حسن الخاتمة؛ أسبابها وعلاماتها
الحلقة: السادسة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
أ ـ أسبابُ حُسن الخاتمة:
هناك أسبابٌ يُسْتَدلُّ به على حسن الخاتمة منها :
1 ـ إقامة التوحيد لله جلّ وعلا:
إنّ إقامة التوحيد في قلبِ المسلم يجني ثماره في حياته، وعند موته، وفي قبره، ويوم حشره، ويكون سبباً في دخول جنات ربه ورضوانه، قال رسول الله (ﷺ): « فإنّ الله حرَّم على النارِ مَنْ قالَ لا إلهَ إلاّ الله يبتغي بذلك وَجْهَ الله».
2 ـ الاستقامة:
الاستقامةُ أعظمُ كرامةٍ، وسببٌ عظيم في حُسن الخاتمة، قال تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ*﴾ [الأحقاف: 13] .
والاستقامة كلمةٌ جامعةٌ، اخذةٌ بمجامع الدين، قال الصدّيُق لما سئل عنها: «أنْ لا تشركَ باللهِ شيئاً» فأرادَ بها الاستقامةَ على محضِ التوحيد، وقال عمر بن الخطاب: الاستقامةُ أن تستقيمَ على الأمرِ والنهي، ولا تروغَ رَوَغانِ الثعالب.
3 ـ التقوى:
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ *﴾ [آل عمران: 102] وحَقَّ تقاته أن يطاعُ فلا يُعصى، وأن يذكر فلا يُنسى، وأن يَشْكُرَ فلا يُكفر.
وأصل التقوى: أن يجعل العبدُ بينه وبين مَنْ يخافه ويحذَرَه وقايةً تقيه منه، فتقوى العبدِ لربه أن يجعلَ بينه وبين ما يخشاه من ربِّه من غضبه وسخطه وعقابه وقايةً تقيه من ذلك، وهو فعل طاعته، واجتناب معصيته.
فالتقوى سببٌ للخروج من كلِّ ضيق، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق: 2 ـ 3] ولا شك أنّ العبدَ عند السكراتِ يكونُ في ضيق وشدة، فتكونُ التقوى سبباً لنجاته .
والتقوى سببٌ لتيسير السكرات على العبد المؤمن، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا *﴾ [الطلاق: 4] .
والتقوى سببٌ للنجاة من المهالك، قال تعالى: ﴿وَإِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا *ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقُوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا *﴾ [مريم: 71 ـ 72] .
وهي سببٌ لدخول الجنة، قال تعالى: ﴿تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا *﴾ [مريم: 63] .
4 ـ الصدق:
قال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ*﴾ [التوبة: 119] وقال رسول الله (ﷺ): «ما يزالُ الرجلُ يَصْدُقُ ويتحرَّى الصدقَ، حتّى يكتبَ عند اللهِ صدّيقاً ».
الصدقُ أساسُ بناءِ الدين، وعمودُ فسطاطِ اليقين، مَنْ لم يكن معه الصدقُ فهو من المنقطعين الهالكين، ومنْ كان معه الصدق أوصله إلى حضرة ذي الجلال، وكان سبباً في حُسن خاتمته وطيب المال.
5 ـ التوبة:
قال تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ*﴾ [النور: 31] .وقال تعالى: ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ يَوْمَ لاَ يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ﴾ [التحريم: 8] .
وقال رسول الله (ﷺ): «إنّ الله عزّ وجلّ يَقْبَلُ توبةَ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ».
وقال رسول الله (ﷺ): «إنّ الله عز وجل يبسطُ يدَه بالليل ليتوبَ مسيءُ النهار، ويبسطُ يدَهُ بالنهارِ، ليتوبَ مسيءُ الليلِ حتى تطلعَ الشمسُ مِنْ مغربها»[(71)] .
وأما عن شروط التوبة فهي ستة:
• الشرط الأول: الإقلاع عن الذنوب .
• الشرط الثاني: الندم على فعل تلك الذنوب .
• الشرط الثالث: العزمُ على أنْ لا يعودَ إليها أبداً .
• الشرط الرابع: الإخلاصُ في التوبةِ .
• الشرط الخامس: التحلُّلَ مِنَ المظالمِ، لقوله (ﷺ): «مَنْ كانَ لأخيه عندَه مظلمةٌ مِنْ مالٍ أو عِرْضٍ فليتحلّلْهُ اليومَ قَبْلَ ألاّ يكونَ دينارٌ ولا درهمٌ إلا الحسناتُ والسيئاتُ».
• الشرط السادس: أن تقع التوبة قبل الدخول في سياق الموت، قال رسول الله (ﷺ): «إنّ الله يقبلُ توبةُ العبدِ ما لم يُغَرْغِرْ».
6 ـ الدعاء:
كان من دعاء الصالحين أن يتوفّاهم الله حين انقضاء اجالهم، وهم متمسكون بالطاعات، ملازمون لها، ومجانبون للمعاصي، مفارقون لها، مصاحبون للأبرار، معدودون في زمرتهم، مجافون للفجار، حائدون عن صحبتهم، وفي ذلك يقول عنهم المولى عز وجل: ﴿رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ *﴾ [آل عمران: 193] .
لقد كان ذلك مطلب يوسف رضي الله عنه حين دعا ربه عند انقضاء أجله ؛ وذهاب عمره ؛ أن يميته على الإسلام، ويثبّته عليه، قال تعالى: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالآخرة تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ *﴾ [يوسف: 101] .
7 ـ قصر الأمل والتفكّر في حقارةِ الدنيا:
قال تعالى: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلاَدِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ *﴾ [الحديد: 20] وقال رسول الله (ﷺ): «الدُّنيا ملعونةٌ ؛ ملعونٌ ما فيها ؛ إلا ذكر الله، وما والاه، أو عالماً أو متعلماً».
فالمؤمن يعلم يقيناً أنّ الدنيا لا تساوي عند الله جناحَ بعوضة، وأنّه سينسى كلَّ شقاءٍ بغمسة واحدة في جنة الرحمـن جلّ وعلا، فهو لذلك لا يتعلّق قلبه بأي شيء من حطام الدنيا، بل يمسي ويُصبحُ وهو مشغول بالعمل لهـذا الدين، ولا يرى أمام عينيه إلاّ الجنة والنار، فهو يعلمُ يقيناً أنّه لا راحةَ إلا في جنّةِ العزيز الغفار.
8 ـ الإكثار من ذكر الموت:
ذكرُ الموت ينغّص اللذات، ويحقّر الشهوات، ويجعل الآخرة نُصبَ العين . ومشاهدةُ المحتضرين ؛ والنظر إلى سكراتهم ونزعاتهم ؛ ومعالجتهم في طلوع الروح ؛ وشِدّة كربهم ؛ أعظمُ عبرة، وبتغسيل الموتى يرق القلب، وتذرف العينان، ورؤيةُ القبور وسكونها تعجِّل بالتوبة، فتكون سبباً لحُسْنِ الخاتمة.
وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه إذا وقفَ على قبرٍ بكى حتّى يبلَّ لحيته، فقيل له: تذكر الجنة والنار فلا تبكي وتبكي من هـذا؟ فقال: إنّ رسولَ اللهِ(ﷺ) قال: « إنَّ القَبرَ أوّلُ منزلٍ من منازلِ الآخرة، فإنْ نجا منه، فما بعدَه أيسرُ منه، وإنْ لم ينجُ منه، فما بعده أشدُّ منه ».
وقال رسول الله (ﷺ): «ما رأيتُ منظراً قطُّ إلا القبرُ أفظعَ منه ».
وزيارةُ القبور تذكّر بالموت، فيزهد في الدنيا، ويرغب في الآخرة، ويتّعظ بها ويعتبر، وقد بيّن القرطبي 6 بعباراتٍ مؤثرة كيف تتحقق للزائرِ العبرةُ والعظةُ، فقال: يعتبر بمن صار تحت التراب، وانقطع عن الأهل والأحباب، بعد أن قاد الجيوش والعساكر، ونافسَ الأصحاب والعشائر، وجمعَ الأموال والذخائر، فجاءه الموتُ في وقتٍ لم يحتسبه، وهولٍ لم يرتقبه، فليتأمل الزائرُ حالَ من مضى من إخوانه، ودرجَ من أقرانه، الذين بلغوا الامال، وجمعوا الأموال، كيف انقطعت امالهم، ولم تغن عنهم أموالهم، ومحا الترابُ محاسنَ وجوههم، وافترقت في القبورِ أجزاؤهم، وترمّلت بعدهم نساؤهم، وشمل ذُلُّ اليتمِ أولادهم، واقتسم غيرُهم طريفهم وتلادهم .. وعند هـذا التذكر والاعتبار يزولُ عنه جميع الأغيار الدنيوية، ويقبل على الأعمال الآخروية، فيزهدُ في دنياه، ويقبل على طاعة مولاه، ويلينُ قلبه، وتخشع جوارحه.
9 ـ غلبة الرجاء وحسن الظن بالله:
قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لآَتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ*﴾ [العنكبوت: 5] ومدح أهله وأثنى عليهم، قال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخر وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا *﴾ [الأحزاب: 21] .
والخوف والرجاء كجناحي طائر، إذا استويا استوى الطائر، وتمّ طيرانه، وإن نقص أحدُهما، وقع في الطائر النقصُ، وإن ذهب أحدُهما أو كلاهما صارَ الطائرُ عُرضةً للهلاك.
ولذا جمع الله بينهما في غير موضع، فقال عزّ شأنه: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ﴾ [الإسراء: 56 ـ 57] .
وقال سبحانه: ﴿أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ *﴾ [الزمر: 9] .
ولا يجتمعُ الخوفُ والرجاء في قلب العبدِ عند سكرات الموت ومفارقة الحياة إلا أعطاه الله ما يرجوه من الرحمة والمغفرة، وامنه مما يخافه من العقوبة، ولـكن ينبغي أن يغلبَ عندَ الموت جانبُ الرجاء على الخوف، وأن الله تعالى يرحمه، ويعفو عنه، ويتجاوز عن سيئاته، وذلك حُسْنُ الظن الذي عناه النبي(ﷺ) في حديث جابر بن عبد الله الأنصاري حين قال: سمعتُ رسول الله (ﷺ) قبل موته بثلاثة أيام يقول: « لا يموتَنَّ أحدُكم إلاّ وهو يُحْسِنُ الظنَّ باللهِ عز وجل » . وذلك عند انقطاع العمل، وتبدّد الأمل في بقاءٍ وحياةٍ، ولم يتبقَّ له إلا التعلق بعفو الله ورحمته، وعظيم فضله، ورجاء كرمه، ورحمة الله تسبق غضبه، والعفو أحبُّ إليه من الانتقام.
10 ـ البعد عن أسباب سوء الخاتمة:
فإنّ من أسبابِ حُسن الخاتمةِ الخوفُ من سوء الخاتمة، والبعد عن أسبابها، وهي، فساد المعتقد، والانغماس في البدع، النفاق، ومخالفة الباطن للظاهر، والتسويف بالتوبة، وطول الأمل، وحب الدنيا، وتعلق القلب بغير الله، وإلف المعاصي، والإصرار عليها، والانتحار، واليأس من رحمة الله، ومصاحبة أهل الفساد، وعدم الاستقامة على الطاعة.
ب ـ علامات حسن الخاتمة:
علامات حسن الخاتمة التي جاءت في أحاديث رسول الله (ﷺ) كثيرةٌ، منها: من كان اخرُ كلامه لا إلـه إلا الله، الموتُ برشحِ الجبين، الموتُ يومُ الجمعة، القتلُ في سبيل الله، الموتُ غازياً في سبيل الله، الموتُ بالطاعونِ، الموتُ بداءِ البطن، الموتُ بالغرقِ، الموتُ بالهدمِ، الموتُ في سبيل الدفاع عن المال والدين والنفس، موتُ المرأة في نفاسها بسبب ولدها، الموتُ مرابطاً في سبيل الله، الموتُ على عملٍ صالح.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book173.pdf