من عدل صلاح الدين:
كانت صفةُ العدل من أبرز صفات صلاح الدين الأيوبيِّ القيادية، وكان يؤمن بأن العدل أحدُ نواميس الله في كَوْنِه، وكان يقينُه بأن العدل ثمرةٌ من ثمرات الإيمان، وكان تعلَّم ذلك من أستاذه الكبير الذي جدَّد معلم العدل وسار عليه صلاح الدين، السلطان نور الدين محمود زنكي، فقد كان صلاح الدين عادلًا، ناصرًا للضعيف على القويِّ، وكان يجلس للعدل في كل يوم اثنينِ وخميسٍ في مجلس عامٍّ، يحضره الفقهاء والقضاة والعلماء، ويفتح الباب للمتحاكمين حتى يصل إليه كل أحد من كبير وصغير، وعجوز هرمة، وشيخ كبير، وكان يفعل ذلك سفرًا وحضرًا، على أنه كان في جميع أزمانه قابلًا لما يعرض عليه من القصص، كاشفًا لما ينتهي إليه من المظالم، وكان يجمع القصص في كل يوم، ويفتح باب العدل، ولم يردَّ قاصدًا للحوادث والحكومات، ثم يجلس مع الكاتب ساعة، إما في الليل أو النهار، ويوقع على كل قصة بما يُطلق الله على قلبه، ولم يردَّ قاصدًا أبدًا، ولا منتحلًا وطالب حاجة، وهو مع ذلك دائم الذكر والمواظبة على التلاوة، ولقد كان رؤوفًا بالرعيَّة، ناصرًا للدين، مواظبًا على تلاوة القرآن العزيز، عالِمًا بما فيه، عاملًا به، لا يعدوه أبدًا، رحمة الله عليه، وما استغاث به أحد إلا وقف وسمع قضيته، وكشف ظُلامته، وأخذ قصته.
ولقد استغاث إليه إنسان من أهل دمشق يقال له: ابن زُهير، على تقيِّ الدين ابن أخيه، فأنفذ إليه ليحضره إلى مجلس الحكم، فما خلَّصه إلى أن أشهد عليه شاهدين معروفين مقبولَيِ القول، أنه وكَّل القاضي أبا القاسم أمين الدين – قاضي حماة – في المخاصمة والمنازعة، فحضر الشاهدان، وأقاما الشهادة بعد دعوى الوكيل الوكالة الصحيحة، وإنكار الخصم، قال القاضي ابن شداد:فلما ثبتت الوكالة أمر أبا القاسم بمساواة الخصم فساواه – وكان من خواصِّ السلطان، رحمه الله – ثم جرت المحاكمة بينهما، واتَّجهت اليمين على تقيِّ الدين، وانقضى المجلس على ذلك، وقطعنا عن إحضاره دخول الليل، وكان تقيُّ الدين من أعزِّ الناس عليه، وأعظمهم عنده، ولكنه لم يُحابِه في الحق.
ومما يدُلُّ على عدله أنه كان يقف بجانب خَصمه أمام القضاء دون أن يرى في ذلك حرجًا أو غضاضة؛ لأن الحق في نظره أحقُّ أن يتَّبع، وقد حدث أن ادَّعى تاجر يدعى (عمر الخلاطي) على صلاح الدين أنه أخذ منه أحد مماليكه، ويدعى “سنقر”، واستولى على ما كان لهذا المملوك من ثروة طائلة بدون وجه حقٍّ، وعندما تقدَّم التاجر المدَّعي بظُلامته إلى القاضي ابن شداد، أظهر صلاح الدين حلمًا كبيرًا ورضي أن يقف موقف الخصم من صاحب الدعوى، وأحضر كلٌّ من الطرفين مَن لديه من شهود وما لديه من أدلَّة يثبت بها رأيه، حتى اتَّضح في النهاية – عند القاضي – كذبُ الرجل وادعاؤه الباطل على صلاح الدين، ومع كل هذا رفض صلاح الدين أن يترك المدَّعي يخرج من عنده خائبًا، فأمر له بخلعة ومبلغ من المال؛ ليدلِّل على كرمه في مواضع المؤاخذة مع القدرة.
ومما يَدُلُّ على عدله: سَهَرُه على مصالح الرعيَّة وإزالته بعض المكوس والضرائب؛ تخفيفًا عن الناس، ورفعًا للظلم عن كواهلهم، وقد ذكر ابن جبير من مناقب صلاح الدين وآثاره التي أبقاها ذكرًا جميلًا للدين والدنيا، وأنه أزال كثيرًا من المكوس والضرائب التي كانت مفروضة على الناس على كل ما يباع ويشترى، مما دقَّ أو جلَّ، حتى كان يؤدَّى على شرب ماء النيل المكس، فألغى صلاح الدين هذا كله.
وقد كانت هناك ضريبة قدرها سبعة دنانير ونصف، تفرض على كل حاج في طريقه إلى الحجاز لتعمير مكة والمدينة، ومساعدة الناس هناك، وقد اشتطَّ الفاطميون في جمع هذه الضرائب، ومن يعجِزُ عن دفعها يعذب عذابًا أليمًا، ولكن صلاح الدين ألغى ذلك المكس، واستعاض عنه بمعونة مالية تعادل قيمة ما يؤخذ من الحجاج تدفع كل عام لأهل الحجاز، وبذلك أراح الحجاج من عنت الجباة، ولا سيما أن نسبة كبيرة منهم كانوا فقراء لا يستطيعون دفع ما يؤخذ منهم، فكفى الله المؤمنين على يدي هذا السلطان العادل حادثًا عظيمًا وخطابًا أليمًا.
إن العدل أشرف أوصاف الملك وأقوم لدولته؛ لأنه يبعث على الطاعة ويدعو إلى الألفة، وبه تصلح الأعمال وتنمى الأموال، وتنتعش الرعية وتكمل المزَّية، وقد ندب الله عز وجل الخلق إليه وحثهم عليه.
من شجاعة صلاح الدين:
إن الشجاعة من أحمد الأوصاف التي يلزم الملك أن يتَّصف بها ضرورة، وأن تكون له طبعًا فيتطبع بها؛ ليحسم بهيبته موادَّ الأطماع المتعلقة بقلوب نظرائه، ويحصل منه حماية (البيضة ورعاية) المملكة والذب عن الرعية.
ولقد كان صلاح الدين – من عظماء الشجعان، قويَّ النفس، شديد البأس، عظيم الثبات، لا يهوله أمر، ولقد رأيته رحمه الله مرابطًا في مقابلة عدة عظيمة من الفرنج، ونُجُدُهم تتواصل، وعساكرهم تتواتر، وهو لا يزداد إلا قوة نفس وصبر، ولقد وصل في ليلة واحدة منهم نيِّف وسبعون مركبًا على عكَّا، وأنا أعدُّها من بعد صلاة العصر إلى غروب الشمس، وهو لا يزداد إلا قوة نفس، ولقد كان رحمه الله يعطي دستورًا في أوائل ويبقى في شرذمة يسيرة في مقابلة عدَّتهم الكثيرة.
يقول ابن شداد: وقد سألت باليان بن بارزان – وهو من كبار ملوك الساحل – وهو جالس بين يديه، رحمه الله، يوم انعقاد الصلح – عن عدتهم، فقال الترجمان عنه: إنه يقول: كنت وصاحب صَيْدا – وكان أيضًا من ملوكهم وعقلائهم – قاصدين عسكرنا من صُور، فلمَّا أشرفنا عليه تحازرناه، فحزره هو بخمسمائة ألف، وحزرتهم أنا بستمائة ألف، أو قال عكس ذلك، فقلتُ: فكم هلك منهم؟
فقال: أما بالقتل، فقريب من مائة ألف، وأما بالموت والغرق، فلا نعلم، وما رجع من هذا العالم إلا الأقل، وكان لا بد له من أن يطوف حول العدو في كل يوم مرة أو مرتين إذا كنا قريبًا منهم، وكان صلاح الدين إذا اشتد الحرب يطوف بين الصفن ومعه صبيٌّ واحد وعلى يده جنيب، ويخرق العساكر من الميمنة إلى الميسرة، ويرتِّب الأطلاب، ويأمرهم بالتقدُّم والوقوف في مواضع يراها، وكان يشارف العدوَّ ويجاوره.
قال ابن شداد: ولقد قرئ عليه جزء من الحديث بين الصفين، وذلك أني قلت له: قد سُمع الحديث في جميع المواطن الشريفة، ولم يُنْقل أنه سمع بين الصفين، فإن رأى المولى أن يؤثر عنه ذلك كان حسنًا، فأذِن في ذلك، فأُحضر جزءٌ وهناك أحضر مَن له به سماع، فقُرئ عليه ونحن على ظهور الدوابِّ بين الصفَّينِ، ونمشي تارة ونقف أخرى، وما رأيته استكثر العدوَّ أصلًا، ولا استعظم أمرهم قطُّ، وكان مع ذلك في حال الفكر والتدبير، يذكر بين يديه الأقسام كلها، ويرتِّب على كل قسم مقتضاه من غير حدَّة ولا غضب يعتريه رحمه الله، ولقد انهزم المسلمون في يوم المصافِّ الأكبر بمرج عكَّا، حتى القلب ورجاله، ووقع الكُوس والعَلَم، وهو رضي الله عنه ثابت القدم في نفر يسير قد انحاز إلى الجيل يجمع الناس ويردُّهم ويخجِّلهم حتى يرجعوا، ولم يزل كذلك حتى نُصر عسكر المسلمين على العدوِّ في ذلك اليوم، وقتل منهم زهاء سبعة آلاف ما بين راجل وفارس، ولم يزل مصابرًا لهم، وهم في العدة الوافرة، إلى أن ظهر له ضعفُ المسلمين، فصالح وهو مسؤول من جانبهم، فإن الضعف والهلاك كان فيهم أكثر، ولكنهم كانوا يتوقعون النجد، ونحن لا نتوقَّعها، وكانت المصلحة في الصُّلح، وظهر ذلك لما أبدت الأقضية والأقدار ما كان في مكنونها.
المصدر : بوابة القليوبية