حقيقة الروح
الحلقة: الثالثة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
شوال 1441 ه/ يونيو 2020
1 ـ مراتب النفوس:
أخبرنا الحق سبحانه وتعالى أنّ النفوسَ ثلاثةُ أنواع :
النفس الأمارة بالسوء ﴿إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّي﴾ [يوسف: 53].
والنفس اللوّامة ﴿وَلاَ أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ *﴾ [القيامة: 2] .
والنفس المطمئنة ﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً *فَادْخُلِي فِي عِبَادِي *وَادْخُلِي جَنَّتِي *﴾ [الفجر: 27 ـ 30] .
والتحقيق: أنها نفسٌ واحدة، لها صفاتٌ، فهي أمارة بالسوء، فإذا عارضها الإيمانُ صارت لوّامةً، تفعل الذنبَ، ثم تلومُ صاحبها، وتلوم بين الفعل والترك، فإذا قوي الإيمانُ صارت مطمئنة.
2 ـ هل تموت الأرواح؟
الأرواحُ مخلوقةٌ بلا شك، وهي لا تعدم ولا تفنى، ولـكنَّ موتَها بمفارقة الأبدان، وعند النفخة الثانية تعادُ الأرواح إلى الأبدان، وقد دلت على ذلك الأحاديثُ الدالة على نعيم الأرواح وعذابها بعد مفارقة الأجساد إلى أن يرجعها الله إليها، وقد أخبر سبحانه أنَّ أهل الجنة ﴿لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الأُولَى﴾ [الدخان: 56] وتلك الموتة هي مفارقةُ الروحِ الجسدَ .
3 ـ هل للروح كيفية تُعْلَمْ؟
لمّا كانت الروحُ مخلوقةً من جنسٍ لا نظيرَ له في عالم الموجودات، فإننا لا نستطيعُ أن نعرفَ صفاتها، فقد عرّفنا الله أنها تصعدُ وتهبِطُ، وتسمع، وتبصر، وتتكلم ... إلى غير ذلك، إلا أنَّ هـذه الصفاتِ مخالفةٌ لصفات الأجسام المعروفة، فليس صعودُها وهبوطُها وسمعُها وبصرُها وقيامُها وقعودُها من جنسِ ما نعرفه ونعلمه، فقد أخبرنا الرسول الكريم (ﷺ) أنَّ الروحَ يُصْعدُ بها إلى السماوات العلا، ثم تُعاد إلى القبر، ساعةً من الزمن، كما أخبرنا أنها تنعّم أو تعذّب في القبر، ولا شك أنَّ هـذا النعيمَ على نحوٍ مخالِفٍ لما نعلمه ونعرفه.
4 ـ قبض الروح بالنوم:
من أحكام الروحِ أنَّها تُقْبَضُ عند النوم، وهي ما تسمّى الوفاة الصغرى، وقد ذكر الله تعالى ذلك في كتابه الكريم قال تعالى: ﴿اللَّهُ يَتَوَفَّى الأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الآخرى إِلَى أَجَلٍ مُسَمّىً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ *﴾ [الزمر: 42] .
وعن عبد الله بن أبي قتادة عن أبيه قال: سرنا مع النبيِّ (ﷺ) ليلةً، فقال بعضُ القوم: لو عرّستَ بنا يا رسول الله .
قال (ﷺ): « أخافُ أنْ تناموا عن الصلاة » .
قال بلال: أنا أوقظكم فاضجعوا، وأسندَ بلالٌ ظهرَه إلى راحلته، فغلبته عيناه فنام، فاستيقظ النبي (ﷺ) وقد طلعَ حاجبُ الشمس فقال (ﷺ): « يا بلالُ أينَ ما قلتَ؟ » .
قال: ماألقيتْ عليّ نومةٌ مثلها قط .
قال (ﷺ): « إنَّ اللهَ قبضَ أوراحَكم حينَ شاءَ، وردَّها عليكم حين شاءَ، يا بلالُ قم فأذِّنْ بالناسِ بالصلاةِ » فتوضأَ، فلمّا ارتفعتِ الشمسُ، وابيضتْ، قام فصلى .
5 ـ فتح باب التوبة إلى الغرغرة:
الغرغرةُ: هي لحظة نزع الروح وخروجها، وهناك علاقةٌ بين الروح والتوبة، فما دامتِ الروحُ مستقرّةً في البدنِ فبابُ التوبة مفتوح، قال تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ وَلاَ الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا *﴾ [النساء: 17 ـ 18] .
ومعنى قوله تعالى: ﴿ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ﴾: ما كان دونَ الموت فهو قريب، وقال الحسن البصري: ما لم يغرغر .
ولقد دلت الأحاديث الصحيحة على أنَّ مَنْ تابَ إلى الله عزّ وجلّ وهو يرجو الحياة، فإنّ توبته مقبولةٌ، ولهـذا قال تعالى: ﴿فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا *﴾
وأما متى وقع اليأسُ من الحياةِ، وعاينَ ملكَ الموتِ، وخرجتِ الروحُ إلى الحلق، وضاق بها الصدرُ، وبلغتِ الحلقومَ، وغرغرت النفس صاعدة للخروج من البدن، فلا توبةَ مقبولةٌ حينئذٍ، ولهـذا قال تعالى:
﴿يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآنَ﴾ [النساء: 18] .
وعن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبيِّ (ﷺ) قال: « إنّ اللهَ يقبلُ توبةَ العبدِ ما لَمْ يُغَرْغِرْ » .
6 ـ كيفية نزع الروح:
قال تعالى: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ *وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ *وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لاَ تُبْصِرُونَ *﴾ [الواقعة: 83 ـ 85] .
أي: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ *﴾، والحلقومُ: هو الحلق، وذلك حين الاحتضار أي إلى ﴿وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ *﴾، وما يكابدُه من سكرات الموت أي بملائكتنا أي ولـكن لا ترونهم
وقال تعالى: ﴿وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ *ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ *﴾ [الأنعام: 61 ـ 62] .
وقال تعالى: ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ *وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ *وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ *وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ *إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ *﴾ [القيامة: 26 ـ 30] .
أي: ﴿إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ *﴾، والتراقي جمع تُرْقُوة، وهي العظام المكتنفة لنُقْرَةِ النَّحْر، وهو مقدّمُ الحلقِ من أعلى الصدر موضع الحشرجة، ويُكَنَّى ببلوغ النفس التراقي عن الإشفاءِ على الموت، مثله قوله: ﴿فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ*﴾: ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ *﴾، أي حقّاً أنَّ المساقَ إلى الله أي إِذا ارتفعتِ الروحُ إلى ﴿كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ *﴾، والمقصودُ تذكيرهم شِدَّةَ الحال عند نزولَ الموت .
وقال تعالى: ﴿وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا *وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا *﴾ [النازعات: 1 ـ 2] .
والمقصود الملائكة، يعنون حين تنزِعُ أرواحَ بني ادم، فمنهم مَنْ تَأْخذُ روحَه بعسرٍ، فتغرق في نزعهم، ومنهم من تَأْخُذُ روحَه بسهولةٍ، وكأنما حلّته من نشاطٍ وهو قوله .
وقال تعالى: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ *﴾ [ق: 19] . ﴿سَكْرَةُ الْمَوْتِ﴾، وقوله: سكرةُ الميتِ التي تدل الإنسانَ على أنّه ميت .
عن عائشة رضي الله عنها: أنَّ رسولَ الله (ﷺ) كان بين يديه رَكوةٌ، أو علبةٌ فيها ماءٌ، فجعلَ يُدْخِلُ يديه في الماءِ، فيمسحُ بهِما وَجْهَه ويقول: « لا إلـهَ إلاّ الله، إنَّ للموتِ سكراتِ » ثم نصبَ يدَهُ، فجعلَ يقولُ: « في الرفيقِ الأَعْلَى » حتى قُبِضَ، ومالت يدُه .
إنَّ الإنسانَ إذا اقتربَ أجلُه، فإنَّ الروحَ ترتقي إلى أعلى الجسم عند النحر، حتى تخرجَ من جسده، وهـذا الخروجُ للروح ليس بالأمر الهيِّن ـ حتى للمؤمن ـ بل له سكراتٌ وغمراتٌ ومشقّاتٌ، ثم تنتزِعُ الملائكةُ الروحَ، وهـذا النزعُ يختلِفُ شدةً ويُسراً بحسبِ إيمانِ الرجل .
7 ـ خروج روح المؤمن واحتضاره :
قال تعالى: ﴿أَلاَ إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ *الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ *لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ *﴾ [يونس: 62 ـ 64]، وفي قوله تعالى: ﴿لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة﴾ :
الأول: الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو تُرَى له .
والثاني: المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة، ويدلُّ على هـذا حديث البراء رضي الله عنه عن رسول الله (ﷺ): « إنّ المؤمنَ إذا حَضَرَهُ الموتُ، جاءه ملائكةٌ بيضُ الوجوهِ، بيضُ الثيابِ، فقالوا: اخرجي أيتُها الروحُ الطيّبةُ إلى رَوْحٍ وريحانٍ وربٍّ غيرِ غضبان، فتخرجُ تَسِيْلُ كما تسيلُ القَطْرَةُ مِنْ في السقاءِ ».
وكلا المعنيين صحيح، ولا تعارضَ بين هـذين التفسيرين .
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخرة وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ *﴾ [فصلت: 30 ـ 31]، وفي قوله تعالى: أي: أخلصوا ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾، وقوله: أي: على ﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾ رسولِ الله (ﷺ) باتباعه، وفي قوله تعالى: يبشَّرون عند ﴿تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلاَئِكَةُ﴾، وفي القبر، ويوم خروجهم من قبورهم، قال تعالى: ﴿لاَ يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمْ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ *﴾ [الأنبياء: 103] وقوله: أي: ممّا تقدمون عليه من أمر الآخرة على ﴿أَلاَّ تَخَافُوا وَلاَ تَحْزَنُوا﴾ خلفتموه من أمرِ الدنيا من ولدٍ وأهلٍ ومالٍ أو دَيْنٍ، فإنّا نخلفنكم فيه فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير
قال تعالى: ﴿كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلاَمٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ *﴾ [النحل: 31 ـ 32] .
يخبرُ الله تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنّهم طيبون، أي: مخلَصون من الشرك والدنس وكل سوء، وأنَّ الملائكة تسلِّمُ عليهم، وتبشرهم بالجنة، وأن وفاتهم تكون طيبة سهلة، لا صعوبة فيها ولا ألم، بخلاف ما تقبض به روح الكافر والمُخلِّطِ .
وقال تعالى: ﴿يَاأَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ *ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَةً *﴾ [الفجر: 27 ـ 28]، وهـذا يقالُ لها عند الاحتضار، وفي يوم القيامة أيضاً، كما أنَّ الملائكة يبشّرون المؤمنَ عند احتضاره، وعند قيامه من قبره، فكذلك ها هنا .وقال تعالى: ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ *فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّةُ نَعِيمٍ *وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ *فَسَلاَمٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ *﴾ [الواقعة: 88 91] .
هـذه الأحوالُ الثلاثةُ: هي أحوالُ الناسِ عند احتضارهم: إما أن يكون من المقربين، أو يكون ممّن دونهم من أصحاب اليمين، وإمّا أن يكون من المكذبين بالحق، الضالين عن الهدى، الجاهلين بأمر الله، ولهـذا قال تعالى: أي المحتضر وهم من فعلوا الواجباتِ ﴿فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ *﴾، وتركوا المحرّمات والمكروهاتِ وبعضِ المباحاتِ، قوله: أي فلهم رَوحٌ ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾، وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت ﴿فَرَوْحٌ﴾، أو الراحة من الدنيا، والروح: الفرح جنةٌ ورخاءُ فرحمة ﴿فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ﴾ . وكلُّ هـذه الأقوال متقاربةٌ صحيحةٌ، فإنَّ مَنْ مات مقرَّباً حصل له جميع ذلك من الرحمة، والراحة، والاستراحة، والفرح، والسرور، والرزق الحسن أي: لا يموتُ أحدٌ من الناسِ حتّى يعلمَ مِنْ أهلِ الجنّةِ هو أَمْ مِنْ أهل النار بذلك، تقول لأحدهم: سلامٌ لك، أي لا باسَ عليك، أنتَ إلى سلامةٍ، أنتَ من أصحاب اليمين.
ويكون السلام على المؤمنين عند ثلاثة مواضع: عند قبض روحه في الدنيا، يسلم عليه ملك الدنيا، وعند مساءلته في القبر، يسلم عليه منكرٌ ونكيرٌ، وعند بعثه في القيامة، تسلِّمُ عليه الملائكةُ قبلَ وصوله إلى الجنة، ويكونُ ذلك إكراماً بعد إكرام.
8 ـ خروجُ روحِ الكافرِ واحتضارُه :
قوله تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ *﴾ [الأنعام: 93]، قوله تعالى: أي كرباته ﴿فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ﴾، وقوله جوابه محذوف تقديرُه: لرأيتَ أمراً ﴿وَلَوْ تَرَى﴾، وهـذه عبارةٌ عن التعنيف في السياق والشدّة في قبض الأرواح، وقوله تعالى: أي ﴿بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾، كقوله: ﴿لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي﴾ [المائدة: 28] وقوله: ﴿وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ﴾ [الممتحنة: 2] وكقوله: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ﴾ [الأنفال: 50] . ولهـذا قال: أي بالضربِ ﴿وَالْمَلاَئِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ﴾، حتى تخرجَ أنفسُهم من أجسادِهم، ولهـذا يقولون لهم: وذلك أنّ الكافرَ إذا احتُضِرَ بشَّرته الملائكة بالعذاب ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ﴾، والأغلال والسلاسل، والجحيم والحميم، وغضب القهار العظيم، فتفرق روحُه في جسده، وتتعصَّى، وتأبى الخروجَ، فتضربهم الملائكة حتى تخرجَ أرواحُهم من أجسادِهم، قائلين لهم: أي كنتم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون ﴿أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمْ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ﴾ الله وتستكبرون عن اتّباع آياته ، والانقياد لرسله، ثم يبشرون بالعذاب ﴿الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ﴾ .
وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلاَئِكَةَ لاَ بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا *﴾ [الفرقان: 22] أي حرامُ ومحرَّمٌ عليكم دخولُ الجنة[(41)]، وفي حديث البراء الطويل، قال رسول الله (ﷺ): «وإنّ العبدَ الكافِرَ إذا كانَ في انقطاعٍ عن الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة، نزلَ إليه مِنَ السماءِ ملائكةٌ، سودُ الوجوهِ، معهم المسوحُ، فيجلسون منه مدَّ البصر، ثم يجيءُ مَلَكُ الموتِ، حتى يجلسَ عندَ رأسِهِ، فيقول: أيتُها النفسُ الخبيثةُ، اخرجي إلى سخطٍ مِنَ اللهِ وغضبٍ، قال: فتفرق في جسدِهِ، فينتزعُها كما ينتزع السفود من الصوفِ المبلول » .
قال تعالى: ﴿رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ *﴾ [الحجر: 2] .
في الآية إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر، ويتمنَّون لو كانوا في الدنيا مع المسلمين، وقيل: إنَّ المرادَ أَنَّ كُلَّ كافرٍ يودُّ عند احتضارِه أَنْ لو كان مؤمناً .
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ تَتَوفَّاهُمُ الْمَلاَئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ﴾ [النحل: 28 ـ 29] .
وقال تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ *لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ*﴾ [المؤمنون: 99 ـ 100]، وهم لا يكفّون عن طلبِ الرجعة، فيطلبونها في كلِّ وقتٍ، وفي كلِّ حينٍ[(44)] . ولهـذا قال تعالى: ﴿وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلاَ أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ [المنافقون: 10] .
وقال تعالى: ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ *﴾ [إبراهيم: 44] وقال تعالى: ﴿يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ﴾ [الأعراف: 53] .
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ *﴾ [السجدة: 12] .
وقال تعالى: ﴿وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَالَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ *بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ *﴾ [الأنعام: 27 ـ 28]
وقال تعالى: ﴿وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ*﴾ [الشورى: 44] وقال تعالى: ﴿قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ *﴾ [غافر: 11] .
وقال تعالى: ﴿وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ *﴾ [فاطر: 37] فذكر تعالى أنّهم يسألون الرجعة فلا يجابون: عند الاحتضار، ويوم النشور، ووقت العرض على الجبار، وحين يعرضون على النار، وهم في غمرات عذاب الجحيم .
قال تعالى: ﴿فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلاَئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ *﴾ [محمد: 27] هـذه الآية فيها التصريح بضرب وجوه الكافرين وأدبارهم عند النزع .
قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ *﴾ [الأعراف: 40] .
وقد فسر النبيُّ (ﷺ) هـذه الآية في حديث البراء السابق[(47)]، وفيه أنّه قال: « ... إنّ العبدَ الكافِرَ إذا كانَ في انقطاعٍ من الدنيا، وإقبالٍ من الآخرة (يعني عند الاحتضار ) نزل إليه من السماءِ ملائكةٌ سودُ الوجوه، معهم المسوحُ، فيجلسون مِنْهُ مَدّ البصرِ، ثم يجيءُ ملكُ الموتِ حتى يجلسَ عند رأسه، فيقول: أيتُّها النفسُ الخبيثةُ اخرجي إلى سخطٍ من الله وغضبٍ، قال: فتفرق في جسده، فينتزعُها كما ينتزعُ السفود من الصوف المبلول، فيأخذها في تلك المسوح، ويخرجُ منها كأنتنِ ريحِ جيفةٍ وُجِدَتْ على وجه الأرض، فيصعدون بها، فلا يمرّون بها على ملأٍ من الملائكة إلا قالوا: ما هـذا الروحُ الخبيثُ؟ فيقولون: فلانُ بنُ فلانٍ بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا، فيُستَفْتَحُ له فلا يُفتحُ له، ثم قرأ رسول الله ﴿لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ﴾ [الأعراف: 40] . فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتابَهُ في سجّين في الأرضِ السفلى، فتُطْرَحُ روحُه طَرْحاً، ثم قرأ: ﴿وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ *﴾ [الحج: 31]، فتعادُ روحُه في جسدِهِ، ويأتيه ملكانِ، فيجلسانِهِ، فيقولانِ له: مَنْ ربُّكَ ؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما دِيْنُكَ ؟ فيقول: هاه هاه، لا أدري، فيقولان له: ما هـذا الرجلُ الذي بُعِثَ فيكم ؟ فيقول: هاه هاه لا أدري، فينادي منادٍ من السماء أَن كذَب، فافرشوا له من النار، وافتحوا له باباً إلى النار، فيأتيه مِنْ حَرّها وسَمُومها، ويضيَّقُ عليه قبرُه، حتى تختلَ فيه أضلاعُه، ويأتيه رجلٌ قبيحُ الوجهِ، قبيحُ الثيابِ، مُنْتِنُ الريحِ، فيقول: أبشر بالذي يسوءك، هـذا يومك الذي كنتَ توعدُ، فيقول: مَنْ أنتَ؟ فوجهُك الوجهُ يجيءُ بالشرِّ، فيقول: أنا عملُكَ الخبيثُ فيقول: ربِّ لا تُقِمِ الساعةَ».
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book173.pdf