المرأة في العهد الزنكي: ريادة علمية في دراسة الحديث والفقه
بقلم: د. علي محمد الصلابي
حظيت المرأة المسلمة بمكانة مرموقة في ميدان العلم منذ صدر الإسلام، إذ شجعها الدين الحنيف على التعلم ونشر المعرفة، باعتبار ذلك عبادةً ومسؤولية اجتماعية. وقد ازداد اهتمام النساء بالدراسات الشرعية في العصور اللاحقة، خصوصاً في العهد الزنكي، حيث برزت أسماء عالمات في الحديث والفقه واللغة والأدب، واتسمت مسيرتهن بالجدِّ والاجتهاد، وبذلن في سبيل العلم الجهد الكبير، وقد أسهمت هذه النهضة النسوية العلمية في ترسيخ قيم العلم والورع، وأثبتت أن المرأة المسلمة كانت شريكاً فاعلاً في بناء النهضة العلمية والحضارية للأمة الإسلامية.
وقد بلغ اهتمام المرأة المسلمة خلال العهد الزنكي بالدراسات الشرعية درجةً كبيرة؛ لتتعرف على تعاليم الدين الإسلامي الصحيح، لتطبيقه عملياً، وكانت دراسة الحديث الشريف تأخذ القسط الأوفى من هذا الاهتمام، حيث بلغ كثير من النساء بهذا العلم درجة عالية، ونافَسْنَ فيه كبار الحفاظ والمحدّثين، وكنَّ مثالاً رائعاً للأمانة والعدالة، وقد أشارت كتب التراجم والطبقات إلى النشاط العلمي الملموس لهذه الفئة في العهد الزنكي؛ حيث ذكرت تلك المصادر أسماء العديد من المقرئات، والمحدثات، والفقيهات، والأديبات، والنحويّات، إلى غير ذلك من العالمات بالعلوم الأساسية الأخرى.
كما دأب الكثير منهن على التنقل بين الأقاليم الإسلامية مع محارمهنَّ، طلباً للعلم على أكابر العلماء والمحدثين، وقد حصلن على إجازات علمية من كبار مشايخ العصر في مختلف المدن (1)، وحسبنا دليل على نشاط المرأة في هذا الميدان: أنَّ الذين ترجموا لابن عساكر المتوفى سنة (571 هـ/1176م) أجمعوا على أنَّه أخذ العلم عن بضع وثمانين امرأة (2)، وهذه الإشارة تدل على كثرة النساء المشتغلات بالعلم في ذلك العهد، بحيث إنَّ عالماً واحداً من علماء العصر سمع ما يزيد على ثمانين امرأة، هذا فضلاً عن كثير من عدد النساء اللاّتي ترجم لهنَّ ابن عساكر في تاريخه.
ويبدو من خلال بعض الإشارات التي ذكرها ابن عساكر في تاريخه الكبير: أنَّ المنزل كان المدرسة الأولى، التي تتلقى فيها المرأة علومها، ويلاحظ على النساء اللاتي اشتهرن بالعلم في ذلك العهد: أنهنَّ نشأن في بيوت العلماء، وأنهنَّ درسن على ابائهن، أو أحد ذويهن من أولي العلم، أو أنهنَّ كنَّ يستفدن من الدروس، التي كانت تعقد في بيوتهنَّ لتعليم الطلاب، حيث كنَّ يستمعن إلى ما كان يُلقى في منازلهن من دروس، وهو ما أطلق عليه «التعليم داخل منازل العلماء» (3)، فابن عساكر عندما يُتَرجم لأمِّ أولاده، وابنة خالته ـ عائشة بنت علي بن الخضر بن عبد الله السَّلميَّة المتوفاة سنة (564 هـ/1168م) يقول عنها: «أسمعتها الحديث من فاطمة بنت علي بن الحسين بن سهل بن بشر بن أحمد الأسفرائيني، المدعوة ست العجم» والمعروفة بالعالمة الصغيرة، يقول ابن عساكر: «سمعت أباها أبا الفرج» (4).
كما أن أبواب المساجد، كانت مفتوحة لمن أراد أن يتلقى تعليمه من النساء؛ حيث كن يتردَّدن لحضور الحِلق؛ التي كانت تعقد فيها أماكن مخصصة لهنَّ، ومعزولة عن أماكن الرجال، لا يكون هناك سبيل للاختلاط (5).
ولم يكن للمرأة الحقُّ في التعليم فقط، بل كان لها أيضاً الحقُّ في نشر التعليم، وقد شاركت المرأة في ذلك، وإن لم تتسلم وظيفة التدريس في المدارس التخصصية بالشكل الذي نراه اليوم، فقد أشار ابن عساكر لمثل هذه المشاركة في ترجمته، لفاطمة بنت سهل بن بشر المدعوة سِت العجم من أنها: «كانت تعظ النساء في المساجد» (6).
وممَّن اشتهر من النساء بالتدريس في هذا العهد، العالمة فاطمة الفقيهة (7)، المعاصرة للملك العادل نور الدين محمود، فقد تصدَّرت للتدريس في حلب، وألَّفت مؤلفات عديدة في الفقه والحديث، كما استشارها الملك نور الدين في بعض أموره، واستفتاها في بعض المسائل الفقهية، وكان دائماً يبذل لها، ويعينها على مواصلة نشاطها العلمي (8)، وما حدث بين الملك نور الدين، والعالمة فاطمة الفقيهة يؤكد حرص المرأة المسلمة في ذلك العهد، على الالتزام التَّامِّ بالحجاب الإسلامي، حيث أنَّ المحادثات بينهما كانت تتمُّ بواسطة امرأة تُندب لهذا الأمر، وفي هذا الصدد، يورد القُرشي قصةً مفادها: أن علاء الدين الكاساني زوج العالمة فاطمة الفقيهة، عزم الرحيل من حلب إلى بلاده، بإيعاز من زوجته فاطمة، فاستدعى الملك نور الدين الإمام علاء الدين الكاساني، وسأله أن يقيم في حلب، فعرَّفه علاء الدين دواعي سفره، وأنه لا يمكن أن يخالف زوجته ابنة شيخه، فأرسل الملك إلى زوجته فاطمة خادماً يخاطبها عن الملك في ذلك، فلم تأذن للخادم، واحتجبت منه، وأرسلت إلى زوجها من يقول له: بعد عهدك بالفقه إلى هذا الحد، أما تعلم أنه لا يحل أن ينظر إليَّ هذا الخادم، وأيُّ فرق بينه، وبين الرجال في عدم النظر، فعاد الخادم، وذكر ذلك لزوجها بحضرة الملك، فأرسلوا إليها امرأة برسالة الملك، فخاطبتها، وأجابتها إلى ذلك، وأقامت بحلب إلى أن توفِّيت، وتوفي زوجها الكاساني بعدها سنة 587هـ/1191م ودفن عندها بحلب (9) وقد تحدث الدكتور ابن عزوز عن جهود المرأة الدمشقيَّة في رواية الحديث الشريف بنوعٍ من التفصيل.
إذاً، فالمرأة المسلمة في العهد الزنكي لم تكن متلقية للعلم فحسب، بل كانت معلمة وموجهة ومؤلفة، أسهمت في نشر المعرفة وحفظ التراث، ولقد جسدت نموذجاً مشرقاً للعالمة المربية، مؤكدةً أن العلم وظيفة حضارية تشارك فيها المرأة إلى جانب الرجل في بناء الحضارة الإسلامية والإنسانية معاً.
المصادر والمراجع:
(1) الحياة العلمية في العهد الزنكي، نورين برمة عبد الكريم نورين، ص 212.
(2) معجم الأدباء، ياقوت الحموي، (13/76). سير أعلام النبلاء، الذهبي، (2/556).
(3) الحياة العلمية في العهد الزنكي، نورين برمة عبد الكريم نورين، ص 214.
(4) تاريخ دمشق، ابن عساكر، نقلاً عن الحياة العلمية في العهد الزنكي، نورين برمة عبد الكريم نورين، ص 214.
(5) الحياة العلمية في العهد الزنكي، نورين برمة عبد الكريم نورين، ص 215.
(6) تاريخ ابن عساكر، تراجم النساء، ص 288. الحياة العلمية في العهد الزنكي، نورين برمة عبد الكريم نورين، ص 215.
(7) الحياة العلمية في العهد الزنكي، نورين برمة عبد الكريم نورين، ص 215.
(8) المصدر نفسه ص 216.
(9) الجواهر المضية فى طبقات الحنفية، عبد القادر القرشي، (4/123، 124) الحياة العلمية في العهد الزنكي، نورين برمة عبد الكريم نورين، ص216.