من المقالات المهمة للشيخ الإبراهيمي: "هل دولة فرنسا لائكية؟"
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج3):
الحلقة: 232
بقلم: د. علي محمد الصلابي
جمادى الآخرة 1443 ه/ يناير 2022م
في مقاله: هل دولة فرنسا لائكية؟ تحدث الشيخ الإبراهيمي عن الوزير الوالي فقال: لم نتعرَّض لأعمال الوزير الوالي وخطبه المتكررة، حتى سمعنا خطبته الأخيرة «بعين صالح» وقرأناها في الصحف، فلفتتنا كلمات منها، جلَّى فيها مقاصد الاستعمار بالجزائر، ونبَّهنا على السر في تشدُّد حكومته في قضيتنا الدينية، وتصامِّها على سماع كلمة الحق فيها. تلك الكلمات هي ثناؤه ـ في معرض الامتنان على الجزائر ـ على الجندي والمعلِّم والطبيب والراهب، وقرنه إياهم في قرن، ومعنى هذه الكلمات عندنا أن فرنسا قذفت هذا الوطن بأربعة أنواع من القوى، مختلفة التأثير، متَّحدة الأثر، متباعدة الميادين، ولكنها تلتقي على هدف واحد، وهو التمكين للاستعمار، وأنها حاربته بأربعة أصناف من الأسلحة البشرية، أخفّها فتكاً وأقصرها مدى: الجندي.
جاءت فرنسا إلى الجزائر بالراهب «الاستعماري»، لتفسد به على المسلمين دينهم، وتفتنهم به عن عقائدهم، وتشككهم بتثليثه في توحيدهم، وتضار في ألسنتهم كلمة «الهادي» بكلمة «الفادي»، ذلك كله بعدما أمدته بالعون، وضمنت له الحرية، وكفرت به هناك لتؤمن به هنا.
وجاءت بالمعلِّم الاستعماري ليفسد على أبناء المسلمين عقولهم، ويلقي الاضطراب في أفكارهم، ويستنزلهم عن لغتهم وادابهم، ويشوِّه لهم تاريخهم، ويقلِّل سلفهم في أعينهم، ويزهدهم في دينهم ونبيهم، ويعلِّمهم ـ بعد ذلك ـ تعليماً ناقصاً: شر من الجهل.
وجاءت بالطبيب «الاستعماري» ليحاري على صحة أبنائها قبل كل شيء، باية أنه لا يكون إلا حيث يكون الأوربيون، لا في المداشر التي يسكنها الألوف من المسلمين وحدهم، ولا في القبائل المتجاورة التي تعد عشرات الألوف منهم.
أما هذا الطبيب الاستعماري بالنسبة إلى المسلمين فكأنما جاء ليداوي علة بعلل، ويقتل جرثومة بخلق جراثيم، ويجرِّب معلوماته فيهم كما يجرِّبها في الأرانب، ثم يعيش على أمراضهم التي مكن لها الاستعمار بالفقر والجهل، مما جعل الجزائر كلها ـ إذا استثنينا الحواضر ـ بستان المشمش في نظر ابن الرومي. هذا هو المعنى الذي نفهمه من مجيء هؤلاء ومن ثناء السيد الوزير عليهم، وبعد فهل تتسع الصدور لمناقشة هذه الكلمات الصريحة بكلمات صريحة؟
جاءت فرنسا إلى الجزائر بالجندي ففتح بالقوَّة ومهَّد بالقوة وسجَّل لها في تاريخ الإنسانية صحائف لا ندري ما لونها، إلا إذا قرأنا «رسائل سانت أرنو»، وتقرير لجنة البحث البرلمانية سنة 1833م، وكتاب «كريستيان»، وكلام النائب المنصف «روجي» في مجلس الأمة الفرنسي شهر جانفي سنة 1834م.
ثم جاءت بعده بالمعلِّم والطبيب والراهب بعد أن أجرت لهم عملية التلقيح بمبادأئ «الاستعمار»، وهي مادة من خصائصها تعقيم الخصائص، فلم يبق المعلم معلماً علميَّاً، ولا الطبيب طبيباً إنسانياً، ولا الراهب أباً روحياً. وإنما جاؤوا في ركاب الاستعمار ليخدموه ويثبِّتوا أركانه.
ونظر الناس بعد مرور مائة وعشرين سنة على هذه «الرحمات» الثلاثة المرسلة إلى الجزائر من سماء فرنسا، فإذا تسعة وتسعون في المائة من أبناء الأمة الجزائرية أمِّيون، لم يَروا مدرسة، ولم يسمعوا بمعلم، فقدوا قديمهم ببركة الاستعمار ولم يجدوا الجديد. وإذا الطب الاستعماري لم يقض على المرض وإنما قضى على الصحة، فأربعمائة ألف من مجموع الأمَّة مسلولون والباقون معلولون، وعشرات الالاف من الأجنَّة تسقط لفقد العناية، ومثلها من الصبيان يموت لسوء التغذية، ومثلها من الأحداث يذبل عوده لفقد وسائل التنمية. وإذا الراهب المبشِّر ذئب فلاة يتربص اليتيم لينصّر الأبناء والمجاعات ليفتتن الاباء، فكان من وصايا المسيح عنده أن لا يطعم البطن إلا إذا أخذ القلب، وأن لا يكسو الظهر إلا بالتجريد من الدين، ولا ينشر تعاليم المسيح إلا باستغلال أزمات الضعفاء والبائسين.
حاشا لدين المسيح عليه السلام وكلمته التي ألقاها إلى مريم أن يكون هذا طريقه إلى النفوس، وهذه طريقته في الانتشار. إن المسيح كان عدوَّاً للظلم والباطل، وإن الاستعمار أقبح الباطل وأشنع ظلم على وجه الأرض، فهل يُعدُّ من أتباع المسيح وورثة هديه من ينصر الاستعمار؟.
إن الاستعمار القائم على الجندي والمعلم والطبيب والراهب هيكل حيواني يمشي على أربع.
وإن الاستعمار قد قضى بواسطة هؤلاء الأربعة على عشرة ملايين من البشر، فرمى مواهبهم بالتعطيل، وعقولهم بالخمود، وأذهانهم بالركود، وأفكارهم بالعقم، وأضاع على الإنسانية بضياعهم عشرة ملايين من المواقف والعقول والأذهان والأفكار، وهي رأس مال عظيم كانت تستعين به ـ لولا الاستعمار ـ على الخير العام والمنفعة وتنفع به في إقامة دعائم المدنية، فما أشأم الاستعمار على الإنسانية.
إن هذه الأمة كانت قبل الاستعمار ذات مقومات في دينها ولسانها، وذات مقومات من ماضيها وحاضرها، وكانت أرقى عقلاً، وأسمى روحاً، وأوفر علماً، وأعلى فكراً من أمم البلقان لذلك العهد، بدليل أن هذه الأمة كان لها حظ من حكم نفسها بنفسها لم تصل إليه تلك، ولو سارت سيرها الطبيعي ولم يعترضها الاستعمار بعوائقه وبوائقه، لأنجب المعلم يملي الحكمة لا المعلم الذي يمالأئ الحكومة، ولأنجبت الجندي الذي يحرس الحق لا الجندي الذي يخرس الحق، ولأنجبت المتأله الذي يؤمن بمحمد وعيسى ويوحِّد الناس على هديهما، لا المتأله الذي يسخر لإحياء فريق بإماتة فريق.
إننا أمة علم ودين لم ينقطع سندنا فيهما إلى ابائنا الأولين، وإننا أمة شكران لا أمة نكران، فلو أن المعلِّم الذي جاءتنا به فرنسا علّم ناصحاً، وربِّى مخلصاً، وثقف مستقلاً، وبث العلم لوجه العلم، ونشر المعرفة تعميماً للمعرفة، وزرع الأخوة الصادقة في سبيل الإنسانية الكاملة، ولم يقيده الاستعمار ببرامجه ولا سيَّره على مناهجه ؛ لظهرت اثاره الطيبة في الأمة، ولأنطقتنا تلك الاثار بالاعتراف والثناء بالجميل، ولكنه علّم متحيزاً إلى فئة، وأورد على غير مشربنا، وغرس في نفوس أبنائنا التنكر لما فيهم والتسفيه لتاريخهم والنسيان للغتهم ودينهم، أفهذه هي النعمة التي تمنها فرنسا علينا وتتقاضانا شكرها؟
ولو أن الراهب الذي جاءتنا به فرنسا جاء لينشر تعاليم عيسى بين أتباعه وبث تسامحه بين أشياعه وغير أشياعه ؛ للقي منا التبجيل والاحترام، لأننا أعلم الناس بتعاليم المسيح، ولأننا لا نفرِّق بين أحد من رسل الله، ولأننا نعتقد أن النبوات كلها حق وهداية وخير، ولأن لاحقها ينسخ سابقها بما هو أكمل وأفضل وأجمع لشمل البشر، وأنضى للشر والفساد بينهم، ولكن الراهب الذي جاءتنا به فرنسا إنما جاء ليبارك على القاتل، ويدني الصيد من الخاتل، ويعاون المعمر على امتلاك الأرض، والحاكم على انتهاك العرض، وإنما جاء ليغفر للذين يسفكون دماء الأبرياء ما اقترفوه من ذنوب واثام، أفهذه هي المنقبة التي تفتخر بها فرنسا وتعدّها من وسائل التمدين وتتقدم بها إلى التاريخ؟
هناك المظهر وهنا المخبر.. هناك يقولون إن فرنسا حاملة لواء الحرية وحادية الأمم إليها، وإنها حامية حقوق الإنسان، وإنها زعيمة التحرير في العالم، وإنها أستاذة المُثُل العليا للإنسانية، وإنها منارة العدل التي يهتدي بها المظلومون، يبدؤون القول في ذلك ويعيدونه وينشرونه في العالم، ويكتبونه في كل سطر من صحفهم ومؤلفاتهم، وهنا يفرضون علينا العبودية، ويمنون بها علينا، ويريدون منا أن نسمِّيها بغير اسمها، وأن نكافئهم عليها حمداً وشكراً، ويزور بلادنا من سمع تلك الدعاية وتأثر بها، فتصوَّرَنا بها أحراراً في ملكوت وأبراراً في نعيم، فلا تقع عينه إلا على عهود بائدة من الأشخاص والأحكام والمعاملات، لا تصلح إلا لمتاحف الأثريات، ولا ترى من هذه الأمة إلا عظاماً معروقة وجموعاً مفروقة، وأشكالاً من الجحيم مسروقة، ويتردَّد بين تكذيب السماع وتصديق العيان، ولكن الحقيقة أن ذلك مظهر، وهذا مخبر، ويا بعد ما بينهما!.
وقبل وبعد: فهل حكومة فرنسا بعد إعدادها للرهبان، واعتمادها على الرهبان، دولة لائكية؟
يمكنكم تحميل كتب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من موقع د.علي محمَّد الصَّلابي
الجزء الأول: تاريخ الجزائر إلى ما قبل الحرب العالمية الأولى
alsallabi.com/uploads/file/doc/kitab.PDF
الجزء الثاني: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC135.pdf
الجزء الثالث: كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي من الحرب العالمية الثانية إلى الاستقلال وسيرة الإمام محمد البشير الإبراهيمي
alsallabi.com/uploads/file/doc/BookC136(1).pdf
كما يمكنكم الإطلاع على كتب ومقالات الدكتور علي محمد الصلابي من خلال الموقع التالي: