تأثير السبب في المسبب... ذلك بمشيئة وقدرة الله تبارك وتعالى
د. علي محمد الصلابي
الحلقة: الحادية عشر
شعبان 1441ه/ أبريل 2020م
إنَّ الذي عليه السلف وأتباعهم وأئمة أهل السنة وجمهور أهل الإسلام المثبتون للقدر إثبات الأسباب، وأنَّ قدرةَ العبدِ مع فعله لها تأثيرٌ كتأثير سائر الأسباب في مسبباتها، والله تعالى خلقَ الأسباب والمسبّبات، والأسبابُ ليست مستقلّةً بالمسببات، بل لا بدَّ لها من أسبابٍ أُخر تعاونها، ولها مع ذلك أضدادٌ تمانعها، والمسبَّبُ لا يكونُ حتّى يخلقَ الله جميعَ أسبابه، ويدفع عنه أضداده المعارضة له، وهو سبحانه يخلق جميع ذلك بمشيئته وقدرته، كما يخلق سائرَ المخلوقات، فقدرةُ العبدِ سببٌ من الأسباب، وفعلُ العبدِ لا يكونُ بها وحدَها، بل لا بدَّ من الإرادة الجازمة مع القدرة.
ولا قال أحدٌ من أئمة المسلمين، لا الأئمة الأربعة ولا غيرهم ولا مالك، ولا أبو حنيفة ولا الشافعي ولا أحمد بن حنبل، ولا الأوزاعي، ولا الثوري، ولا الليث، ولا أمثال هؤلاء: إنَّ اللهَ يكلِّفُ العبادَ ما لا يطيقونه، ولا قال أحدٌ منهم: إنَّ قدرة العبد لا تأثيرَ لها في فعله، أو لا تأثيرَ لها في كسبه، ولا قال أحد منهم: إنّ العبدَ لا يكونُ قادراً إلا حين الفعل، وإنّ الاستطاعة على الفعل لا تكونُ إلا معه، وإنّ العبدَ لا استطاعةَ له على الفعل قبل أن يفعله، بل نصوصُهم مستفيضةٌ بما دلَّ عليه الكتاب والسنة من إثباتِ استطاعة لغيرِ الفاعل، كقوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً﴾[آل عمران: 97]، وقوله تعالى: ﴿فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً﴾[المجادلة: 4]، وقول النبيِّ صلى الله عليه وسلم لعمران ابن حصين: «صلِّ قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإنْ لم تستطعْ فعلى جَنْبٍ».
والمقصودُ بتأثير السبب في المسبب، أنَّ خروجَ الفعل من العدم إلى الوجود كان بتوسط القدرة المحدَثة، بمعنى أنَّ القدرة المخلوقة هي سببٌ وواسطةٌ في خلق الله سبحانه وتعالى الفعل بهذه القدرة، كما خلق النبات بالماء، وكما خلق الغيثَ بالسحاب، وكما خلق جميعَ المسببات والمخلوقات بوسائط وأسباب، فهذا حقٌّ، وهذا شأن جميع الأسباب والمسببات، وليس إضافةُ التأثير بهذا التفسير إلى قدرة العبد شركاً، وإلا يكونُ إثباتُ جميع الأسبابِ شركاً، وقد قال الحكيم الخبير: ﴿فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ﴾[المؤمنون: 57]، وقال تعالى: ﴿فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ﴾[المؤمنون: 60]، وقال تعالى: ﴿قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ﴾[الأنفال: 14].
كما أنَّ تأثيرَ العبدِ في فعله يتوقَّفُ على تحقيق الشرط، وانتفاءِ المانع، فإذا فُسِّرَ التأثيرُ بوجودِ شرطِ الحادث أو سببٍ يتوقّف حدوثُ الحادثِ به على سببٍ اخر، وانتفاءِ موانعَ. وكلُّ ذلك بخلقِ الله تعالى، فهذا حقٌّ، وتأثيرُ قدرةِ العبدِ في مقدورها ثابتٌ بهذا الاعتبار، وإنْ فُسِّرَ التأثيرُ بأن المؤثِّر مستقلٌّ بالأثر من غير مشارك معاونٍ ولا معاوقٍ مانعٍ فليس شيءٌ من المخلوقات مؤثراً، بل الله وحدَه خالقُ كلِّ شيءٍ لا شريك له ولا ندَّ له، فما شاء الله كان، وما لم يشأ لم يكن. يقول تعالى: ﴿مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ﴾[فاطر: 2]، وقال تعالى: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لاَ يَمْلِكُونَ﴾ ﴿مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ * وَلاَ تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ﴾[سبأ: 22 ـ 23]، وقال تعالى: ﴿قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ *﴾[الزمر: 38]، ونظائر هذا في القرآن كثيرة.
إنَّ من الأسباب ما يعرفه كلُّ إنسان بفطرته، مثل الوطء سبب الولد، وإلقاءُ البذورِ سببٌ للزرع، والأكلُ سببٌ للشبع، وشربُ الماء سببٌ للري.
ومن الأسباب ما يجادِلُ فيه بعضُ الناس، مثل اتّباعِ شرعِ الله سببٌ للسعادة في الدنيا والاخرة، والخروجُ على هذا الشرع سببٌ للشقاوة في الدنيا والاخرة، والدعاءُ سببٌ لدفع المكروه ونوالِ المطلوبِ.
ومن الأسباب ما يخفى على كثيرٍ من الناس مثل أسباب الأحداث الاجتماعية، وما يصيبُ الأمم من عزٍّ وذلٍّ، وتقدّم وتأخّر، ورخاء وشدّة، وهزيمة وانتصار، ونحو ذلك، فهذه الأحداثُ لها أسبابها التي تستدعي هذه النتائج، ولا يمكن تخلّف هذه النتائج إذا انعقدت أسبابُها، فهي كالأحداث الطبيعية من تجمّد الماء وغليانه، ونزول المطر، فهذه أحداثٌ لها أسبابها التي قدّرها الله، فمتى تحققت هذه الأسبابُ تحققت هذه الأحداث، وكلُّ الفرق بينها وبين الأحداث الاجتماعية أنَّ الأُولى أسبابها منضبطةٌ، ويمكن معرفةُ حصولِ أكثرها إذا عرفتَ أسبابَها، أمّا الثانية ـ أي الأحداث الاجتماعية ـ فإنّ أسبابَها كثيرةٌ جداً، ومتشابكةٌ، ويصعبُ الجزمُ بوقتِ حصولِ نتائجها، وإنْ أمكنَ الجزمُ بحصولِ هذه النتائج.
والشرع دلّنا على هذا القانون العام قانونُ السبب والمسبب في نصوص كثيرة والمقصودُ أنَّ ما قدّره الله وقضاه إنّما قدّره بأسبابٍ، فمن أرادَ الحصول على نتيجة معينة فلا بدَّ من مباشرة السبب المفضي إليها.
وما ذهب إليه العلماء المحقّقون في فاعليةِ السبب في مسبّبه بإذن الله تعالى هو ما يتّفق مع ظاهرِ النصوصِ القرآنية والأحاديثِ النبويّة الصحيحة، وهو المنهجُ الوسط، والطريقُ الأسد في إعمالِ النصوص كلِّها على وجهِ الجمعِ دون الاقتصارِ على بعضِها، وهذا ما ذكرناه، هو ما ذهبَ إليه السلفُ الصالح، وتلقّاه أهل العلم بالقبول.
ولا يخفى أنّ اعتناقَ هذا الرأي يفسحُ الطريقَ أمام القيام بأعباء خلافة الإنسان في الأرض، والتفكّر في سنن الله في الخلق، وتوطئة للوقوف على أسبابها ونتائجها، ومن ثَمَّ التفاعل مع معطياتها بما يحقّق إناطة تحمّل المسؤولية بالمكلّفين في الدنيا والاخرة، وهو الأمرُ الذي يوسّع ويثري مِنْ دائرة الدراسات الاجتماعية والنفسية والأخلاقية وِفْقَ المنهج الإسلامي، مما يعيد لهذه الأمة شهودَها الحضاري، ووسطيتها الشاملة التي ضَمِنَها لها الشرعُ الشريفُ في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا﴾[البقرة: 143]، وبذلك تعودُ الأمة إلى أصولها وخيريتها ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَةٍ أُخْرِجَتْ﴾ ﴿لِلنَّاسِ﴾[ال عمران: 110]، وبالأحرى تتخلّص من تبعيتها للثقافات الوافدة التي ترزح تحت وطأتها إلى يومنا هذا، رغم عدم انسجامها مع معطيات الشرع وحقائق الفطرة.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا عدوى، ولا طيرة، ولا هامة ولا صفر»:
وشرح هذا الحديث أن: «العدوى» انتقالُ المرضِ من المريضِ إلى الصحيحِ، وكما يكونُ في الأمراض الحسية يكونُ في الأمراض المعنوية الخُلقية، ولهذا أخبر النبيُّ صلى الله عليه وسلم أنَّ جليسَ السوءِ كنافخ الكير، إمّا أن يحرقَ ثيابك، وإمّا أن تجدَ منه رائحةً كريهة، فقوله صلى الله عليه وسلم «لا عدوى» يشمل العدوى الحسية والمعنوية. «والطيرة» هي التشاؤم بمرئي أو مسموعٍ أو معلومٍ.
«والهامة» فُسّرت بتفسيرين:
الأول: داءٌ يصيبُ المرضى، وينتقل إلى غيرهم، وعلى هذا التفسير يكون عطفها على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثاني: طيرٌ معروفٌ تزعم العرب أنّه إذا قُتلَ القتيلُ فإنّ هذه الهامة تأتي إلى أهلـه، وتنعقُ على رؤوسهم، حتى يـأخذوا بثأره، وربّما اعتقد بعضُهم أنها روحـه تكونُ في صورة الهامة، وهي نوعٌ من الطيور تشبه البومة، أو هي البومة، تؤذي أهلَ القتيلِ بالصراخ حتى يأخذوا بثأره، وهم يتشاءمون بها، فإذا وقعتْ على بيتِ أحدهم ونعقت قالوا: إنها تنعق به ليموتَ، ويعتقدون قربَ أجلهِ، وهذا باطلٌ.
«وصفر»: فسر بتفاسير:
الأول: أنّه شهرُ صفر المعروف، والعرب يتشاءمون به.
الثاني: أنّه داءٌ في البطن، يصيب البعير، وينتقل من بعيرٍ إلى اخر، فيكونُ عطفه على العدوى من باب عطف الخاص على العام.
الثالث: المرادُ به النسيءُ الذي يضلُّ به الذين كفروا، فيؤخّرون تحريمَ شهر المحرم إلى صفر، يحلونه عاماً، ويحرمونه عاماً.
وأرجحها أنَّ المراد صفر حيثُ كانوا يتشاءمون به في الجاهلية، والأزمنةُ لا دخلَ لها في التأثير، وفي تقدير الله عز وجل، فهو كغيره من الأزمنة، يقدّر فيه الخير والشر، فهذه الأربعةُ التي نفاها الرسول صلى الله عليه وسلم تدلُّ على وجوب التوكّل على الله، وصدق العزيمة، ولا يضعف المسلمُ أمام هذه الأمور.
والنفي في هذه الأربعة ليس نفياً للوجود، لأنّها موجودةٌ، ولكنّه نفيٌ للتأثير، فالمؤثِّرُ هو الله، فما كان منها سبباً معلوماً فهو سببٌ صحيحٌ، وما كان منها سبباً موهوماً فهو سببٌ باطل، ويكون نفياً لتأثيره بنفسه ولسببيته، فالعدوى موجودةٌ، ويدلُّ لوجودها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا يوردُ ممرضٌ على مصحٍّ». أي لا يورد صاحبُ الإبل المريضةِ على صاحبِ الإبلِ الصحيحةِ، لئلا تنتقلَ العدوى. وقوله صلى الله عليه وسلم: «فِر من المجذوم فرارَك من الأسدِ»، والجذام: مرض خبيثٌ معدٍ بسرعة، ويتلفُ صاحبه، فالأمر بالفرار حتّى لا تقع العدوى، وفيه إثباتُ العدوى لتأثيرها، لكنَّ تأثيرَها ليس أمراً حتمياً بحيث تكون علة فاعلة، ولكنْ أمرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم، وأن لا يوردَ ممرضٌ على مصحّ، من باب تجنّب الأسباب، لا من باب تأثير الأسباب بنفسها، قال تعالى: ﴿وَلاَ تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ﴾[البقرة: 195]، ويقال: إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لا ينكِرُ تأثير العدوى، لأنّ هذا أمرٌ يبطله الواقع والأحاديث الأخرى.
فإن قيل: إنَّ الرسول صلى الله عليه وسلم لمّا قال: «لا عدوى»، قال رجل: يا رسول الله أرأيتَ الإبلَ تكونُ في الرمالِ مثل الظباء، فيدخلها الجملُ الأجربُ فتجربُ؟ فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «فمن أعدى الأول»، فالنبيُّ صلى الله عليه وسلم أشار بقوله: «فمن أعدى الأول» إلى أنّ المرض انتقل من المريضة إلى هذه الصحيحاتِ بتدبير الله عز وجل، فالمرضُ نزل على الأول بدون عدوى، بل نزل من عند الله عز وجل، والشيءُ قد يكونُ له سببٌ معلوم، وقد لا يكون له سببٌ معلوم، وجَرَبُ الأولِ ليس معلوماً، إلا أنّه بتقدير الله تعالى، وجَرَبُ الذي بعده له سببٌ معلوم، ولو شاء الله تعالى ما جرب، ولهذا أحياناً تصاب الإبل بالجرب، ثم يرتفع ولا تموت.
وكذلك الطاعون والكوليرا أمراضٌ معدية قد تدخل البيتَ فتصيب البعض فيموتون، ويسلمَ اخرون ولا يصابون، فالإنسانُ يعتمد على الله، ويتوكّل عليه، وقد جاء أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قدم عليه رجلٌ مجذومٌ، فأخذ بيده، وقال له «كل» أي من الطعام الذي كان يأكل منه الرسول صلى الله عليه وسلم لقوّةِ توكله صلى الله عليه وسلم، فهذا التوكُّل مقاوِمٌ لهذا السبب المعدي، وهذا الجمعُ الذي ذكرنا أحسن ما قيل في الجمع بين الأحاديث، وإذا أمكن الجمع وجب، لأن فيه إعمال الدليلين.
المصادر والمراجع:
- علي محمد الصلابي، سنة الله في الأخذ بالأسباب، 2017، دار الروضة للطباعة والنشر والتوزيع، استنبول، ص(46:41)
-ابن تيمية، مجموع فتاوى، (8/487).
-عبد الكريم زيدان، الإيمان بالقضاء والقدر، ص (20).
-مجدي عاشور، السنن الإلهية ، ص (203).