الإثنين

1447-05-12

|

2025-11-3

التكريم المعنوي والمادي لبني آدم في القرآن الكريم

بقلم: د. علي محمد الصلابي

 

إن الله عز وجل كرّم الإنسان وخصّ بني آدم بالتكريم المعنوي والمادي، وجعله أفضل الخلائق وأعلاها شأناً، قال المولى عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾ [سورة الإسراء: 70]. وقال تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ﴾[التين‏: 4]. وجاء في الجامع لأحكام القرآن للقرطبي رحمه الله: (في أحسن تقويم وهو اعتداله واستواء شبابه كذا قال عامة المفسرين. وهو أحسن ما يكون، لأنه خلق كل شيء منكباً على وجهه، وخلقه هو مستوياً، وله لسان ذلق ويد وأصابع يقبض بها. وقال أبو بكر بن طاهر: مزيناً بالعقل، مؤدياً للأمر، مهدياً بالتمييز، مديد القامة يتناول مأكوله بيده. وقال ابن العربي: ليس لله تعالى خلق أحسن من الإنسان، فإن الله خلقه حياً عالماً ، قادراً مريداً متكلماً، سميعاً بصيراً، مدبراً حكيماً، وهذه صفات الرب سبحانه ، وعنها عبر بعض العلماء ، ووقع البيان بقوله : "إن الله خلق آدم على صورته"، يعني على صفاته التي قدمنا ذكرها. فهذا يدلك على أن الإنسان أحسن خلق الله باطناً وظاهراً، ولذلك قالت الفلاسفة: إنه العالم الأصغر إذ كل ما في المخلوقات جمع فيه) (1).

وإن الله تعالى سخر لهذا الإنسان جميع ما في الكون من المخلوقات والمقدرات والنعم والوسائل، قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا﴾ [ سورة البقرة: 29]، وعلق الإمام السعدي على هذه الآية مفسراً بقوله: " أي: خلق لكم، براً بكم ورحمة، جميع ما على الأرض للانتفاع والاستمتاع والاعتبار. وفي هذه الآية العظيمة دليل على أن الأصل في الأشياء الإباحة والطهارة، لأنها سيقت في معرض الامتنان، يخرج بذلك الخبائث، فإن تحريمها أيضاً يؤخذ من فحوى الآية ومعرفة المقصود منها، وأنه خلقها لنفعنا، فما فيه ضرر فهو خارج من ذلك، ومن تمام نعمته منعنا من الخبائث تنزيهاً لنا". وقال سبحانه في دلالة على نفس المعنى: ﴿ وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ [ الجاثية: 13].

وتكررت كثيراً مواضع ودلالات تسخير الكون وكل ما فيه للإنسان وذريته، قال تعالى: ﴿الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَّكُمْ ۖ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَادًا وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ [ سورة البقرة: 22]، ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ۚ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَٰلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ ۚ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ [ سورة يونس: 5]، ﴿ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ ۖ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ ۗ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ [ النحل: 12].

هذا عن التكريم المادي أما عن التكريم المعنوي، فقد بلغ من مكانة هذا الإنسان عند الخالق سبحانه أن الله تعالى خلق آدم عليه السلام بيده ونفخ فيه من روحه وأمر الملائكة بالسجود له، وحكم على من أبى السجود – إبليس لعنه الله - بالطرد من رحمته إلى يوم الدين وتوعده بالعذاب الأليم، وهذا منتهى التكريم والتشريف لآدم وذريته، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ ** فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ﴾ [الحجر: 71-72]، وقال عز وجل: ﴿وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنْ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 34]. ولم يكن القصد من سجود الملائكة لآدم عليه السلام عبادة آدم بذلك السجود، وذلك بإجماع المسلمين، وإنما كان الغرض منه تنفيذ أمر الله طاعةً له فيما أمر، وإكراماً لآدم به، وإظهاراً لفضله، وتنويهاً بمكانته عند الله (2).

ومن مظاهر التكريم التي منّ الله تعالى بها على بني آدم، هي أنه خلقهم على الفطرة السليمة النقية دينياً وأخلاقياً، ففطرهم على عبادة الله وحده وإخلاص الدين له، والاستعداد الفطري للحق وقبوله، والاندفاع النفسي التلقائي لمكارم الأخلاق، قال تعالى: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا ۚ فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ۚ لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ۚ ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾ [ سورة الروم: 30]، الفطرة هنا هي الخلقة السليمة التي خلق عليها الإنسان، والتي تجعله يشعر بوحدانية الله في صفاء، وهو مطمئن بمعرفته وتوحيده، يدفعه صفائها ونقائها إلى حب الخير كله والرغبة في عبودية الله وحده في علاه، وأنه الخالق المستحق للعبادة وحده دون سواه، مع رغبة في فعل الخير والبعد عن الشر في توجه صادق مخلص لله يحقق الصفاء الروحي والاطمئنان القلبي والسعادة الكاملة للإنسان (3). والفطرة غراس رباني جبلي يملكه كل إنسان، وحرص آدم عليه السلام على سلامة فطرة أولاده وذريته وخيريتها وعمل على حمايتها من الفساد والضلالات بهدايات السماء، وأساس الفطرة هو توحيد الله عز وجل وجذور هذه المعرفة عميقة في النفس ولا سبيل إلى إنكارها أو التخلص منها (4). وأكد رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجود هذه الفطرة التي يخلق عليها كل إنسان، وذلك في قوله صلى الله عليه وسلم: "مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ"، ويقول صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي عن الله تعالى: "خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ فجاءتهم الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ فطرتهم، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بي مَا لَمْ أُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا".

 

المصادر والمراجع:

1. القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، 20/ 114، مع تصرف بسيط.

2. علي محمد الصلابي، قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام، الطبعة الأولى، دار ابن كثير، دمشق، 2020، ص 436.

3. علي خميس الغامدي، الإنسان الصالح وتربيته من منظور إسلامي، دار طيبة الخضراء، مكة المكرمة، ط1، 1424ه-2003م، 332.

4. محمد شديد، منهج القرآن الكريم في التربية، مكتبة الآداب للطباعة والنشر والتوزيع، 1998م،


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022