ساعة الموت أخطرُ لحظةٍ في عمر الإنسان
الحلقة: الخامسة
بقلم الدكتور علي محمد الصلابي
ذو القعدة 1441 ه/ يونيو 2020
إنّ ساعةَ الموتِ أخطرُ ساعةٍ في رحلة الإنسان الطويلة إلى ما لا نهاية للأسباب الاتية :
1 ـ لأنها بداية الانتقال من عالم الشهادة المحسوس، الذي عرفه الإنسان وألفه، إلى عالمٍ كان غيباً في الحياة الأولى، ويصيرُ محسوساً في الحياة الجديدة، التي تبدأُ بالموتِ الجسدي، ليحدث للإنسان في عالم البرزخ لأول مرة
عوالمُ تختلف كل الاختلاف عن عوالم الدنيا التي عايشَها، وائتلف أو تنافر معها .
2 ـ في ساعة الموت يرى الإنسان ملائكة الله، ويسمع منهم الكلمة الفاصلة النازلة إليه من عند الله تعالى، وهي الكلمةُ التي تدلُّ على نعيمه الأبدي أو شقائه الأبدي، ولو كان يملكُ العالم كلَّه في هـذه الساعة، وقُبِلَ منه أن يضحي به، أو كان يملك ملء الأرض والسماء ذهباً، وقبل منه أن يتصدق به في سبيل أن يسمعَ كلمةَ الرضى والعفو من الله في هـذه الساعة لفعل، وكان في منتهى السعادة، وفي هـذا يقول الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِن سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ﴾ [الزمر: 47] .
3 ـ كلُّ ما جمعه الإنسان وكدَّ فيه، وسهرَ من أجله، وقضى عمره في تخزينه وكنزه، وكل ما زرعه من حدائق غناء، وبساتين فيحاء، وكلَّ ما شيّده من دور، وما زخرفه من قصور، وكل من يحيط به من أهل وخدم وأتباع، كلُّ ذلك ينظر إليه الإنسان حين تأتيه ملائكةُ الموت بحسرةٍ وفزعٍ، ويأسٍ وجزعٍ، فإنّه مفارقٌ للجميع، ومحرومٌ حرماناً مطلقاً من كلِّ ماجمعَ فأوعى، وكنز فأبقى.
إنّ شيئاً واحداً هو الذي يبحثُ عنه هـذا الإنسانُ في لحظةِ موته، ويوقنُ أنَّ فيه نجاته وسعادته، هو ( العمل الصالح )، فإن كان قدّمه فلا يضرّه ما ترك، وإن كان لم يقدّم صالحاً فهو القائل: ﴿يَالَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ *مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ *هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ *﴾ [الحاقة: 27 ـ 29] .
4 ـ تزداد حسرةُ الميت ومصيبته وفجيعته حين يكون منكراً للحياة الآخرة، أو مغرور بمسلكه المضاد لدين الله، أو القائم على البدع والخرافات التي أبعدته عن الإيمان الصحيح، والطريق السوي الموافق للكتاب والسنة:
إنّ مثل هـذا النوع لم يكن يتوقع حياةً أُخرى بعد الموت، أو كان يتوقعها ولكنّه لغروره ظنَّ أنّه على الحق، وأنّ غيرَه على الباطل، اعتماداً على أوهام وخيالات، أو اتباعاً للضالين والمغضوب عليهم من دونِ نظر أو بحث، أو تشبعاً بهواه، واستسلاماً لشياطين الإنس والجن، وهو في كلِّ ذلك رافضٌ لكتاب الله وحكمته، فإذا جاءه الموتُ، كُشِفَتْ له الحقيقةَ، ورأى عكس ما قَدَّرَ، وفوجىء بأنَّ جميعَ مقاييسه كانت مغلوطةً، وجميعَ حقائقه كانت باطلاً وزيفاً، وفي هـؤلاء وأمثالهم يقول تعالى:
﴿الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا *﴾ [الكهف: 103 ـ 104] وقال تعالى: ﴿وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ*﴾ [الزمر: 47]
5 ـ إن ساعة الموت فاصلة بين عمر مهما طال في عصرنا فلن يزيدَ عن مئة وخمسين سنة، وهو يعتبر صفراً إذا قيس بآلافِ السنين في القبر، وخمسينَ ألفَ سنةٍ في الموقف، ثم إلى ما لا نهاية في نعيم لا يوصف، أو في شقاءٍ لا يتصور، ففي هـذا العمر القصير جداً يحدَّدُ المصيرُ بالنسبة للمستقبل اللانهائي، وليس في عمر الدنيا كلِّه يحدد مصير المستقبل، بل في سنينَ معدودةٍ منه، وقد تكونُ أياماً، وقد تكون ساعةً واحدةً أو أقلَّ، يتوبُ الإنسان فيها، ويندمُ على ذنوبه، ويضرَعُ إلى ربه، ويتخلّص من مظالمه، فينال رضاء الله عند موته، ويطمئن على مستقبله، فيا لها من سعادة في متناول الجميع، ومن مستقبل لا نهائي يحدّدُ الإنسان مصيرَه في دقائق، وصدق الله القائل: ﴿سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى *وَيَتَجَنَّبُهَا الأَشْقَى *الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى *ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا *﴾ [الأعلى: 10 ـ 13] لذلك كلّه ولغيره كانت ساعةُ الموت أخطرَ ساعةٍ في رحلة الإنسان.
يمكنكم تحميل -سلسلة أركان الإيمان- كتاب:
الإيمان باليوم الآخر
من الموقع الرسمي للدكتور علي محمَّد محمَّد الصَّلابي
http://alsallabi.com/s2/_lib/file/doc/Book173.pdf