(ملاحظات عامة على التقرير الحكومي العاصمي)
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 231
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1443 ه/ يناير 2022م
قال الإبراهيمي: في الإدارة الجزائرية العليا مطبخة ـ ليست كالمطابخ ـ تُطبخ فيها الاراء والأفكار في كل ما دقَّ وجلَّ من شؤون المسلمين. والقائمون على هذا المطبخ طهاة يُحسنون الفن، ودهاة يحكمون بأول الظن، وهم منتخبون من طراز خاص، أول الشروط فيهم أن يكونوا قد أفنوا أعمارهم في حكم المسلمين، واجتازوا المراتب الإدارية من أدناها إلى أعلاها، وتمرسوا بمحكوميهم وفهموا ميولهم واتجاهاتهم ودرسوا مواطن الضعف والقوَّة فيهم، واخر الشروط فيهم أن يكونوا استعماريين قبل كل شيء، والسيد السند من هؤلاء هو الذي يُثبت أنه حكم المسلمين حكماً استبدادياً، وعرف كيف يُرهقهم وكيف يُذلهم وكيف يضرب بعضهم ببعض، ويمزق شملهم، وكيف يستلب منهم العقل والإدراك، وكيف يروّضهم على أن يقابلوا اللكم بالبكم، والصفع بالشكر، حتى يكتسب من كل ذلك ملكة فيما يسمونه «السياسة الأهلية»، بحيث لو كانت لها درجات كالدرجات العلمية ؛ لمنحوا صاحبها لقب أستاذ في الشيطنة، كما يقال أستاذ في الفلسفة.
في هذا المطبخ طبخ التقرير العاصمي ملفوفاً بتوابله، وفيه وُلد محفوفاً بقوابله، فجاء كما رأيناه وفيه طعم الإدارة ولونها وريحُها، ولو نطق لشهد بالمطبخ والطابخ.
وفي تلك الإدارة نفسها معمل لصنع الرجال على أشكال ومقادير مخصوصة، لا يشترط في المادة الخام إلا أن تكون ذات قابلية واستعداد وطوع وانقياد، وفي المعمل جهاز كيموي من خصائصه إحالة الأعيان معاني، والمعاني أعياناً، فيحيل الرجال مكائد، والمكائد رجالاً.
وفي هذا المعمل صُنع العاصمي وامتحن، فكشف الامتحان عن استيفاء الخصائص والصلاحية للاستعمال، وأصبح ـ بعد استكمال التجربة والاختبار ـ موظفاً في إحدى هذه الوظائف المدَّخرة لوقت الحاجة، ولمن تدعو إليهم الحاجة، وهي الإفتاء الحنفي بالجزائر، أي مفتي الجامع الحنفي بالجزائر، إذ لم يبق من الحنفية فيها إلا جامع يحمل هذه النسبة المجردة، ورأى أن الجامع يجمع ولا يفرق، فوضع فيه رجلاً ـ أيَّا كان ـ ليفرق به ولا يجمع، وحفظ به هذه الوظيفة لهذه الغاية.
ومن دأب الاستعمار فينا أن يُعمر الرجال بالوظائف لا الوظائف بالرجال، وإذا لم يبق في الجزائر من يتعبد على مذهب أبي حنيفة أو يتعامل عليه، فأي معنى لوجود مفتٍ حنفي أو قاضٍ حنفي، لولا أن للاستعمار مأرباً في بقاء هذه المعالم الصورية من بقايا العهد التركي، على أن نسبة المساجد إلى المذاهب ليست من الإسلام في شيء، إذ هي منافية لروح الإسلام، ومناقضة لحكمته في المساجد.
إن وظيفة المفتي من أساسها تزوير على الإسلام، لأن الفتيا في الحلال والحرام حق على كل عالم بالأحكام مستوفٍ للشرائط المقررة في الدين.. وإن وجود وظيفة مفتٍ حنفي في الجزائر تزوير على المذهب الحنفي، وابن العاصمي ومن جرى مجراه من فقه أبي حنيفة ودقائقه وقياسه؟
إن نسبة الحنفي تشترك في بني حنيفة وأبي حنيفة، فلينظر العاصمي أشبه النسبتين به، وبنو حنيفة هم قوم مسليمة الذين اووه ونصروه، ومن غرائب الشبه أن مسيلمة الحنفي كان تشويشاً على مطالب المسلمين الحقة والتقرير محبوك الأطراف حبكاً استعمارياً، مسبوك الألفاظ سبكاً إدارياً، يبدأ من الحكومة وينتهي إليها، يلوح من خلال ألفاظه ومعانيه حرص الحكومة على أن لا يفلت هذا الصيد من يدها، فهي تستنجد التاريخ وتستشهد بعوائد المسلمين ونظم الأقطار الإسلامية، وهو ينطوي على تلك الروح التي نعرفها في المعاهدات السياسية من دس الحيلة وإخفاء الغرض، والاستهواء بالمصلحة، والتزوير على التاريخ، والقياس مع الفارق، وهو يدور على أصل واحد، ولكنه أصل فاسد، يفسد كل ما انبنى عليه، وهو أن أولى الناس بالتصرُّف في المساجد هم الموظفون الرسميون ويسميهم التقرير «رجال الدين»، كأن الأمة كلها نساء الدين، وليس من رجاله إلا العاصميُّ واله وصحبه، ويستشهد على ذلك بأن الحالة كانت على هذا في العهد التركي، وهو على هذا في الأقطار الإسلامية، وهذا كله افتراء على الحقيقة وعلى التاريخ سنكشف أمره، ويستنتج التقرير من هذا أن المسألة كانت إدارية ويجب أن تبقى إدارية، ويبدأئ في هذا ويعيد لأنه هو بيت القصيد.
وهو يقبح الانتخاب (يعني انتخاب الجمعيات الدينية في تكوينها، وانتخابها هي للمجلس الإسلامي الأعلى، الذي أجمع عليه كل المطالبين وأهل الرأي)، ويغالط في الأمر بأن انتخاب تسعة ملايين هو الفوضى بعينها ويقدح في الجمعيات الدينية.. بأن وظيفتها الترميم والإصلاح والفرش، ويهوِّل بأن الانتخاب مدخل من مداخل السياسة إلى المساجد، كما يقدح في الجمعيات والهيئات المطالبة بحقوق الأمة في دينها ؛ بأن وراء كل واحدة منها حزباً سياسياً يؤيدها، إلى غير ذلك مما سننقله عند المناقشة التفصيلية.
يا هذا أو يا هؤلاء، أعني البارز منكم والمستتر، إن الإسلام دين «ديمقراطي» سمح، وليس فيه نظام «أكليريكي» متسلط كبقية الأديان، وإنما هو دين روحي، تقوم بمصالحه المادية الخلافة إن كانت، فإن لم تكن فالحكومة القائمة، فإن لم توجد فجماعة المسلمين، وإن من تسمونهم رجال الدين، تعينهم ـ في غير «الجزائر» ـ الحكومات الإسلامية أو جماعة المسلمين، وجماعة المسلمين لا تكيد لدينها بل تنصح وتسدد وتقارب، ولا تختار للوظائف الدينية إلا أصحاب المؤهلات العلمية المستكملين للشروط الدينية، لأن وراء الجميع رقيباً وعتيداً من الدين، وأمام الكل حساباً شديداً يوم الدين.
وأما «رجال الدين» عندنا، فقد اختارتهم حكومة لائكية متسلطة، وما اختارتهم إلا بعد أن عرفتهم ووزنتهم بميزانها لا بميزان الإسلام، وراعت فيهم شروطها لا شروط الإسلام، وما رأيناها تحفل في هذه الوظائف بالعلم ولا بالكفاية الدينية، وإنما تحفل بشيء واحد هو ما يشهد به «الدوسي»، وما عهدنا موظفاً من هؤلاء جاءته الوظيفة وهو في داره من غير أن يسعى لها سعيها، بل ما وصلت الحكومة حبلهم بحبالها إلا بعد أن اتخذوا لها الأسباب وطافوا بالأبواب.
وما زلنا نقول: إن الحكومة تحتفظ بهذه الوظائف الدينية لأصحاب الخصائص المطلوبة لها، وإنها في حقيقتها مصائد لا وظائف، وإنها لا تدفع لهم الأجور على الصلاة والأذان والصيام، فسواء عندها أصلَّى المسلمون أم لم يصلوا، إنما تدفعها لغايات ومقاصد يجمعها قولك: «القيد والصيد». ومحال على الحكومة أن تُطعم ثمرها من يعصي أمرها. وقد قرأنا في محاضر المجلس المالي القديم أسماء عجيبة لأجور هذا النوع من الموظفين، أليس تسليم الحكومة المساجد إلى هؤلاء الموظفين تسليماً من الحكومة إلى الحكومة، وهل يستطيع واحد من هؤلاء أن يعصي لها أمراً، ولو كان فيه خراب مكة.
أما ما يغالط به التقرير من أن الانتخاب يجر السياسة إلى المساجد، وما يتهمنا به معشر المطالبين برفع سلطة الحكومة عن الدين وتسليمها للأمة، من أن وراءنا أحزاباً سياسية، فهو سلاح من أسلحة الحكومة المغلولة ما زالت تحارب به كل عامل، وكلمة من كلماتها المعلولة، ما فتئت تسكت بها كل قائل، ونحن نرد عليها هذه التهمة بالحقيقة، وهي أن تسلطها على مساجدنا وأوقافنا ـ وهي لائكية ـ هو عين السياسة، وإسنادها الوظائف الدينية إلى من تختاره وترتضيه هو رأس السياسة، ووضع هذا التقرير باسم العاصمي هو ذئب السياسة، ولولا السياسة ما كان للمفتي الحنفي وجود، ولولاها ما تيسرت حجاته المتعددة ولا قضيت حاجاته المتجددة، وإذا كان غير العاصمي منسوباً إلى السياسة أو متهماً بها، أو لصيقاً فيها ؛ فالعاصمي ابن السياسة لصلبها ولرحمها، ولكنه ولد من غير السبيل المعتاد، على رأي عبد الحي الكتاني.
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: