السبت

1446-11-05

|

2025-5-3

- من كرم صلاح الدين:

والكرم لُباب الأخلاق الفاضلة، ومدارج الفضيلة، وُصِفَت الأخلاق به، وشرفت بالانتساب إليه، من باب إضافة الصِّفة للموصوف، فكُلُّ شيء يشرف في بابه يوصف به[1]، وعن أنس رضي الله عنه قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم أحسن النَّاس، وأجود الناس، وأشجع النَّاس[2]، وعن جابر رضي الله عنه قال: ما سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء قَطُّ، فقال: لا[3]، وقال الشافعي:


وقد اشتهر صلاح الدين بالكرم، ووزَّع ما احتوته قصور الفاطميين من جواهر وأموال على أمرائه وأصحابه، ولم يحتفظ لنفسه بشيء، وكان يَهَب الأقاليم، فعندما فتح آمد طلبها منه قرا أرسلان، فأعطاها إياه[6]، يُعطي في وقت الشدة كما يُعطي في وقت السَّعة.ولقد كان كرم السلطان صلاح الدين الأيوبي أظهر من أن يُسطَّر، وأشهر  مِن أن يُذكَر، لكن نُنَبِّه عليه جملة، وذلك أنه مَلَكَ ما مَلَك، ومات ولم يوجد في خزائنه من الفِضة إلا سبعة وأربعون درهمًا ناصرية، ومن الذهب إلا جرم واحدي صُوري[5].

وقال مرة - وهو يُعبِّر عن كرمه -: والله لو وهَبتُ الدنيا للقاصد الآمل، لما كنتُ أستكثرها له، ولو استفرغت له جميع ما في خزانتي، لما كان عِوضًا مما أراقه من حُرِّ ماء وجهه في استمناحه إياي[7].

وكان من شدة كرمه: أنه إذا علم أن في خزائنه مالًا، لا يستطيب تلك  الليلة حتى يفرِّق هذا المال جودًا، وإذا منح إنسانًا مالًا، ثم قيل له: إن هذا القدر لا يكفيه، زاده الضعف[8]، ولا يرى شيخًا إلا ويرقُّ له ويعطيه ويحسن إليه، وما أُحضر بين يديه يتيمٌ إلا وترحَّم على والديه، وجبَر قلبَه ومصابه وأعطاه، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه سلَّمه إليه، وإلا أبقى له من الخير ما يكفي حاجته، وسلَّمه إلى مَن يعتني بتربيته ويكفله.

وقد وصف العماد الأصفهاني كرمه، فقال: كان بإخراج ما يدخل من الأموال في المكرمات والغرامات مغرمًا، وكان يجود بالمال قبل الحصول، ويقطعه عن خزانته بالحوالات عن الوصول، فإذا عرَف بوصولِ حِمْلٍ، وقَّع عليه بأضعافه، وخصَّ الآحاد من ذوي الغَنَاء في الجهاد بآلافه، ولا جَبَهَ أحدًا بالرد إذا سأله، بل يلطف له كأنه استمهله ويقول: ما عندنا شيء الساعة[9].

ويعطي فوق ما يؤمِّل الطالب، ويبسط وجهه للمعطي بسط مَن لم يعطه شيئًا[10]، وقد قُدِّر ما وهبه من الخيل للحاضرين معه في الجهاد مدة ثلاث سنين - منذ أن نزل الفرنج على عكا في رجب سنة 585 هـ، إلى يوم انفصالهم بالسلم في شعبان سنة 588 هـ - باثني عشر ألف رأس من حصان وحِجْرٍ[11]، وإكديش طمر[12].

ويعلِّق ابن شداد على ذلك بقوله: ومَن شاهد عطاياه، يستقل هذا القدر، هذا بالإضافة إلى ما كان يطلقه من المال من أثمان الخيل المصابة في القتال؛ لأنه ما عُقر في سبيل الله فرسٌ أو جُرح إلا وعوَّض مالكَه بمثله، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب أو موعود به، وصاحبه ملازم في طلبه[13]، وقد توفي ولم يحفظ عنده ما يجب فيه الزكاة؛ لأن صدقة التطوع استنزفت جميعَ ما ملَكَه من الأموال.

 

وقد ملك ما مَلَك ولم يخلف في خزانته من الذهب والفِضة إلا سبعة وأربعين درهمًا، ودينارًا واحدًا ذهبًا، ولم يخلف دارًا ولا عقارًا، ولابستانًا ولا قرية، ولا مزرعة، ولا شيئًا من أنواع الأملاك، وهذا دليل واضح على شدة كرمه[14].

وقال القاضي ابن شداد: وسمعت منه يومًا يقول في معرض حديث جرى: يمكن أن يكون في الناس مَن ينظر إلى المال كمَن ينظر في التُّراب، فكأنه أراد بذلك نفسه[15].

اهتمام صلاح الدين بالجهاد:

كان صلاح الدين شديدَ المواظبة على الجهاد، عظيم الاهتمام به، ولو حلف حالفٌ أنه ما أنفق بعد خروجه إلى الجهاد دينارًا ولا درهمًا إلا في الجهاد أو في الإرفاد، لصدَق وبرَّ في يمينه، ولقد كان الجهاد وحبه والشغف به قد استولى على قلبه وسائر جوانحه استيلاءً عظيمًا؛ بحيث ما كان له حديث إلا فيه، ولا نظر إلا في آلته، ولا اهتمام إلا برجاله، ولا ميل إلا على من يذكره ويحث عليه، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهلَه وأولاده، ووطنه وسكنه، وسائر ملاذِّه[16].

 

وقنع مِن الدنيا بالسكون في ظل خيمة تهبُّ بها الرياح يمنة ويسرة، ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريح على مرج عكا، فلو لم يكن في البرج لقتلته، ولا يزيده ذلك إلا رغبة ومصابرة واهتمامًا، وكان الرجل إذا أراد أن يتقرب إليه يحثُّه على الجهاد أو يذكر شيئًا من أخبار الجهاد، ولقد أُلِّف له كتب عدة في الجهاد.

قال ابن شداد: وأنا ممن جمع له فيه كتابًا جمعتُ فيه آدابه وكل آية وردت فيه، وكل حديث رُوي فيه، وشرحتُ غريبها، وكان كثيرًا ما يطالعه حتى أخذه منه ولده الملك الأفضل.

وقال: ولأحكين عنه ما سمعته منه؛ وذلك أنه كان قد أخذ كوكبًا في ذي القعدة سنة أربع وثمانين وخمسمائة، وأعطى العساكر دستورًا، وأخذ عسكر مصر في العود إلى مصر، وكان مقدمه أخاه الملك العادل، فسار معه ليودِّعه ويحظى بصلاة العيد في القدس الشريف، وسرنا في خدمته، ولما صلَّى العيد في القدس، وقع له أنه يمضي معهم إلى عَسْقَلان ويودعهم بعسقلان، ثم يعود على طريق الساحل يتفقد البلاد الساحلية إلى عكَّا، ويرتب أحوالها، فأشاروا عليه ألا يفعل، فإن العساكر إذا فارقتنا نبقى في عدة يسيرة، والفرنج كلهم بصور، وهذه مخاطرة عظيمة، فلم يلتفت وودَّع أخاه والعسكر بعسقلان، ثم سرنا في خدمته على الساحل طالبين عكا، وكان الزمان شتاءً عظيمًا والبحر هائجًا هيجانًا شديدًا، وموجه كالجبال؛ كما قال الله تعالى، وكنت حديثَ عهد برؤية البحر، فعظُم أمر البحر عندي حتى خُيِّل إلي أنني لو قال لي قائل: إن جُزتَ في البحر ميلًا واحدًا ملَّكتُك الدنيا، لَما كنتُ أفعل، واستسخفت رأي مَن ركب البحر رجاءً لكسب دينار أو درهم، واستحسنت رأي مَن لا يقبل شهادة راكب بحر، هذا كله خطر لي؛ لعظم الهول الذي شاهدته من حركة البحر وتموجه، فبينما أنا في ذلك إذ التفت إليَّ رحمه الله وقال: أما أحكي لك شيئًا؟ قلت: بلى، قال: في نفسي أنه متى يسَّر الله تعالى فتح بقية الساحل قسَّمتُ البلاد، وأوصيت وودَّعتُ، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبَّعهم فيها؛ حتى لا أبقي على وجه الأرض من يكفر بالله أو أموت، فعظُم وقع هذا الكلام عندي؛ حيث ناقض ما كان يخطر لي، وقلت له: ليس في الأرض أشجع نفسًا من المولى، ولا أقوى نية منه في نُصرة دين الله، فقال: وكيف؟ فقلت: أما الشجاعة، فلأن مولانا ما يهوله أمرُ هذا البحر وهوله، وأما نُصرة دين الله، فهو أن المولى ما يقنع بقلع أعداء الله من موضع مخصوص في الأرض حتى تطهر جميع الأرض منهم...، ثم قلت: ما هذه إلا نية جميلة، ولكن المولى يُسيِّر في البحر العساكر، وهو سُور الإسلام ومنعته، لا ينبغي له أن يخاطر بنفسه، فقال: أنا أستفتيك: ما أشرف الميتات؟ فقلت: الموت في سبيل الله، فقال: غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتات[17].

ومن رسالة القاضي الفاضل إلى صلاح الدين وهو بالشام يريد الجهاد وطرد العدو من ديار المسلمين، ولكن أمورًا عاقت صلاح الدين عن المبادرة إلى الجهاد، فتألَّم السلطان لذلك ألَمًا شديدًا، فكتب إليه القاضي الفاضل يخفِّف عنه وَقْعَ هذا الألم، ومما كتبه إليه: وأما تأسُّف المولى على أوقات ينقضي عاطلها من الفريضة التي خرج من بيته لأجلها، ويجدد العوائق التي لا يوُصل إلى آخر حبلها، فللمولى نية رشده، أوَ ليس الله العالم بعبده؟ وهو سبحانه لا يَسْأل الفاعل عن تمام فِعْله؛ لأنه غير مقدور له، ولكن عن النية؛ لأنَّها محلُّ تكليفِ الطاعة، وعن مقدور صاحبها من الفعل بحسب الاستطاعة، وإذا كان المولى آخذًا في أسباب الجهاد وتنظيف الطُّرُق إلى المداد، فهو في طاعة قد امتنَّ الله عليه بطول أمدها، وهو منه على أصل في نجح موعدها، والثواب على قدر مشقته، وإنما عَظُم الحج لأجل جهده وبعد شُقته؛ ولو أنَّ المولى فتح الفتوح العظام في أقل الأيام، وفصل القضية بين أهل الإسلام وأعداء الإسلام؛ لكانت تكاليف الجهاد قد قُضيت، وصحائف البر المكتسبة بالمرابطة والانتظار طُويت[18].

 

[1] الأخلاق بين الطبع والتطبيع ص 157.
[2] البخاري رقم 3040.
[3] البخاري رقم 6034.
[4] الأخلاق بين الطبع والتطبيع ص 159.
[5] سيرة الناصر صلاح الدين؛ لابن شداد ص 70.
[6] سيرة الناصر صلاح الدين ص 70.
[7] تاريخ الأيوبيين في مصر؛ محمد سهيل طقوش ص 221.
[8] تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 221.
[9] الفتح القسي في الفتح القدسي ص 629.
[10] سيرة السلطان الناصر؛ لابن شداد ص 49.
[11] حجر: الأنثى من الخيل.
[12] الطمر: الفرس الجواد الطويل القوائم الخفيف أو المستعد للعدو.
[13] تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 222.
[14] تاريخ الأيوبيين في مصر وبلاد الشام ص 222.
[15] سيرة السلطان الناصر صلاح الدين ص 71.
[16] المصدر نفسه ص 76 .
[17] سيرة السلطان الناصر صلاح الدين ص 79.
[18] بيت المقدس والمسجد الأقصى، محمد سُرَّاب ص 112.
 المصدر: الإسلام اليوم 


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022