الثلاثاء

1447-05-06

|

2025-10-28

صور من حياة الصحابة

النعمان بن مقرن رضي الله عنه

 

هو النعمان بن عمرو بن مقرن (رضي لله عنه) ويكنى أبا عمرو وقيل أبا حكيم، من قبيلة مزينة التي كانت تتخذ منازلها قريباً من يثرب - مدينة الرسول ﷺ -على الطريق الممتد بين مكة والمدينة، ويعد النعمان بن مقرن أحد أبرز القادة العسكريين في صدر الإسلام، جمع بين الإيمان الراسخ والشجاعة الفائقة، فكان مثالاً للصحابي المجاهد الذي خدم الدعوة الإسلامية في أشد مراحلها حرجاً. وقد ارتبط اسمه بواحدة من أعظم معارك الإسلام في بلاد الفرس، وهي معركة "نهاوند"، التي عرفت في التاريخ بـ "فتح الفتوح" لما ترتب عليها من نتائج حاسمة في إسقاط الدولة الساسانية. (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، ج3، ص135)

لما بدأ نور الإسلام يشع في أرجاء الجزيرة العربية ليبدد ظلام الجاهلية ويبشر بخير عميم ومستقبل مشرق، وجعل الناس يتحدثون ويتساءلون عن النبأ العظيم، عن رسالة الإسلام وعن النبي محمد ﷺ والمسلمين، وكانت أخبار ذلك تصل تباعاً إلى مزينة عشيرة النعمان مع الغادين والرائحين، فلا تسمع عن ذلك إلا خيراً، وفي ذات عشية جلس سيد القوم النعمان بن مقرن المزني (رضي لله عنه) في ناديه مع إخوته ومشيخة قبيلته، فقال لهم: يا قوم!! والله ما علمنا عن محمد إلا خيراً، ولا سمعنا من دعوته التي يبشر بها إلا مرحمة وعدلاً. (تاريخ مائة صحابي وصحابية، ج1 ص373). ثم أتبع يقول: أما أنا فقد عزمت على أن أغدو عليه إذا أصبحت، فمن شاء منكم أن يكون معي فليتجهز. فما إن طلع الصباح حتى وجد إخوته العشرة، وأربعمائة فارس من فرسان (مزينة) قد جهزوا أنفسهم للمضي معه إلى يثرب للقاء النبي صلوات الله وسلامه عليه، والدخول في دين الله.

فطاف النعمان (رضي لله عنه) ببيته وبيوت إخوته، وجمع كل ما أبقاه لهم القحط من غنيمات، وساقها أمامه وقدم بها على رسول الله ﷺ، وأعلن هو ومن معه إسلامهم بين يديه.

اهتزت يثرب من أقصاها إلى أقصاها فرحاً بالنعمان بن مقرن وصحبه، إذ لم يسبق لبيت من بيوت العرب أن أسلم منه أحد عشر أخاً من أب واحد ومعهم أربع مائة فارس، وسر الرسول ﷺ بإسلام النعمان أبلغ السرور. وتقبل الله عز وجلّ غنيماته، وأنزل فيه قرآناً فقال سبحانه: ﴿ وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ۚ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ ۚ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ [التوبة: 99] (أصحاب الرسول، ص204)

ولم يكن إلا قليل من الوقت حتى دعاهم رسول الله ﷺ إلى الجهاد الذي هو سبيل المؤمنين، فانضووا تحت رايته يجاهدون في سبيل الله، يحدوهم الأمل بالنصر ونشر هذا الدين وإعلاء كلمة الله في الأرض أو نيل الشهادة، ومضى رسول الله من نصر إلى نصر ومزينة من أبرز جنوده، فشهدوا معه بقية غزواته من فتح مكة حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى.

ولما آلت الخلافة إلى أبي بكر (رضى الله عنه) كان للنعمان وإخوته وعشيرته من بنى مزينة» دورٌ كبير في مواجهة الفتنة ألا وهي فتنة الردة. فبعث أبو بكر (رضي لله عنه) بالجيوش إلى المرتدين، وعقد الألوية لقتالهم، وكان لواء مزينة يرفرف مع ألوية المجاهدين المؤمنين، والنعمان بن مقرن يقودهم من حرب إلى حرب، حتى كتب الله لدينه النصر المبين، وقضى على هذه الفتنة إلى غير رجعة، ولم يبق في جزيرة العرب مرتد واحد، وسقط خلالها من مزينة عددٌ كبير من الشهداء.

ولما آلت الخلافة من بعد الصديق إلى الفاروق عمر (رضي الله عنهما) بقي النعمان بن مقرن مع قبيلته في صفوف المجاهدين، ثم شاركوا في معارك فتح العراق، فقبيل معركة القادسية وفي تاريخ اليعقوبي ورد الآتي: «وجه سعد إلى كسرى بالنعمان بن مقرن (رضي لله عنه) وجماعة معه يدعونه إلى الإسلام، فدخلوا عليه في أحسن زي، وعليهم البرود والنعل، فأخبروه بما وجههم له سعد، ودعوه إلى الإسلام وإلى شهادة الحق وإلى أداء الجزية، فأغضبه ذلك وقال: إني لا أعلم أمة في الأرض كانت أشقى منكم ولا أقل عدداً، ولا أشد فرقة، ولا أسوأ حالاً. وقد كنا نكل أمركم إلى ولاة الضواحي فيأخذون لنا الطاعة منكم. فإن كانت الحاجة هي التي دفعتكم إلى المجيء إلينا أمرنا لكم بقوت إلى أن تخصب دياركم، وكسونا سادتكم ووجوه قومكم، وملكنا عليكم ملكاً من قبلنا يرفق بكم. فرد عليه رجل من الوفد رداً أشعل نار غضبه من جديد فقال كسرى: لولا أن الرسل لا تقتل لقتلتكم. قوموا فليس لكم شيء عندي، وأخبروا قائدكم أني مرسل إليه "رستم " حتى يدفنه ويدفنكم معاً في خندق القادسية. ثم أمر فأتي له بحمل تراب، وقال لرجاله: حملوه على أشرف هؤلاء، وسوقوه أمامكم على مرأى من الناس حتى يخرج من أبواب عاصمة ملكنا. فقالوا للوفد: من أشرفكم؟ فبادر إليهم عاصم بن عمر وقال: أنا. فحملوه عليه حتى خرج من المدائن، ثم حمله على ناقته وأخذه معه لسعد بن أبي وقاص، وبشره بأن الله سيفتح على المسلمين ديار الفرس ويملكهم تراب أرضهم. ثم وقعت معركة القادسية، واكتظ خندقها بجثث آلاف القتلى، ولكنهم لم يكونوا من جند المسلمين، وإنما كانوا من جنود كسرى. (تاريخ اليعقوبي، ج2 ص142)

بعد هذه الهزائم التي مني بها الفرس، وبعد تلك الوقائع الدامية التي انتصر فيها المسلمون انحاز يزدجر كسرى الأعاجم إلى نهاوند، فهب النعمان بجيشه للقاء العدو وانضوى تحت لوائه كبار الصحابة ومنهم: حذيفة والزبير وجرير وطليحة الأسدي، والمغيرة بن شعبة والأشعث بن قيس وعبد الله بن عمر (رضي لله عنهم)، وسار النعمان بجيشه إلى نهاوند وسبقه طليحة الأسدي لاستكشاف حال العدو. وكان جيش الفرس آنذاك جيشاً عظيماً عدده أكثر من مائتي ألف فارس بقيادة يزدجر، وجعل من نهاوند قلعة يوجه منها سهامه إلى المسلمين، والتقى الفريقان عند نهاوند وانتشب القتال وطال أمد الحرب بينهم، فلجأ الفرس إلى خنادقهم، فصعب على النعمان مقابلة عدوه دون الوصول إليه، فجمع أهل الرأي للشورى فاجتمعوا، فكان رأي طليحة أن يبعث النعمان (رضي لله عنه) فرقة من الفرسان تفاجئ العدو في خنادقه وتلتحم به. (تاريخ الطبري، ج4 ص136)

وأمر النعمان (رضي لله عنه) القعقاع بن عمرو فهاجم الفرس في مخابئهم، وانسحب كأنه منهزم فلحقوه حتى اقترب من جيش النعمان فما كان من جيش المسلمين إلا أن حملوا على الفرس حملة واحدة، واعملوا فيهم السيوف، فزلق حصان النعمان فسقط عنه البطل ليحتل مكاناً في شهداء أمة محمد، فكان أول شهيد في هذه المعركة، فأخذ الراية حذيفة بن اليمان من يده، ثم أخذ أخو النعمان جثة أخيه الشهيد ونحاه جانباً وسجاه ببردة كانت معه وكتم أمر مصرعه عن المسلمين، واجتمع المسلمون بعد المعركة فتساءلوا: "أين أميرنا؟"، قال معقل بن مقرن المزني (رضي لله عنه): "هذا أميركم، قد أقر الله عينه بالفتح، وختم له بالشهادة".

أما أمير المؤمنين عمر (رضي لله عنه) فقد أسهرته ليالي نهاوند فما كان يعرف النوم، فيخرج بين آونة وأخرى، حتى أتاه السائب، فقال له عمر: أبشر ما وراءك؟ فقال له: فتح الله عليك أعظم الفتح، واستشهد الأمير، فقال عمر: إنا لله وإنا إليه راجعون!! ثم نهض واعتلى المنبر، ونعى إلى أهل الأرض النعمان بن مقرن أمير نهاوند وشهيدها ثم بكى، وبكى المسلمون لبكائه حتى نشج - أي أخرج صوتاً في بكائه -، وعبد الله بن مسعود في أسفل المنبر ينفث الحسرات ويقول: إن للإيمان بيوتاً، وللنفاق بيوتاً، وإن من بيوت الإيمان بيت ابن مقرن. (تاريخ مائة صحابي وصحابية، مرجع سابق، ج1 ص380 - 381)

وهكذا سجل التاريخ يوماً من أعظم أيام الإسلام، يوم نهاوند سنة (٢١هـ)، ذلك اليوم الذي استشهد فيه أمير نهاوند، وقائد المسلمين فيها النعمان بن مقرن (رضي لله عنه). ودفن النعمان يوم الجمعة.

 

المراجع:

• ابن الأثير، الكامل في التاريخ، دار صادر، بيروت، 1965م.

• تاريخ مائة صحابي وصحابية، صادق الجميلي، مطبعة أنوار دجلة – بغداد، 1430 هـ - 2009م.

• أصحاب الرسول، محمود المصري، مكتبة أبو بكلا الصديق، ط1، 1423هـ - 2002م.

• تاريخ اليعقوبي، دار الكتب العلمية، بيروت الطبعة: الأولى، ١٤٢٢

• تاريخ الطبري. دار الفكر، بيروت، 1987م.


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022