تفصيل ابن القيم في أنواع القضاء والقدر والإرادة الإلهية
بقلم د. علي محمد الصلابي
يُعد الإمام ابن القيم من أعظم من عمّقوا النظر في قضايا العقيدة والقدر، وأبدعوا في تفصيل مراتب الإرادة الإلهية، والتمييز بين ما تعلّق منها بالخلق والكون، وما تعلّق منها بالدين والشرع. ففي كتابه "شفاء العليل"، فصّل في الفرق بين الإرادة الكونية التي لا يُمكن الخروج عنها، والإرادة الشرعية التي قد يُعصى فيها الأمر الإلهي، وهذا التمييز يُزيل كثيراً من اللبس عند تناول مسائل القدر، ويكشف عن عظمة الحكمة الإلهية في الأمر والنهي، وفي الهداية والخذلان، ونعرض هنا كلاماً حسناً لابن القيم في الخلق الكوني والأمر الشرعي.
قال ابن القيم في شفاء العليل، الباب التاسع والعشرون، في انقسام القضاء، والحكم، والإرادة، والكتابة، والإذن، والجعل، والكلمات، والبعث، والإرسال، والتحريم، والإنشاء: إلى كوني متعلق بخلقه، وإلى ديني متعلق بأمره وما يحقق ذلك من إزالة اللبس والإشكال.
هذا الباب متصل بالباب الذي قبله (1)، فما كان من كوني فهو متعلق بربوبيته وخلقه، وما كان من الديني فهو متعلق بإلاهيته وشرعه، وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه له الخلق والأمر، فالخلق قضاؤه وقدره وفعله، والأمر شرعه ودينه، فهو الذي خلق وشرع وأمر، وأحكامه جارية على خلقه قدراً وشرعاً، ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني والقدري.
أما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجار والفساق، والأمران غير متلازمين، فقد يُقضى ويُقدِّر ما لا يأمر به ولا شرعه، وقد يشرَّع ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدره، ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عباده وإيمانهم، وينتفي الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر، وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي في ما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور، وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي إذا عرف ذلك.
فالقضاء في كتاب الله نوعان:
ـ كوني قدري: كقوله:" فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ" (سبأ: 14) . وكقوله تعالى:" وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْحَقِّ" (الزمر: 75) .
ـ وشرعي ديني: كقوله تعالى:" وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُو اْإِلاَّ إِيَّاهُ" (الإسراء: 23) . أي: أمر وشرع ولو كان قضاء كونياً لما عبد غير الله.
والحكم أيضاً نوعان:
فالكوني: كقوله: " قَالَ رَبِّ احْكُم بِالْحَقِّ" (الأنبياء: 112). أي: افعل ما تنصر به عبادك، وتخذل به أعداءك.
والديني: كقوله: " ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ" (الممتحنة: 10). وقال تعالى:" إِنَّ اللّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ" (المائدة: 1).
وقد يرد بالمعنيين معاً كقوله:" وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا" (الكهف: 26)، فهذا يتناول حكمه الكوني وحكمه الشرعي.
والإرادة نوعان:
كونية: كقوله تعالى:" فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ" (البروج: 16). وقوله:" وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً" (الإسراء: 16). وقوله:" إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ" (هود: 34).
ودينية: كقوله تعالى:" يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ" (البقرة: 185). وقوله:" وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ" (النساء: 27). فلو كانت هذه الإرادة كونية لما حصل العسر لأحد منا، ولو وقعت التوبة من جميع المكلفين (2)، وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر والإرادة، هل متلازمتان أم لا؟
والصواب أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية، ولا يستلزم الإرادة الكونية، فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعاً وديناً، وقد يأمر بما لا يريده كوناً وقدراً، كإيمان من أمره ولم يوفقه للإيمان مراد له ديناً لا كوناً، وكذلك أمر خليله بذبح ابنه ولم يرده كوناً وقدراً، وأمر رسوله بخمسين صلاة ولم يرد ذلك كوناً وقدراً، وبين هذين الأمرين وأمر من لم يؤمن بالإيمان فرق، فإنه سبحانه لم يحب من إبراهيم ذبح ولده، وإنما أحب منه عزمه على الامتثال، وأن يوطن نفسه عليه، وكذلك أمره محمداً صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء بخمسين صلاة، وأما أمره من علم أنه لا يؤمن بالإيمان سبحانه يحب من عباده أن يؤمنوا به وبرسله، ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له، وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه، فلم تحصل مصلحة الأمر منهم، وحصلت من الأمر بالذبح (3).
المصادر والمراجع:
() من كتاب شفاء العليل، ابن القيم، انظر: الجامع الصحيح في القدر، مقبل الوادعي، ص 129.
(2) الجامع الصحيح في القدر، مقبل الوادعي، ص 131.
(3) المصدر نفسه، ص 131.
(4) الإيمان بالقضاء والقدر، علي محمد الصلابي، ط2، دار المعرفة، بيروت، 2011، ص 76-85.