلِّها ، والوارث الحقيقي لنور الدين في مبادئه؛ وهذا ما أحفظ عليه الزنكيين المهزومين ، وزاد في حقد الحلبيين ، والفرنج معاً ، ودفع ذلك كلُّه إلى تجدد القتال ، وكأنَّ الصلح مع حلب ، والأيمان كانت لغواً.
2 ـ معركة تل السُّلطان ، والمحاولة الأخيرة لطرد صلاح الدين: والواقع: أنَّ الخلاف بين الأيوبيين ، والزَّنكيين لم ينته بانتصار صلاح الدين في «قرون حماة». وذلك: أنَّ سيف الدين غازي الثاني لم ييأس عندما تناهى إلى أسماعه أخبار الهزيمة ، وأثاره حصول صلاح الدين على تقليدٍ من الخليفة بحكم مصر ، وبلاد الشام بالإضافة إلى سكِّ النقود باسمه ممَّا دفعه إلى التفكير بالانتقام ، ووضع خطَّةً عسكرية تتيح له تطويقه ، وتضمن له الفوز. وتصرَّف على أربعة محاور:
ـ أرسل إلى أمراء حلب يعتب عليهم ، ويلومهم على تسرعهم في إبرام الصُّلح ، ويحرِّضنهم على نقضه ، والتعاون معه في خوض المعركة المقبلة.
ـ أرسل سفارة إلى ريموند الثالث صاحب طرابلس ، والوصي على عرش مملكة بيت المقدس يطلب منه أن يتحالف معه ، ويسانده ضدَّ صلاح الدين.
ـ حاول الوقوف على نوايا صلاح الدين ، فأرسل إليه رسولاً بحجَّة طلب الموادعة ، وأخذ العهد له ، أما المهمة الحقيقية؛ فهي التضليل ، وكشف ما عنده من نوايا ، لكنَّ الرسول أخطأ حين أخرج كتاب سيف الدين غازي إلى أمراء حلب ، فقرأه صلاح الدين ، وعرف ما يُبيِّته ال زنكي مدركاً في الوقت نفسه: أنَّ أمراء حلب قد نقضوا العهد الذي ارتبطوا به معه ، وأنهم يستعدُّون لاستئناف القتال.
ـ استقطب كلاًّ من صاحب حصن كيفا ، وصاحب ماردين ، وغيرهما من الأمراء التُّركمان, كما أبدى أخوه عماد الدين زنكي الثاني صاحب سنجار استعداده للتعاون معه.
والواضح: أن صلاح الدين لم يكن بعيداً عن هذا المناخ العدائي ، وحتى يقطع الطريق على تعاون سيف الدين غازي الثاني ، وصاحب طرابلس؛ عرض على هذا الأخير سلمه ، وصداقته؛ إذا وقف على الحياد ، وأطلق سراح ما عنده من أسرى الصليبيين كدليلٍ على حسن النية. حشد سيف الدين غازي الثاني أعداداً كثيرة من الجند سار بهم إلى نصيبين ، في شهر ربيع الأول عام 571 هـ/شهر أيلول عام 1175 م ، وأقام فيها حتى نهاية فصل الشتاء ، ثم عبر الفرات من البيرة ، وكتب إلى سعد الدين كمشتكين ، والملك الصَّالح إسماعيل لمساندته. وفعلاً تَمَّ الاتفاق على أن يتقدَّم صاحب الموصل نحو حلب ، ويجتمع بابن أخيه؛ ليقررا معاً الخطوة التالية ، واجتمع الطرفان في مكانٍ يعرف بـ «عين المباركة» وتقرَّر انضمام جيش حلب إلى جيش الموصل، فبلغ عدد أفراد الجيشين عشرين ألف مقاتل ، تحرَّك هذا الجيش الضَّخم باتجاه دمشق في شهر رمضان عام 571 هـ/شهر اذار عام 1176 م وتوقف في تلِّ السلطان على مسافة عشرين ميلاً إلى الجنوب من حلب.
وقرَّر كمشتكين في هذا الوقت التعاون مع الصليبيين لإجبار صلاح الدين على القتال على جبهتين ، حتى يُضعف قوَّته ، لذلك أطلق سراح الأسرى الصليبيين في حلب؛ وبخاصةٍ رينولد شاتيون صاحب الكرك ، وجوسلين صاحب الرُّها كبادرة حسن نيَّة.
وتحرَّك صلاح باتجاه خصومه ، بعد أن تلقَّى إمدادات من مصر ، فعبر العاصي عند شيزر ، في (شهر شوال/شهر نيسان) وَمَرَّ بقرون حماة حتى وصل إلى تلِّ السلطان ، ولم تمض عشراة أيام حتى فاجأه سيف الدين غازي بعساكره؛ وقد تفرَّق عسكره ، وهم يوردون أفراسهم الماء ، حين تردَّد حاكم الموصل في الهجوم ، وقرَّر تأجيل اللقاء إلى اليوم التالي. ولما عبَّأ عساكره في صبيحة اليوم التالي في (10 شوال / 12 نيسان)ٍ لشنِّ هجومٍ على معسكر صلاح الدين؛ كان الوقت قد فات.
واشتبك الطرفان في رحى معركةٍ شديدة ، وكاد أول هجوم للقوات الزنكية أن يتكلَّل بالنَّجاح؛ غير أنَّ صلاح الدين قاد ما لديه من قوات احتياطية لردِّ الهجوم ، فحطم خطوط خصومه ، ولم يحلَّ المساء حتى أضحى سيِّد الموقف ، ومُني الزَّنكيون بخسارةٍ فادحة ، ووقع بعض قادتهم في الأسر ، ولكنَّ صلاح الدين منَّ عليهم ، وأطلقهم مظهراً مرونةً في التفكير السياسي ، ويبدو: أنه هدف إلى استقطاب هؤلاء ، وبخاصَّةٍ أنه كان من بينهم أصحاب مراكز ، وتأثير.
قنع سيف الدين غازي الثاني بهذه الهزيمة ، وقرَّر العودة إلى بلاده ، ولم يكسب سوى عداء صلاح الدِّين ، وما خلَّفه من أموال في معسكره عند انسحابه بذلها صلاح الدين لرجاله على سبيل المكافأة ، وبهذا الانتصار الحاسم تمهَّد السبيل أمام صلاح الدين لضمِّ حلب ، ونواحيها إلا أنه لم يشأ في هذه الاونة أن يلاحق فلول العساكر الزَّنكية، ويحاصر حلب ، واكتفى بالقيام بشنِّ غارات على أملاك خصومه في المنطقة ، بعد أن سيطرت عساكره على الحصون المحيطة بحلب شمالاً ، وجنوباً.
ونتيجة لهذا التشتُّت في الصفِّ الإسلامي؛ رأى الطرفان ضرورة الدخول في مفاوضات من أجل إحلال السَّلام؛ لقطع الطريق على الصَّليبيين من الاستفادة من هذا الوضع ، وخدمةً لمصلحة المسلمين العامة ، ولذلك قدَّم كلُّ طرف بعض التنازلات ، واستقرَّ الرأي على الصِّيغة التالية:
ـ أن يكون الجميع يداً واحدة ضدَّ الصليبيين.
ـ لا يجوز لأحد الأطراف نقض العهد.
ـ إذا نقض أحد الأطراف العهد ، أو خالفه؛ فالباقون يداً واحدةً عليه؛ حتى يرجع إلى الوفاق.
ـ يتنازل صلاح الدين عن قلعة عزازللملك الصَّالح.
ـ وعُقدت الهدنة في شهر محرم عام 572 هـ/شهر تموز عام 1176 م.
3 ـ وفاة سيف الدين غازي الثاني ، وتولية عز الدين مسعود الأول: ويبدو أنَّ تطورات الأحداث في الموصل اتخذت مساراً شدَّ مجدداً اهتمام صلاح الدين ، ذلك: أن سيف الدين غازي الثاني توفي في شهر صفر عام 576 هـ/شهر تموز عام 1180 م وقد حدث في عهده شيءٌ عجيب ، وهو أن النَّاس خرجوا يستسقون بالموصل سنة خمس وسبعين للغلاء الحادث في البلاد ، وخرج سيف الدين في موكبه ، فثار الناس ، وقصدوا مستغيثين به ، وطلبوا منه أن يأمر بالمنع من بيع الخمر ، فأجابهم إلى ذلك ، فدخلوا البلد ، وقصدوا مساكن الخمَّارين ، وخرَّبوا أبوابها ، ونهبوها ، وأراقوا الخمور ، وكسروا الأواني ، وعملوا ما لا يحِلُّ ، فاستغاث أصحاب الدُّور إلى نُوَّاب السلطان ، وخصُّوا بالشَّكوى رجلاً من الصَّالحين ، يقال له أبو الفرج الدَّقَّاق ، ولم يكن له من الذي فَعَله الناس من النَّهب فعلٌ ، إنما هو أراق الخمور ، ولما رأى فعل العامَّة؛ نهاهم، فلم يسمعوا منه، فلمَّا شُكي أحضر بالقلعة ، وضُرب على رأسه، فسقطت عمامته. فلمَّا أطلق لينزل من القلعة؛ نزل مكشوف الرأس ، فأرادوا تغطيته بعمامته ، فلم يفعل ، وقال: والله لا غطيته؛ حتى ينتقم الله لي ممَّن ظلمني! فلم يمض غير قليل حتى توفي الدُّزدار المباشر لأذاه، ثم أعقبه مَرض سيف الدين ، ودام مرضه إلى أن توفي ، وكان عمره نحو ثلاثين سنة ، وكانت ولايته عشر سنين، وشهوراً ، وكان من أحسن الناس صورة ، تام القامة ، مليح الشمائل ، أبيض اللَّون ، مستدير الِّلحية ، متوسط البدن بين السَّمين والدقيق ، وكان عاقلاً ، وقوراً ، قليل الالتفات إذا ركب ، وإذا جلس ، عفيفً ، لم يُذكر عنه شيء من الأسباب التي تنافي العِفَّة ، وكان غيوراً شديد الغيرة ، لم يترك أحداً من الخدم يدخل دور نسائه إذا كبر، إنما يدخل عليهنَّ الخدم الصِّغار ، وكان لا يحبُّ سفك الدماء ، ولا أخذ الأموال مع شحٍّ فيه.
وبعد وفاته دخلت الموصل في دوامة صراع على البديل ، فقد رأى سيف الدين غازي الثاني أن يعهد بالملك لولده معز الدين سنجر ، وكان عمره آنذاك اثنتا عشرة سنة ، إلا أنه خشي على الدولة من بعده من طموحات صلاح الدين بفعل صغر سن ابنه كما أن أخاه عز الدين مسعود عارض هذا التوجه ، بحجَّة: أنه أحقُّ بالسلطة ، وأيَّده أمراء الموصل ، وأوضح الأمير مجاهد الدِّين قايماز لسيف الدين غازي الثاني المخاطر التي ستواجهها الدولة الأتابكية من جراء تولية ولدٍ صغير في الوقت الذي تزداد فيه قوة صلاح الدين في بلاد الشام ، ويبدو أن سيف الدين غازي الثاني اقتنع برأي أمرائه ، فعيَّن أخاه عز الدين مسعود خَلَفاً له.
4 ـ وفاة الملك الصَّالح إسماعيل بن نور الدين محمود: كانت وفاته في الخامس والعشرين من رجب من سنة 577 هـ بقلعة حلب ، ودفن بها ، وكان سبب وفاته فيما قيل: ـ أنَّ الأمير علم الدين سليمان بن جندر سقاه سُمَّا في عنقود عِنب في الصَّيْدِ. وقيل: بل سقاه ياقوت الأسدي في شراب. وقيل: في خشكنانجة ، فاعتراه قولنج ، فما زال كذلك؛ حتى مات ـ رحمه الله ـ وهو شاب حسن الصُّورة ، بهيُّ المنظر ، ولم يبلغ عشرين سنة، وكان من أعفِّ الملوك، ومَنْ أشبه أباه فما ظلم ، وصف له الأطباء في مرضه شُرب الخمر، فاستفتى بعض الفقهاء في شُربها تداوياً، فأفتاه بذلك، فقال له: أيزيد شُربها في أجلي ، و ينقص منه شيئاً؟ قال: لا. قال: فو الله لا أشربها ، فألقى الله؛ وقد شربت ما حرَّمه عليَّ! ولما يئس من نفسه؛ استدعى الأمراء، فحلَّفهم لابن عمِّه عز الدين مسعود صاحب الموصل؛ لقوة سلطانه ، وتمكُّنه ليمنعها من صلاح الدين ، وخشي أن يبايع لابن عمِّه الاخر عماد الدين زنكي صاحب سنجار ، وهو زوج أخته ، وتربية والده ، فلا يمكنه حِفظها من صلاح الدين.
فلمَّا مات استدعى الحلبيون عز الدين مسعود بن قطب الدِّين صاحب الموصل ، فجاء إليهم، فدخل حَلَب في أبهة عظيمةٍ، وكان يوماً مشهوداً ، وذلك في العشرين من شعبان ، فتسلَّم خزائنها، وحواصلها ، وما فيها من السلاح، وكان تقي الدين عمر بمدينة منبج ، فهرب إلى حماة، فوجد أهلها قد نادوا بشعار عز الدين صاحب الموصل، وأطمع الحلبيُّون عز الدين مسعود في أخذ دمشق؛ لغيبة صلاح الدين بالديار المصرية، وأعلموه محبَّة أهل الشام لهذا البيت الأتابكي ، فقال: بيننا وبينه أيمانٌ ، وعهود ، وأنا أغدر به؟! فأقام بحلب شهوراً ، وسار إلى الرقَّة ، فنزلها ، وجاءته رسل أخيه عماد الدين زنكي يطلب منه أن يقايضه حلب إلى سنجار ، وألحَّ في ذلك، وتمنع أخوه، ثم فعل ذلك على كرهٍ منه، فسلَّم إليه حلب، وسلَّمه عماد الدين سنجار، والخابور، والرقَّة، ونصيبين، وسروج، وغير ذلك من البلاد، ولمَّا سمع الملك صلاح الدين بهذه الأمور؛ ركب من الديار المصرية في عساكره، فسار حتى أتى الفُرات فعبرها، وحاصر إليه بعض أمراء الموصل، فتقهقر عن لقائه، فاستحوذ صلاح الدين على بلاد الجزيرة بكاملها، وهَمَّ بمحاصرة الموصل، فلم يتَّفق له ذلك، ثم جاء إلى حلب، فتسلَّمها من عماد الدين زنكي.
5 ـ الحصار الأول للموصل: دفعت التطوُّرات السياسية التي شهدتها بلاد الشَّام ، والجزيرة ، والموصل بعد وفاة الصالح إسماعيل صلاح الدِّين إلى مغادرة مصر ، والتوجُّه إلى الشرق؛ ليكون على مقربةٍ من الأحداث الجارية هناك، ويتدخَّل عندما تقضي الظروف ذلك ، وعَدَّ تصرف عز الدين مسعود الأول فيما يتعلق بسياسته في حلب نقضاً للمعاهدة المُبْرَمة بين الطرفين: الأيوبي ، والزنكي؛ لأنَّ هذه المدينة وما جاورها من قلاع تابعةٌ له بحكم تفويض الخليفة ، ممَّا يؤدي إلى القضاء على مشروع الوحدة الإسلامية الذي يسعى لتحقيقه ، لذلك اتَّخذ عدَّة إجراءات وهو في طريقه إلى الشرق لفكِّ ارتباط حلب بما حولها:
أ ـ طلب من ابن أخيه تقي الدين عمر صاحب حماة ، وفروخ شاه حاكم دمشق ، وغيرهما من الأمراء بمهاجمة مناطق غرب الجزيرة ، وضمِّها إلى الأملاك الأيوبية ، ومنع عبور جيش الموصل نهر الفرات ، لكن تقي الدين عمر عجز عن منع عز الدين مسعود الأول من دخول حلب ، كما كان فروخ شاه منهمكاً في التصدِّي لمحاولات رينولد شاتيون لاجتياح الجزيرة العربية انطلاقاً من حصن الكرك.
ب ـ كتب رسالة إلى الخليفة العباسي النَّاصر لدين الله (575 ـ 622 هـ) (1180 ـ 1225م)
يشرح فيها بلاءه في الإسلام ، وجهاده وما قدَّمه من أعمال جليلة للخلافة العباسية ، وأوضح دوره في إسقاط الخلافة الفاطمية، وإعادة النفوذ العباسي إلى مصر موضِّحاً له سوء الأوضع في بلاد الشام، وتعرُّض حارملهجوم الصليبيين، وغدر صاحب الموصل، واعتداء عسكر حلب على أملاكه، واستنجادهم بالصَّليبيين، ومراسلتهم الحشيشية بهدف التعاون معهم ضدَّ مشروع الوحدة الإسلامية؛ الذي يسعى جاهداً لتحقيقه ، وذكّره بأنَّ الخليفة المستضيء بأمر الله قلَّده حلب، وأعمالها، وأنه لم يتركها إلا من أجل ابن نور الدين محمود، ولا يسعه الان إلا أن يطالب بحقِّه؛ وعبَّر عن ذلك بقوله: والان فليرجع كلُّ ذي حقٍّ إلى حقه ، وليقنع برزقه.
ومن جهته ، تحرَّك عز الدين مسعود الأول باتجاه الصَّليبيين لاستقطابهم ، وحثِّهم على مهاجمة الثغور الإسلامية؛ ليشغل صلاح الدين عن قصد بلاده ، فأيقن هذا الأخير من غدر صاحب الموصل ، فقرَّر أن يولي اهتمامه لمناطق شمال الشام ، والجزيرة ، وَيَمَّم وجهه صوب حلب ، والموصل ، وانضمَّ إليه أثناء زحفه على حلب مظفر الدين كوكبوري صاحب حرَّان ، وأشار عليه بعبور الفرات ، والاستيلاء على البلاد الواقعة في شرقه قبل التوجُّه إلى حلب حتى لا تشغله عن غيرها ، ووعده بالمساعدة. والجدير بالذكر أن كوكبوري كان على خلاف مع صاحب الموصل ، ونائبه قايماز الذي كان قد أقصاه عن ولاية إربل.
واتجه صلاح الدين نحو حلب متحصناً ببراءة الخليفة ، وحاصرها مدَّة ثلاثة أيام في شهر «جمادى الأولى/أيلول» ، رحل بعدها إلى الموصل لانتزاعها من ال زنكي مفضلاً ضمَّ الجزيرة ، والحصون التابعة لها أولاً. فعبر الفرات عند البيرة، وكان صاحبها شهاب الدين محمد بن إلياس الأرتقي يدين بالطاعة ، ودخل الأراتقة في حصن كيفا ، وماردين في طاعته ، وانضموا إلى جيشه ، فهو أمامه مدن الجزيرة: الرُّها ، وسروج ، ونصيبين ، والرقة ، والخابور ، وغيرها ، فأقطع كوكبوري الرُّها ، وولَّى حسام الدين أبا الهيجاء السمين نصيبين ، ومنح جمال الدين خوشترين الخابور.
وبذلك يكون صلاح الدين قد نجح في السَّيطرة على ديار مضر كلِّها ، وتكوين حلف مناهض لإمارة الموصل ، ولم يبق أمامه سوى التوجه إلى الموصل لإخضاعها ، والواقع: أنَّ الموصل شكَّلت مصدر قلقٍ له ، وحجر عثرة أمام تحقيق أهدافه ، فرأى: أنَّه لا بدَّ من إخضاعها ، أو على الأقل ضمان تأييدها له ، وتحالفها معه ، وأدرك: أنَّه لا يمكن أن يتحقَّق ذلك إلا بضمِّ الموصل ، وسنجار ، وجزيرة ابن عمرو. وصل صلاح الدين إلى الموصل في شهر رجب عام 578 هـ/شهر كانون الأول عام 1182 م وضرب عليها حصاراً مركَّزاً ، ثم ما لبث أن هاجمها ، لكنَّه لم ينل منها ، واستعصت عليه بسبب مناعتها ، ومتانة أسوارها ، وبفضل الاستعدادت الضَّخمة؛ التي نفَّذها عز الدين مسعود الأول ، ونائبه قايماز ، حيث حشدا العساكر الكثيرة للدِّفاع عنها: وأظهرا من السِّلاح ، والات الحصار ما حارت له الأبصار.
وقام صلاح الدين أثناء الحصار بجولة استطلاعية حول المدينة ، فتأكَّد له استحالة اقتحامها ، وتحرَّك صاحب الموصل في غضون ذلك ، يلتمس الحلفاء من كلِّ جانب ، فأرسل القاضي بهاء الدين بن شدَّاد إلى بغداد ، مستنجداً بالخليفة العباسي لردِّ صلاح الدين عن بلاده ، فكتب الخليفة إلى صدر الدين شيخ الشُّيوخ ، وكان بصحبة صلاح الدين ، يأمره بالتوسُّط في الصلح بين الطرفين. والتمس مساعدة كلٍّ من قزل أرسلان صاحب أذربيجان، وبهلوان بن إيلدكز أتابك همذان ، وبكتمر سقمان صاحب خلاط ، فلم ينجده سوى بكتمر الذي أرسل إلى صلاح الدين يطلب منه الشفاعة ، والكفَّ عن الموصل ، وعلى الرَّغم من أنَّ صلاح الدين ردَّ رسل بكتمر؛ إلا أنَّ كلَّ هذه العوامل دفعته إلى إعادة النظر بخططه لضمِّ الموصل بالقوَّة المسلحة ، ومال إلى استعمال الأسلوب السياسي، ويبدو: أنه وجد نفسه في موقفٍ حرج ، وخشي أن يفقد مكانته كمجاهد في سبيل الإسلام ، بسبب ظهوره بمظهر القامع في دولة الموصل ، لذلك عرض على عز الدين مسعود الأوَّل الصلح ، فطلب هذا إعادة البلاد التي أُّخذت منهم ، فأجابه صلاح الدين إلى ذلك بشرط عدم اعتراضه على ضمِّ حلب ، فرفض أمير الموصل خيانة أخيه ، وحرص على التمسك بسيادته على حلب ، وأعلن عن استعداده لمساعدته إذا تعرَّض للخطر.
ـ ضمّ سنجار: نتيجة لفشل المفاوضات بين الطرفين رأى صلاح الدين أن يضيِّق الخناق على الموصل ، وعَزْلها عن حلب ، وكانت سنجار هي المدينة التي توفر له هذه السياسة ، لذلك فكَّ الحصار عن الموصل ، وتوجَّه إلى سنجار في 16 شعبان عام 578 هـ/15 كانون الأول عام 1182 م ، وأخطر الخليفة بما استقرَّ عليه رأيه ، فحاصرها مدة خمسة عشر يوماً؛ حتَّى سقطت في يده.
ـ ذيول ضمِّ سنجار: أثار ضمُّ سنجار حفيظة أمراء الجزيرة ، فتنادوا إلى عقد حلفٍ دفاعيٍّ موجَّهٍ ضدَّ سياسة صلاح الدين ، وقد أزعجهم توغُّله في إقليم الجزيرة ، وضمُّ سنجار ، ممَّا يهدِّد أمنهم ، وتألف الحلف من: شاه أرمن سقمان صاحب خلاط ، وقطب الدين بن نجم الدين ألبي صاحب ماردين ، ودولة شاه صاحب بدليس ، وأرزن ، بالإضافة إلى عز الدين مسعود الأول ، وخرج الحلفاء للتصدِّي له ، مستغلِّين تفرُّق جيشه في أنجاء الجزيرة ، وعسكروا في حرزم من أعما ل ماردين، ولما علم بمسيرهم جمع جيشه ، وسار إلى رأس العينلملاقاتهم، ويبدو: أنهم خشوا الدُّخول في معركة، فتفرقوا عائدين إلى بلادهم ، وبذلك أخفق عز الدين مسعود الأول في مسعاه لإخراج صلاد الدين من منطقة الجزيرة على الرَّغم من تأييد بعض أمرائها له ، ولم يَعُدْ له من القوَّة ما يكفي لعرقلة مشاريعه في المنطقة.
ـ ضمَّ آمد: استغل صلاح الدين تفرُّق خصومه ، وضعفهم ، فتقدَّم إلى امد ، بعد أن استأذن الخليفة الناصر لدين الله بمهاجمتها ، فأذن له. وكان نور الدين محمَّد صاحب حصن كيفا يلحُّ عليه بمهاجمتها ، والاستيلاء عليها ، وتسليمها إليه وفقاًّ للاتفاق الذي تمَّ بينهما. وصل صلاح الدين إلى امد في 17 ذي الحجة عام 578 هـ/15 نيسان 1183 م ، وضرب الحصار عليها ، وكان حاكمها محمد بن إيلدكز ضعيفاً لا يملك من السلطة إلا اسمها ، أما حاكمها الفعلي؛ فكان بهاء الدين بن نيسان ، الذي اتَّصف بالشحِّ ، وسوء السيرة ، فمنع الذخائر ، والأموال عن أهل البلد ، وأرسل صلاح الدين في غضون ذلك الرَّسائل إلى كبار أمراء امد يعدهم ، ويمنيهم ، ويتهدَّدهم؛ إن هم أصرُّوا على القتال. أدَّت هذه الظروف التي أحاطت بالسكان إلى التخاذل ، والتهاون في الدفاع ، فاضطر ابن نيسان إلى طلب الأمان له ، ولأهله ، وأن يمنحه صلاح الدين ثلاثة أيام لنقل أمواله ، وذخائره ، وبعد انقضاء هذه المدَّة تسلمها صلاح الدين في 10 محرم 570 هـ/16 أيار 1183 م ، وسلَّمها ، وأعمالها إلى نور الدين محمَّد ، وأمره بإقامة العدل ، وقمع الجور ، وأن يكون سامعاً مطيعاً للسُّلطان من معاداة الأعداء ، ومصافاة الخلاَّن في كلِّ وقت ، وأنَّه متى استمدَّ من امد لقتال الفرنج؛ وجده لذلك يقظان.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي: