(محمد البشير الإبراهيمي المبدع المتألق)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 198
بقلم: د.علي محمد الصلابي
ربيع الأول 1443 ه/ أكتوبر 2021
ليس متاحاً لكل الناس الوقوف على تجليات الإبداع في فكر الشيخ، فخصائصه ومميزاته ليست في متناول الجميع، ذلك أن كل قراءة منهجية دقيقة وعميقة للشيخ الإبراهيمي ؛ كي تحقق أهدافها المقصودة، لابد من أن تسبق بعملية إعداد واستعداد، تتمثل ـ على الخصوص ـ في التزود بأدوات معرفية معينة، تكون بمثابة المفاتيح الإبستيمولوجية التي تساعد على فك الألغاز والرموز، فيما يوشك أن يصبح بمثابة الطلسم المعرفي لهذا النص عند البعض.
ذلك أن الفكر الإبراهيمي تحكمه صعوبة تجعله مستعصياً على العقل العادي، وهي صعوبة تصنعها غرابة اللفظ، وبراعة الصياغة، وأناقة الأسلوب، ومرجعية المعنى. وهي كذلك معطيات غير متاحة الفهم إلا لمن أوتي مجموعة من الأدوات المعرفية الخاصة، وتتمثل في الإلمام الشامل باي القران، والإحاطة الوافية لقواعد فقه اللغة، والتعمق الدقيق في المحيط التراثي العربي عموماً والجزائري منه بصفة أخص، هذا إلى جانب الثقافة الموسوعية التي تجمع التاريخ الإنساني في شقيه العربي الإسلامي والأجنبي، ويشفع لنا فيما نذهب إليه هذا الاستلهام العجيب الذي يستوحيه من اي القران، فيسيل على لسانه فصاحة، وعلى قلمه بلاغة، فيسمو بأدبه سمو اي القران، ويعلو بمعاني إنتاجه علو الإعجاز القراني في مخاطبة سامعيه، نلمس ذلك في وصف الشيخ لواقع الإنسان والمجتمع والوطن والأمة، وفي مقارعته للخصوم سواء كانوا من بني جلدته، أو كانوا من أعداء أمته.
يقول في وصفه لفاجعة فلسطين، وهي أم القضايا، وواجبات العرب نحوها. يقول بشأنها: أعمال عرب فلسطين مقدمة فأين الكتاب؟ وطليعة فأين الكتائب؟ وواجب، فأين ما لا يتم الواجب إلا به؟ ويغرس قلمه في المعنى القراني: وما على عرب فلسطين بعد ذلك من سبيل، إنما السبيل على العرب في مشارق الأرض ومغاربها.
ومن التجليات لإبداع الشيخ ما نجده في فلسفة اللغة ومنطق المعنى، ففي تشنيعه بمبدأ التجزيئية الذي تعمل به فرنسا في تسمية المذهب الحنفي وليس له أتباع، يصوغ في إبداع عقلي عجيب هذه المعادلة، يقول مخاطباً خصومه: فإذا سوغ لكم منطقكم أن تقولوا: هذا مفتي مذهب، وكل مفتي مذهب له أتباع ؛ فلا تأمنوا أن يقول قائل: إنه مفتي مذهب غير موجود فله أتباع غير موجودين، فإن قلتم إنكم لا تريدون المذهب الفقهي، وإنما تريدون المذهب «الصناعي». قلنا إن هذا المذهب لا يتبع العاصمي فيه إلا الأخسرون أعمالاً، الأضلون سعياً.
وهناك خاصية تميز بها الإمام الإبراهيمي في فكره الإبداعي، وهو الاستعانة بكل مكونات علمه الدينية واللغوية والسياسية والأدبية لصياغة فلسفة المفتى عنده بعد هندسة لفظه، هندسة تسمو عن الإمكان الفني العادي، ففي تحليلنا لإبداع الشيخ نلمس هذه المحسنات البديعية التي لا يأتي بها إلا من كان له تضلع في علم البيان والبلاغة.
ويزين ذلك فنون من علم البديع والبلاغة، كالطباق والمقابلة والسجع والجناس، وكلها فنون تطبع النص الإبراهيمي بأسلوب خاص متميز، يفيض عذوبة ويتألق جمالاً.
إن صياغة المعنى عنده تخضع للمصطلح النحوي، والمصطلح الفقهي، والمصطلح العربي، إضافة إلى المصطلح الأصولي والمنطقي، وخذ على سبيل المثال نماذج من هذا التوظيف للإبداع اللفظي والمعنوي.. ولنبدأ بإبداع الحكمة التي يقول بشأنها:
إن القوة إذا لم يزنها العقل ضعف، وإن العلم إذا لم تحطه الحكمة جهل، وإن الملك إذ لم يحكمه العدل زائل، وإن سلاح الحق من الحرير، يفلّ بسلاح الباطل من الحديد، ويا ويح الأقوياء من غضب الله، وغضب المستضعفين من عباده.
وفي مثال اخر من الحكمة، يقول في وصفه للعملاء: واعجباً لما تصنعه هذه الحكومة ببعض الرجال منا، تعمد إلى الواحد منهم فتبقيه على سحنته، ولكنها تفرغه من شحنته.
فإذا ذهبنا إلى توظيفه للمصطلح النحوي ؛ وجدناه يستعين بقواعد النحو من خفض وضم كما يقول، فيوظفه لتوعية الشعب، وإلى تركيب الإسناد، والتركيب الإضافي، والتركيب الوصفي، والتركيب المزجي، لينتهي إلى نتيجة هامة وهي أن الإسلام وفرنسا كتركيب نحوي، لا يقبل الإسناد، ولا الإضافة، ولا الوصف، ولا المزج.
وأما في استخدامه للمصطلح الفقهي والأصولي ؛ فإننا نجد ذلك في سلسلة مقالاته «فصل الدين عن الحكومة»، وأبين ما يكون ذلك في استعانته بالمصطلح الفقهي الأصولي عندما يقول: ولكننا نغير العنوان هذه المرة، فنقول: فصل الحكومة عن الدين، قلباً في الوضع لا في الموضوع، وتفاؤلاً للحالة بعدم الاستبقاء، كما يتفاءل بقلب الرداء في الاستسقاء.
ويلجأ أحياناً إلى المصطلح الصرفي، فيبدع إبداعاً لا مثيل له، كما هو الحال في رواية الثلاث، التي هي قمة الإبداع في الأدب الظريف، يقول عن أبطال روايته في وصفه «الشمة والشمامين»، «وهي تبغ محلي جزائري يشم بالأنف».
وعندهم مصطلحات الصرف
ظاهرة في فعلهم والظرف
النقل والتحريك والتسكين
والفتح والتشديد والتمكين
والضم، والصحة والإعلال
والحذف والتعويض والإبدال
والقلب والترخيم والإدغام
والفك، والتخفيف والإشمام
وفيهم الأصول والزوائد
وعندهم في شمها فوائد
أي كل مصطلح من هذه المصطلحات، كما نلاحظ، يحمل دلالات معاني في فقة لغتنا العربية وقواعدها النحوية والصرفية، ولا يمكن أن يتم هذا إلا لموسوعيّ كالشيخ الإبراهيمي، أوتي جوامع اللغة بكل مقوماتها فهو يطوعها لبنانه، ويخضعها لحكمة عقله وجنانه.
وإن هذه الأمثلة التي قدمناها ليست إلا عينات مما يحفل به الشيخ الإبراهيمي من جوانب الإبداع، الذي يتجلى في الجد وفي الهزل، وفي الوصف وفي الذم، وفي المدح وفي الهجاء، ويعتقد أننا سنكون أخللنا بالموضوعية إن نحن أغفلنا نماذج من الوصف الممزوج بالنقد والهجاء لمن استحقوا ذلك بسبب مواقفهم الجماعية المتخاذلة، وهو ما يعلي من مكانة الشيخ في إبداعه الأدبي الموصوف.
فهذه الصورة الفنية، على ما فيها من تقزز، والتي يقدمها عن المشعوذين والمجاذيب، يوظفها الشيخ للتشنيع بها على خصومه، بقصد تقبيح مشهدهم في عيون الجميع، ولكنه يستخلص منها حكمة في منتهى الإقناع.
يخاطب بهذا الصدد خصومه من المضللين باسم الدين:
ونقول لكم سلموا العلم بالكتاب والسنة وهدي السلف إلى من مارسها بالبصيرة النافذة، وتناولها بالذهن الوقاد والقريحة الحية، وأنفق فيها من عمره مثل ما أنفقتم في اللهو واللغو، والتطبيل والتزمير.. فهل يجب التسليم عندكم للمشعوذ إذا شعوذ، وللشيطان إذا استحوذ، وللمجذوب إذا اختلت أعصابه، وفقد صوابه، وسال لعابه؛ ولا يجب التسليم لكتاب الله إذا قام دليله، ولهدي نبيه إذا اتضح سبيله؟.
يقول الدكتور منصور فهمي، معلقاً على محاضرة ألقاها الشيخ في نادي جمعية الشبان المسلمين: إن هذا المنبر الذي يقف فيه الشيخ، ساحة مقدسة ينبغي أن يدخلها الناس كما يدخلون الحرم المقدس، وعلى هذا فإني لم أر ولم أسمع في حياتي من هو أفصح وأبلغ من الشيخ البشير
يقول الشاعر محمد العيد الخليفة من قصيدة في الشيخ محمد البشير الإبراهيمي:
قل للبشير رفعت هامة أمة
ذلت وشعب كان قبلك خاملاً
ما زلت تكشف من خفي نبوغه
حتى تبين للنواظر ماثلاً
أخجلت أقطاب البيان فمن يكن
«سحبان» أو «قسا» يلاقك «باقلا»
أدركت في الفصحى مدارك لم يكن
في العصر ذو أدب إليها واصلاً
باريت فيها «المجد» عبر محيطه
و«المجد» لا يعدو المجد العاملا
ناهيك بالخُطب الفصائح شواهداً
أدهشت أشهاداً بها ومحافلا
تالله لا أوفيك حقَّك كله
مهما نسجتُ لك المديح غلائلا
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي:
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي:
http://alsallabi.com