سمات دعوة الأنبياء (2)
الحلقة: الثانية والعشرون
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يوليو 2020
1 ـ إخلاص الدين لله وإفراد العبادة له جلّ وعلا:
من سمات دعوة الأنبياء ، تصحيح العقيدة في الله تعالى ، وتصحيح الصلة بين العبد وربه ، والدعوة إلى إخلاص الدين ، وإفراد العبادة لله وحده ، وأنّه النافعُ الضارّ ، المستحق للعبادة والدعاء والالتجاء ، والنسك له وحده ، وكانت حملتُهم مركزةً موجهة إلى الوثنية القائمة في عصورهم ، الممثّلة بصورة واضحة في عبادة الأوثان والأصنام والصالحين المقدسين من الأحياء والأموات ، الذين كان يعتقدُ أهل الجاهلية أنّ الله خلعَ عليهم لباسَ الشرف والتألّه ، وجعلهم متصرّفين في بعض الأمور الخاصة ، ويقبل شفاعتهم فيهم بالإطلاق ، بمنزلة ملك الملوك ، يبعث على كلِّ قطر ملكاً ، ويقلّده تدبيرَ تلك المملكة في ما عدا الأمور العظام.
وكلُّ مَنْ له صلةٌ بالقران ـ وهو الكتابُ المهيمن على الكتب السالفة ـ يعرفُ اضطراراً وبداهةً أنَّ القضاء على هذه الوثنية والإنكار عليها ومحاربتها وإنقاذ الناس من براثنها كان هدفَ النبوّة الأساسي ، ومقصد بعثة الأنبياء ، وأساس دعوتهم ، ومنتهى أعمالهم ، وغاية جهادهم ، وقطب الرحى في حياتهم ودعوتهم ، حولها يدندنون ، ومنها يصدرون ، وإليها يرجعون ، ومنها يبدؤون ، وإليها ينتهون ، والقران يقول بالإجمال: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ *} [الانبياء : 25]. وتارة يقول بالتفصيل فيسمي نبياً نبياً.
فإخلاصُ الدِّين لله ، وإفرادُ العبادةِ له هو الهدفُ الأسمى الذي دعا إليه جميعُ الأنبياء عليهم السلام ، في كلِّ عصرٍ وزمانٍ ، وفي كلِّ بيئةٍ ومكانٍ فلم يكن هدفُ الأنبياء صلوات الله عليهم وسلامه ، إلا أن يوجهوا المخلوق الضعيفَ إلى خالقه العظيم القدير ، وأن يصرفوا وجهةَ البشر من عبادة العباد إلى عبادة ربِّ العباد ، مصداقاً لقوله تعالى: {وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاَةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ *} [البينة : 5].
2 ـ البساطة في الدعوة ، ومجانبة التكلف والتعقيد:
ومن سمات دعوة الأنبياء البعدُ عن الأساليب الصناعية ، والتصنع والتكلّف في حياتهم وسلوكهم بصفة عامة ، وفي دعوتهم وكلامهم وحجتهم بصفة خاصة ، وقد كان قول اخر الرسل صلى الله عليه وسلم: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ *} [ص: 86] تصوير لحالِ جميع إخوانه من الأنبياء والمرسلين السابقين صلى الله عليه وسلم جميعاً.
فهم دائماً يخاطِبون الفطرةَ السليمة ، والعقل العام بأسلوب فطري غير ذي عوجٍ ، لا يتوقف فهمُه على ذكاءٍ نادر ، وعلم فائق ، وألمعية بارعة ، ودراسةٍ واسعةٍ للعلوم ، وإحاطةٍ بالمصطلحات العلمية ، ومعرفةِ المنطق والفلسفة ، والرياضيات ، والفلك وعلوم الطبيعة ، يفهمه العوام كما يتذوقه الخواص ، وينتفع به الجهلاء كما ينتفع به العلماء ، كلُّ على قدر فهمه وطاقته ، ويطابِقُ حالَ الأمم التي تعيش على فطرتها وسذاجتها ، كما يطابق حال الأمم المتمدنة المثقفة العالية ، ولا يثيرون الأسئلة الدقيقة ، ولا يفترضونها ، إنّما كلامهم كالماء الزلال السلسال ، الذي يسيغه كلُّ واحدٍ ، ويحتاج إليه كل واحد.
قال تعالى: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ *}[النحل : 125].
وانظر إلى إبراهيم عليه السلام وهو يقيمُ الحجّة القاصمة على خصمه العنيد ، ويقطعُ عليه الطريقَ بأيسر الطرق ، وأظهر البراهين الدامغة ، قال تعالى: {قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ *} [البقرة : 258].
ولهذا نجدُ أنّ أنجحَ طريقٍ للدعوة هو سلوكُ سبيل الأنبياء في مخاطبة الفطرة ، والبعد عن التصنّع والمناهج الكلامية.
قال إمام الحرمين الجويني: لقد خضتُ البحرَ الخضّمَ ، وتركتُ أهل الإسلام وعلومَهم ، وخضتُ في الذي نهوني عنه ، والان إن لم يتداركني ربِّي برحمته ، فالويلُ لفلان ، وها أنا أموتُ على عقيدة أمي.
قال الفخر الرازي:
نهايةُ إقدامِ العقولِ عقالُ وأكثرُ سَعْي العالمينَ ضَلالُ
وأرواحُنا في وحشةٍ من جسومنا وحاصِلُ دنيانا أذًى ووبالُ
ولم نستفدْ مِنْ بحثِنا طولَ عمرنا سوى أنْ جمعنا فيه قِيلَ وقالوا
وكم من جبالٍ قد علتْ شرفاتَها رجالٌ، فماتوا، والجبالُ جبالُ
لقد تأملتُ الطرقَ الكلاميةِ والمناهجَ الفلسفيةِ، فما رأيتُها تشفي عليلاً ، ولا تروي غليلاً ، ورأيتُ أقربَ الطرق طريقةَ القران ، إقرأ في الإثبات: {الرَّحْمَانُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى *} [طه : 5] {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ} [فاطر : 10] ، واقرأ في النفي: {وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا *} [طه : 110] ، ومن جرَّب مثل تجربتي عرف مثل معرفتي.
وقال أبو حامد الغزالي: «إنّ الصحابة رضوان الله عليهم كانوا محتاجين إلى محاجّة اليهود والنصارى في إثبات نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، فما زادوا على أدلة القران شيئاً ، وما ركبوا ظهرَ اللجاج في وضع المقاييس العقلية وترتيب المقدمات ، كلُّ ذلك لعلمهم بأنّ ذلك مثارَ الفتن ، ومنبع التشويش ، ومن لا تقنعه أدلةُ القران لا يقمعه إلا السيفُ والسنان ، فما بعد بيانِ الله بيان».
3 ـ وضوح الهدف والغاية في الدعوة:
ومن سمات دعوة الأنبياء وضوحُ الهدف والغايةِ في الدعوة ، فهم يدعون الناس إلى هدف واضح ، وإلى فكرة بيّنة ، لا لُبْسَ فيها ولا غموض ، استمع إلى قوله تعالى مخاطباً خاتم الأنبياء والمرسلين: {قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ *} [يوسف : 108].
فالأنبياء الكرام دعوا الناس إلى رسالةٍ ربّانية واضحة بينة ، لا غموض فيها ولا خفاء ، ومن مظاهر هذا الوضوح أنّهم قد أُرسلوا في أقوامهم وبلغاتهم ، حتى
يمكن التفاهم معهم ، وإيصال الرسالة إليهم ، وأنّ الدعوة كانت تنزل منجّمة حتى يفهمَ السائلُ ، ويقتنعَ المجادلُ ، ويسهلَ التطبيقُ.
ومن مظاهر هذا الوضوح أيضاً أنّ الرسل كانوا يذكرون أصول دعوتهم ابتداءً ، ويستمرون بعد ذلك في التدليل على ما دعوا إليه.
4 ـ الحكمة والتيسير في دعوة الأنبياء:
من سمات دعوة الأنبياء مراعاة الحكمة والمصلحة مطلقاً ، ورعاية طبائع الناس واستعدادهم ، ورعاية المكان الصالح والزمان الصالح ، ونشاط النفوس ، وإقبال القلوب ، ورعاية التدرّج والتيسير ، وهذا ما تقتضيه طبيعة الإسلام السمحة ، وحكمة الله البليغة ، وفِطَرُ الأنبياء الحكيمة ، ونطقت به الاثار ، وشهدت به الحوادث ، وزخر به تاريخ التشريع ، وسيرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
قال تعالى: {وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً *} [الاسراء : 106].
وقال تعالى: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً *} [الفرقان : 32]. وقال تعالى: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} [البقرة : 185]. وقال تعالى: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} [الحج : 78].
وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرُ أصحابه بالتيسير والتبشير ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ وأبي موسى رضي الله عنهما لمّا بعثهما إلى اليمن: «يسِّرا ولا تعسِّرا ، وبشِّرا ولا تنفِّرا».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثتم ميسّرين ، ولم تُبْعَثوا معسِّرين».
وقد كان يرجِءُى تطبيق شيءٍ فيه مصلحة جزئية لأجل مصلحة كلية هي أعظمُ وأهمُّ منها ، فقال لعائشة رضي الله عنها: «لولا حداثةُ قومك بالكفرِ لنَقَضْتُ البيتَ ، ثم لبنيتُه على أساسِ إبراهيم عليه السلام».
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: كان النبيُّ صلى الله عليه وسلم يتخوَّلنا بالموعظةِ في الأيام كراهة السامة علينا.
وعن جابر بن عبد الله: كان معاذُ بن جبل يصلّي مع النبيِّ صلى الله عليه وسلم ، ثم يرجع ، فيؤمُّ قومه ، فصلّى العشاء ، فقرأ البقرة ، فانصرف رجلٌ ، فكان معاذٌ ينالُ منه ، فبلغ النبيَّ صلى الله عليه وسلم فقال: «فتان فتان» ثلاث مراراً.
وعن ابن مسعود قال: قال رجلٌ: يا رسول الله ، إنِّي لأتأخرُ عن الصلاةِ في الفجر ممّا يطيلُ بنا فلانٌ فيها ، فغضبَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما رأيته غضبَ في موعظةٍ كان أشدَّ غضباً منه يومئذٍ ، ثم قال: «يا أيها الناس ، إنَّ منكم منفِّرين ، فَمَنْ أمَّ منكم الناسَ فليتجوَّزْ ، فإنَّ خلفه الضعيفَ والكبيرَ وذا الحاجةِ».
والنصوص في ذلك والشواهدُ أكثر من أن تُحصى، وهذا كلّه مستفيضٌ متواتر من سيرته صلى الله عليه وسلم ، مفروض في سيرة الأنبياء السابقين ، للحكمة التي وصفهم الله بها {وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ *} [ص : 20]. قال تعالى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاَءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ *} [الانعام : 89].
ولكن كلُّ هذا التيسير والتدريج ومراعاة الحكمة والمصلحة والنظر إلى استعدادِ النفوس ، إنّما هو للتعليم والتربية وفي المسائل الجزئية ، ومما ليس من العقائد ومبادأى الدين في شيء.
أمّا ما يفرّق بين الإيمان والكفر، والتوحيد والشرك، وكان من شعائر الإسلام ، وحدود الله ، فالأنبياء عليهم الصلاة
والسلام ـ على اختلاف عصورهم ـ أصلبُ فيه من الحديد ، وأثبتُ عليه من الجبالِ ، لا يعرفون تنازلاً ، ولا يعرفون هوادة ، ولا يرضون مساومة.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان بالرسل والرسالات
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي