في سيرة صلاح الدين الأيوبي
الرَّصيد الخلقي لصلاح الدين (2)
الحلقة: الثانية والثلاثون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
كرمه:
والكرم لباب الأخلاق الفاضلة ، ومدارج الفضيلة ، وُصِفَت الأخلاق به ، وشرفت بالانتساب إليه من باب إضافة الصِّفة للموصوف ، فكُلُّ شيء يشرف في بابه يوصف به ، وعن أنس ـ رضي الله عنه ـ قال: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم : أحسن النَّاس ، وأجود الناس ، وأشجع النَّاس. وعن جابر ـ رضي الله عنه ـ قال: ما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن شيءٍ ـ قَطُّ. فقال: لا. وقال الشافعي:
وإنْ كثُرت عيوبُك في البرايا
تستَّر بالسَّخَاء فكلُّ عَيْبٍ
وسَرَّك أن يكون لها غِطاءُ
يُغَطِّيه ـ كما قيل ـ السَّخاءُ
ولقد كان كرم السلطان صلاح الدين الأيوبي أظهر من أن يُسطَّر ، وأشهر من أن يُذكر ، لكن نُنَبِّه عليه جملة ، وذلك: أنه مَلَكَ ما ملك ومات؛ ولم يوجد في خزائنه من الفضة إلا سبعة وأربعون درهماً ناصرية، ومن الذهب إلا جُرم واحد صُوْري. وقد اشتهر صلاح الدين بالكرم، وزَّع ما احتوته قصور الفاطميين من جواهر، وأموال على أمرائه، وأصحابه، ولم يحتفظ لنفسه بشيءٍ ، وكان يهب الأقاليم ، فعندما فتح امد طلبها منه «قرا أرسلان» فأعطاها إياه. يُعطي في وقت الشدَّة كما يُعطي في وقت السَّعة. وقال مَرَّةً وهو يُعبِّر عن كرمه: والله لو وهَبْتُ الدنيا للقاصد الامل؛ لما كنت استكثرها له ، ولو استفرغتُ له جميع ما في خزانتي؛ لما كان عوضاً ممَّا أراقه من حُرِّ ماء وجهه في استمناحه إيايَّ.
وكان من شدَّة كرمه: أنَّه إذا علم أنَّ في خزائنه مالاً؛ لا يستطيب تلك الليلة؛ حتى يُفَرِّقَ هذا المال جوداً ، وإذا منح إنساناً مالاً ، ثم قيل له: إن هذا القدر لا يكفيه؛ زاده الضعف ولا يرى شيخاً إلا ويرق له ، ويعطيه ، ويحسن إليه ، وما أُحضر بين يديه يتيمٌ إلا وترحَّم على والديه ، وجبر قلبه ، ومصابه ، وأعطاه ، وإن كان له من أهله كبير يعتمد عليه؛ سلَّمه إليه ، وإلا أبقى له من الخير ما يكفي حاجته ، وسلَّمَه إلى من يعتني بتربيته ، ويكفلها.
وقد وصف العماد الأصفهاني كرمه ، فقال: كان بإخراج ما يدخل من الأموال في المكرمات ، والغرامات مغرماً. وكان يجود بالمال قبل الحصول ، ويقطعه عن خزانته بالحوالات عن الوصول ، فإذا عرف بوصول حِمْل؛ وقع عليه بأضعافه ، ولاجَبَهَ أحداً بالردِّ إذا سأله ، بل يلطف له كأنَّه استمهله ، ويقول ما عندنا شيء الساعة. ويعطي فوق ما يؤمِّل الطالب ، ويبسط وجهه للمعطي بسط من لم يعطه شيئاً، وقد قُدِّر ما وهبه من الخيل للحاضرين معه في الجهاد مدَّة ثلاث سنين منذ أن نزل الفرنج على عكَّا في رجب سنة 585هـ إلى يوم انفصالهم بالسِّلم في شعبان سنة 588هـ باثني عشر ألف رأس من حصان ، وحِجْرٍ ، وإكديش طِمِرٍّ. ويعلِّق ابن شداد على ذلك بقوله: ومن شاهد عطاياه؛ يستقل هذا القدر.
هذا بالإضافة إلى ما كان يطلقه من المال من أثمان الخيل المصابة في القتال؛ لأنه ما عُقر في سبيل الله فرسٌ ، أو جُرح؛ إلا وعوَّض مالكه بمثله ، ولم يكن له فرس يركبه إلا وهو موهوب ، أو موعود به ، وصاحبه ملازم في طلبه.
وقد توفي؛ ولم يحفظ عنده ما يجب فيه الزكاة؛ لأنَّ صدقة التطوع استنزفت جميع ما ملكه من الأموال. وقد ملك ما ملك ، ولم يخلف في خزانته من الذهب والفضة إلا سبعة وأربعين درهماً ، وديناراً واحداً ذهباً ، ولم يخلف داراً، ولا عقاراً ، ولا بستاناً ، ولا قرية ، ولا مزرعة ، ولا شيئاً من أنواع الأملاك. وهذا دليلٌ واضح على شدَّة كرمه. وقال القاضي ابن شدَّاد: وسمعت منه يوماً يقول في معرض حديثٍ جرى: يمكن أن يكون في الناس من ينظر إلى المال كمن ينظر في التُّراب. فكأنه أراد بذلك نفسه.
اهتمامه بالجهاد:
كان صلاح الدين شديد المواظبة على الجهاد ، عظيم الاهتمام به ، ولو حلفَ حالفٌ: أنه ما أنفق بعد به خروجه إلى الجهاد ديناراً ، ولا درهماً إلا في الجهاد ، أو في الإرفاد؛ لصدق ، وبرَّ في يمينه ، ولقد كان الجهاد ، وحبُّه ، والشَّغف به قد استولى على قلبه ، وسائر جوانحه استيلاءً عظيماً ، بحيث ما كان له حديثٌ إلا فيه ، ولا نظرٌ إلا في الته ، ولا اهتمامٌ إلا برجاله ، ولا ميلٌ إلا على من يذكره ، ويحثُّ عليه ، ولقد هجر في محبة الجهاد في سبيل الله أهلَه ، وأولاَدَه ، ووطنَه ، وسكنَه ، وسائر ملاذِّه ، وقنع من الدنيا بالسُّكون في ظل خيمة تهبُّ بها الرياح يمنةً ، ويسرةً. ولقد وقعت عليه الخيمة في ليلة ريح على مرج عكَّا ، فلو لم يكن من البرج ، وإلا؛ قتلته ، ولا يزيده ذلك إلا رغبةً ، ومصابرةً ، واهتماماً. وكان الرَّجل إذا أراد أنْ يتقرب إليه؛ يحثُّه على الجهاد ، أو يذكر شيئاً من أخبار الجهاد ، ولقد ألِّف له كتب عدَّة في الجهاد. قال ابن شداد: وأنا مِمَّن جمع له فيه كتاباً ، جمعتُ فيه آدابه ، وكلَّ اية وردت فيه ، وكلَّ حديثٍ رُوي فيه ، وشرحتُ غريبها ، وكان كثيراً ما يطالعه؛ حتى أخذه منه ولده الملك الأفضل.
وقال: ولأحكين عنه ما سمعته منه ، وذلك: أنَّه كان قد أخذ كوكب في ذي القعدة سنة أربع وثمانين وخمسمئة ، وأعطى العساكر دستوراً ، وأخذ عسكرُ مصر في العود إلى مصر ، وكان مقدَّمه أخاه الملك العادل ، فسار معه ليودِّعه ، ويحظى بصلاة العيد في القدس الشريف ، وسرنا في خدمته ، ولما صلَّى العيد في القدس؛ وقع له: أنه يمضي إلى عَسْقلان ، ويودعهم بعسقلان ، ثم يعود على طريق السَّاحل ، يتفقد البلاد السَّاحلية إلى عكَّا ، ويرتِّب أحوالها ، فأشاروا عليه ألاَّ يفعل ، فإنَّ العساكر إذا فارقتنا؛ نبقى في عدَّة يسيرة ، والفرنج كلُّهم بصور ، وهذه مخاطرةٌ عظيمة. فلم يلتفت ، وودَّع أخاه ، والعسكر بعسقلان ، ثم سرنا في خدمته على السَّاحل طالبين عكَّا ، وكان الزمان شتاءً عظيماً ، والبحر هائجاً هيجاناً شديداً ، وموجه كالجبال ، كما قال الله تعالى ، وكنت حديثَ عهدٍ برؤية البحر ، فعظم أمر البحر عندي حتى خُيِّل إلي أنني لو قال لي قائل إن جُزتَ في البحر ميلاً واحداً ملَّكتك الدُّنيا؛ لما كنت أفعل ، واستسخفتُ رأي من ركب البحر رجاءً لكسب دينارٍ ، أو درهم ، واستحسنت رأي من لا يقبل شهادة راكب بحرٍ. هذا كله خطر لي لعظم الهول الذي شاهدته من حركة البحر ، وتموُّجه ، فبينما أنا في ذلك؛ إذ التفت إليَّ ـ رحمه الله ـ وقال: أما أحكي لك شيئاً؟ قلت: بلى! قال: في نفسي: أنَّه متى يسرَّ الله تعالى فتح بقية السَّاحل؛ قسَّمتُ البلاد ، وأوصيت ، وودَّعتُ ، وركبت هذا البحر إلى جزائرهم أتتبَّعهم فيها حتى لا أبقي على وجه الأرض مَنْ يكفر بالله ، أو أموت.
فعظمُ وقع هذا الكلام عندي؛ حيث ناقض ما كان يخطر لي ، وقلت له: ليس في الأرض أشجع نفساً من المولى ، ولا أقوى نيَّةً منه في نُصرة دين الله! فقال: وكيف؟ فقلت: أما الشجاعة؛ فلأن مولانا ما يهوله أمر هذا البحر ، وهوله. وأما نُصرة دين الله؛ فهو أنَّ المولى ما يقنع بقلع أعداء الله من موضعٍ مخصوصٍ في الأرض ، حتى تطهر جميع الأرض منهم! ثم قلت: ما هذه إلا نيَّةٌ جميلة ، ولكن المولى يُسيِّر في البحر العساكر ، وهو سُور الإسلام، ومنعته لا ينبغي له أن يخاطر بنفسه! فقال: أنا أستفتيك: ما أشرف الميتات؟ فقلت: الموت في سبيل الله. فقال غاية ما في الباب أن أموت أشرف الميتات!.
ومن رسالة القاضي الفاضل إلى صلاح الدين وهو بالشام يريد الجهاد ، وطرد العدو من ديار المسلمين؛ ولكنَّ أموراً عاقت صلاح الدين عن المبادرة إلى الجهاد ، فتألم السُّلطان لذلك ألماً شديداً ، فكتب إليه القاضي الفاضل يخفِّف عنه وَقْعَ هذا الألم ، ومما كتبه إليه: وأما تأسُّف المولى على أوقات ينقضي عاطلها من الفريضة؛ التي خرج من بيته لأجلها ، ويجدِّد العوائق؛ التي لا يوصل إلى اخر حبلها؛ فللمولى نيّة رشده. أو ليس الله العالم بعبده ، وهو سبحانه لا يَسْأل الفاعل عن تمام فِعْله؛ لأنه غير مقدور له ، ولكن عن النية؛ لأنَّها محلُّ تكليفِ الطاعة ، وعن مقدور صاحبها من الفعل بحسب الاستطاعة. وإذا كان المولى اخذاً في أسباب الجهاد ، وتنظيف الطُّرُق إلى المداد؛ فهو في طاعة قد امتنَّ الله عليه بطول أمدها ، وهو منه على أصلٍ في نُجْح موعدها ، والثواب على قدر مشقَّته ، وإنما عَظُم الحجُّ لأجل جهده ، وبعد شُقَّته؛ ولو أنَّ المولى فتح الفتوح العظام في أقلِّ الأيام؛ وفصل القضية بين أهل الإسلام ، وأعداء الإسلام؛ لكانت تكاليف الجهاد قد قضيت ، وصحائف البِرِّ المكتسبة بالمرابطة ، والانتظار قد طُويت.
حِلْمُه:
فالحلم اية حسن الخلق ، وعنوان عُلُوِّ الهمَّة ، فهو من أشرف الأخلاق ، وأحقِّها بذوي الألباب؛ لما جعل الله فيه من الطُّمأنينة ، والسَّكينة ، والحلاوة ، وسلامة العرض ، وراحة الجسد ، واجتلاب الحمد ، ورفعة النفس عن تشفِّيها بالانتقام؛ فلا ينبل الرَّجُل حتى يكون متخلقاً بهذا الخلق العظيم. قال تعالى: {خُذِ ٱلۡعَفۡوَ وَأۡمُرۡ بِٱلۡعُرۡفِ وَأَعۡرِضۡ عَنِ ٱلۡجَٰهِلِينَ ١٩٩} [الأعراف: 199] .
وقال الشاعر:
صفوحٌ عن الإجرام كأنَّه
وليس يُبالي أن يكون به الأذى
من العفو لم يعرف من النَّاس مجرماً
إذا ما الأذى لم يغشَ بالكُرْهِ مسلماً
فقد كان السلطان صلاح الدين الأيوبي حليماً ، وكثيراً ما يعفو عن أصحاب الذُّنوب ، حسن الخلق ، صبوراً على ما يكره ، كثير التغافل عن ذنوب أصحابه ، يسمع من أحدهم ما يكره ، ولا يعلمه بذلك ، ولا يتغيَّر عليه. وكان يوماً جالساً ، فرمى بعض المماليك بعضاً بسرموزه ـ أي: حذائه ـ فأخطأته ، ووصلت إلى السُّلطان ، ووقعت بالقرب منه ، فالتفت إلى الجهة الأخرى يتغافل عنها. وقال القاضي شهاب الدين: نفرتْ بغلتي يوماً من الجِمال ، وأنا راكبٌ في خدمته، فزحمت ركبته؛ حتى أقلقته من الوجع؛ وهو يبتسم. وكذلك سرق من خزانته كيسان من الذهب المصري ، وأبدلا بكيسين من الفلوس ، فلم يعمل للمباشرين سوى صرفهم.
قال القاضي ابن شدَّاد: ولقد كنت في خدمته بمرج عيون قبل خروج الإفرنج إلى عكَّا ، وكان من عادته أن يركب في وقت الرُّكوب. ثم ينزل ، فيُمدُّ الطعام ، ويأكل مع الناس ، ثم ينهض إلى خيمة خاصَّةٍ له ينام فيها ، ثم يستيقظ من منامه ، ويصلِّي ، ويجلس خلوة ، وأنا في خدمته ، نقرأ شيئاً من الحديث ، أو شيئاً من الفقه ، ولقد قرأ عليَّ كتاباً مختصراً لسليم الرَّازي ، يشتمل على الأرباع الأربعة في الفقه ، فنزل يوماً على عادته ، ومُدَّ الطعام بين يديه ، ثم عزم على النهوض ، فقيل له: إنَّ وقت الصلاة قد قرب ، فعاد إلى الجلوس. وقال: نصلِّي ، وننام ، ثم جلس يتحدَّث حديث متضجِّر ، وقد أُخلي المكان إلا ممَّن لزم ، فتقَدَّم إليه مملوكٌ كبير محترم عنده ، وعرض عليه قِصَّةً لبعض المجاهدين ، فقال له: أنا الان ضجران ، أخِّرها ساعةً ، فلم يفعل ، وقَدَّم القصَّة إلى قريبٍ من وجهه الكريم بيده ، وفتحها بحيث يقرأها ، فوقف على الاسم المكتوب في رأسها ، فعرفه ، فقال: رجلٌ مُستحقٌ. فقال: يوقِّع له المولى ، ها هي. فقال: ليست الدَّواة حاضرةً الان ، وكان جالساً في باب الخَرْكاه بحيث لا يستطيع أحدٌ الدخول إليها ، والدَّواة في صدرها ، فقال له المُخاطب: هذه الدَّواة في صدر الخَرْكَاه! وليس لهذا معنى إلا أمره إيَّاه بإحضار الدواة لا غير ، فالتفت فرأى الدَّواة ، فقال: والله لقد صَدَق. ثم امتدَّ على يده اليسرى ، ومدَّ يده اليمنى فأحضرها ، ووقَّع له. فقلت: قال الله تعالى في نبيه صلى الله عليه وسلم : {وَإِنَّكَ لَعَلَىٰ خُلُقٍ عَظِيمٖ ٤} [القلم: 4] . وما أرى المولى إلا قد شاركه في هذا الخلق ، فقال: ما ضَرَّنا شيءٌ ، قضينا حاجته ، وحصل الثواب! ولو وقعت هذه الوقعة لاحاد الناس ، وأفرادهم؛ لقام ، وقعد. ومن الذي يقدر أن يخاطب أحداً هو تحت حكمه بمثل ذلك؟! وهذا غاية الإحسان ، والحِلْم ، والله لا يضيع أجر المحسنين.
لقد كان صلاح الدين يسمع من المستغثين إليه ، والمتظلِّمين أغلظ ما يمكن أن يسمع ، ويلقى ذلك بالبِشْر، والقبول. وهذه حكايةٌ يندر أن يُسطَّر مثلها ، وذلك: أنه كان قد اتجه أحد ملوك الإفرنج ـ خذلهم الله ـ إلى يافا، فإنَّ العسكر كان قد رحل عنهم ، وبَعُدَ ، وتراجع إلى النَّطرون ، وهو مكان بينه وبين يافا للعسكر مرحلتان للمُجِدِّ ، وثلاث معتادة ، وجرد العسكر ، ومضى إلى قيسارية يتلقَّى نجدتهم ، عساه يبلغ منها غرضاً ، وعلم الإفرنج الذين كانوا بيافاً ذلك ، وكان بها الأنكتار ، ومعه جماعة ، فجَّهز معظم من كان عنده في الرَّكب إلى قيسارية ، خشيةً على النَّجدة أن يتمَّ عليها أمر ، وبقي الأنكتار في نفرٍ يسيرٍ لعلمهم ببعده عنهم ، وبُعد العسكر ، ولما وصل ـ صلاح الدين ـ إلى قَيْسَاريَّة ، ورأى النَّجدة قد وصلت إلى البلد ، واحتمت به ، وعلم: أنه ما ينال منهم غرضه؛ سرى من ليلته من أوَّل الليل إلى اخره حتى أتى يافا صباحاً ، والأنكتار في سبعة عشر فارساً ، وتقدير ثلاثمئة راجل ، نازلاً خارج البلد في خيمةٍ له ، فصبَّحه العسكر صباحاً ، فركب الملعون ، وكان شجاعاً باسلاً صاحب رأي في الحرب ، وثبت بين يدي العسكر ، ولم يُدخلها البلد ، فاستدار العسكر الإسلامي إليهم إلا من جهة البلد ، وتعبَّى العسكر تعبية القتال ، وأمر السُّلطان العسكر بالحملة ، وانتهاز الفرصة ، فأجابه بعض الأكراد الأمراء بكلام فيه خشونة ، حاصلة تعتَّبُ؛ لعدم التوفير في إقطاعه ، فعطف عنان فرسه كالمغُضَبَ؛ لعلمه: أنهم لا يعملون في ذلك اليوم شيئاً ، وتركهم ، وانصرف راجعاً ، وأمر بخيمته التي كانت منصوبةً أن قُلعت ، وانفضَّ الناس عن العدوّ ، متيقِّنين: أن السلطان في ذلك اليوم ربما صلب ، وقتل جماعة.
ولم يزل السُّلطان ـ سائراً حتى نزل بيازور ، وهي مرحلةٌ لطيفة ، فضرُبت له خيمة لطيفة هنالك ، ونزل بها ، ونزل العسكر في منازلهم تحت صايوانات لطيفة ، كما جرت العادة في مثل ذلك الوقت ، وما من الأمراء إلا من يرعد خيفةً ، ومن يعتقد: أنه مأخوذ مسخوطٌ عليه. قال: ولم تحدَّثني نفسي بالدخول عليه خيفةً؛ حتى استدعاني. قال: فدخلت عليه؛ وقد وصله من دمشق المحروسة فاكهةٌ كثيرة ، فقال: اطلبوا الأمراء؛ حتى يأكلوا شيئاً. قال: فسُرِّي عنِّي ما كنت أجده ، وطلبتُ الأمراء ، فحضروا؛ وهم خائفون ، فوجدوا مِنْ بشره ، وانبساطه ما أحدث لهم الطُّمأنينة ، والأمن ، والسُّرور ، وانصرفوا عنه على عزم الرَّحيل ، كأن لم يجر شيءٌ أصلاً.
ولم يكن حلمه ـ رحمه الله ـ قاصراً على أتباعه ، ورعيته ، وجنده ، وإنما تعدَّى ذلك إلى الأعداء ، الذين كانوا يحاربونه ، ويحاربهم ، كما سيأتي بيانه بإذن الله تعالى.
يمكنكم تحميل كتاب صلاح الدين الأيوبي وجهوده في القضاء على الدولة الفاطمية وتحرير بيت المقدس
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي:
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/66.pdf