الجمعة

1446-12-10

|

2025-6-6

من كتاب إشراقات قرآنية بعنوان:
(سورة المدَّثِّر)
الحلقة: 86
بقلم: د. سلمان بن فهد العودة
رجب 1442 هــ/ فبراير 2021
 
 
* {فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِير }:
«ذلك» اسم إشارة إلى اليوم الذي نُقِرَ فيه {النَّاقُور }، و«إذا» في قوله: {فَإِذَا نُقِرَ } تُوحي بالزمان، ففي صبيحة ذلك اليوم ينقر في {النَّاقُور }، ومن عادة العرب أنهم يصفون اليوم بما يُلابسه من الأحوال، فيقولون: هذا يوم نَحْسٍ، كما قال سبحانه: {فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِر } [القمر: 19]، أو يقولون: هذا يوم سَعْد؛ لأنه يوم مبارك وجميل، ويقولون: هذا يومٌ عَسِير؛ لأن فيه صعوبات وعقبات، وهنا سماه: {يَوْمٌ عَسِير }؛ إشارة إلى تعسر الأمور فيه من كل وجه، وأن العُسْر سمة من أقوى وأظهر سماته.
* {عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِير }:
وهذا ليس تكرارًا، بل هو تأكيد، وتخصيص.
فهو {عَسِير } على الناس كافة، حتى يقول الرُّسل عليهم السلام: «اللهمَّ سَلِّمْ سَلِّمْ». «نَفْسِي نَفْسِي»، ولكن الله يقول: {إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا } [الشرح: 6]، فثَمَّ وجوه من اليُسر للأخيار والصالحين، وإن كان ظاهرها العُسر.
أما الظالمون والمعاندون فليس لهم فيه وجه من اليُسر، بل هو {عَسِير } عليهم عُسْرًا لا فرج معه ولا بعده.
وفي الآية تلميح إلى وجوه اليُسر للمؤمنين؛ وهو رُكُون المؤمنين إلى رحمة الله وفضله وكرمه وعطائه، وشعورهم بأنهم موقوفون بين يديْ رحيم غفور.
وهذا اليوم وعيد للكافرين وإنصاف للمظلومين، ووصفه بـ{عَسِير } تكرر في مثل قوله: {وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا } [الفرقان: 26].
ولعل من مناسبة ذلك أنه جزاء ما كانوا يكيدون به لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فيلقى بسببهم عناءً وعسرًا ومشقةً في تبليغ الدعوة، وقد علم الله أنهم سيضطرون نبيه وأصحابه إلى الهجرة ومفارقة أوطانهم وأولادهم وأموالهم، وأنهم سيلقون العَنَت والأذى، ويعزِّز هذا المعنى ما يرد بعده من التهديد لبعض معارضي الدعوة ومعانديها.
* {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا }:
أجمع العلماء على أنها نزلت في الوليد بن المغيرة، فعن ابن عباس رضي الله عنهما، أن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفرٌ من قريش- وكان ذا سِنٍّ فيهم- وقد حضر المَوْسِم، فقال لهم: يا معشرَ قريش، إنه قد حضر هذا المَوْسِمُ، وإن وفودَ العرب ستقدمُ عليكم فيه، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا، فأجمعوا فيه رأيًا واحدًا، ولا تختلفوا، فيكذِّبَ بعضُكم بعضًا، ويردَّ قولُ بعضكم بعضًا.
فقالوا: فأنت يا أبا عبد شمس فقل، وأقم لنا رأيًا نقولُ به. قال: بل أنتم، فقولوا أسمع.
فقالوا: نقولُ: كاهنٌ! قال: والله ما هو بكاهن، لقد رأينا الكُهَّانَ، فما هو بِزَمْزَمَةِ الكُهَّان ولا سجعهم.
قالوا: فنقولُ: مجنونٌ! قال: والله ما هو بمجنون، فقد رأينا الجنونَ وعرفناه، فما هو بخَنْقه ولا تخالُجه ولا وسوسته.
قالوا: فنقولُ: شاعرٌ! قال: ما هو بشاعر، لقد عرفنا الشِّعرَ كله؛ رَجَزَهُ وهَزَجَه وقَرِيضَه ومقبُوضَه ومبسُوطَه، فما هو بشاعر.
قالوا: فنقولُ: ساحرٌ! قال: والله ما هو بساحر، لقد رأينا السُّحَّارَ وسِحرهم، فما هو بنَفْثِهم ولا عَقْدِهم.
قالوا: فماذا نقولُ يا أبا عبد شمس؟ قال: والله إنَّ لقوله حلاوةً، وإنَّ أصله لعَذِقٌ، وإن فَرْعَه لجَناةٌ، فما أنتم بقائلين من هذا شيئًا إلا عُرفَ أنه باطلٌ، وإن أقربَ القول فيه أن تقولوا: ساحرٌ، فما يقولُ سحرٌ يفرِّق بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته.
فتفرَّقوا عنه بذلك، وجعلوا يجلسونَ بسُبل الناس حين قدموا المَوْسِم، لا يمرُّ بهم أحدٌ إلا حذَّروه إيَّاه، وذكروه، فأنزل الله في الوليد من قوله تعالى: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا...} إلى قوله: {سَأُصْلِيهِ سَقَر } [المدثر: 11- 26].
ويؤكِّد هذه الرواية: خبر فُتور الوحي؛ فإن الوحي بدأ في رمضان الذي أُنزل فيه القرآن ثم فتر، وكانت فترة انقطاع الوحي أربعين يومًا على الراجح، أي: إلى أواخر شوال أو أوائل ذي القَعْدة، وموسم الحج على الأبواب، وقريش يشعرون بأن الحج ربما يكون فرصة ليدعو النبي صلى الله عليه وسلم الناس فيها إلى دين الإسلام، فكان لا بد أن يتفقوا على أمر يقولونه للحُجَّاج، وقد بدأت أوائلهم تصل إلى مكة، فاجتمعوا في ذلك الوقت ربما قبل الحج بشهر أو نحوه، واتفقوا على رأي الوليد بن المغيرة أن يقولوا: إن محمدًا صلى الله عليه وسلم ساحر.
وكان زعيم هذه الفِرْية الوليد بن المغيرة، فيتصدَّى الله له، وينزل وحيه على نبيه صلى الله عليه وسلم المهموم المغموم، فيقول سبحانه: {ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا } أي: اتركني- يا محمد- وإيَّاه، ولا تحمل همَّه.
وفي هذا تذكير الرسول صلى الله عليه وسلم بمعيَّة الله له، وكأن الجانب واحد؛ فمحمد صلى الله عليه وسلم مع ربه وربه معه، وهذا الوحيد الضعيف يحارب الله ويحارب رسوله، فهو إلى هلاك.
وقوله: {ذَرْنِي } استخدام عربي معروف يُوحي بالتهديد، أي: دعه لي واتركني له، سأتولَّى أمره.
وجاء وصفه في الآية: بالوحيد، مطابقًا لما كان الوليد بن المغيرة يسمَّى به، فقد كان يسمَّى في مكة: الوحيد؛ لأنه لم يكن أحد بمكة مثله؛ كان عنده عشرة من البنين، وقيل: ثلاثة عشر ابنًا من أكابر أبناء مكة، وهم شباب أقوياء يتعزَّز بهم، وكان عنده أموال كثيرة، قيل: كان عنده أكثر من ألف ألف دينار من الذهب، وكان يملك أراضي واسعة بين مكة والطائف، وكان له جاه كبير، ولبنيه من بعده، وكان كبير السن، فهو من أكبرهم سنًّا، وله عقل ورأي؛ ولذلك كان متوجًا موحدًا في منزلته، لا يوجد في مكة مثله.
وهنا وصفه بالوحيد، ولكن بطريقة أخرى، فالله خلقه في بطن أمه وحيدًا، وأخرجه من بطن أمه وحيدًا فردًا لا أحد معه، كما قال الله: {وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [الأنعام: 94].
* {وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُودًا }:
أي: أنعمت عليه وأعطيته مالًا طويلًا عريضًا كثيرًا، فهو أكثر الناس مالًا، ليس بكَدِّه وكسبه، بل بما رزقه الله، وهو يدري أن أمواله غالبها يعتمد على الماء النازح من الأرض أو النازل من السماء، وعلى تجارة تنميها الكعبة بقدسيتها وتعتمد على الحجاج والمعتمرين والزوار المنتابين لمكة.
* {وَبَنِينَ شُهُودًا }:
أي: كثيرين، قيل: كانوا ثلاثة عشر ابنًا لا يغيبون عنه، بل هم شهود حاضرون، ملازمون له، قد كُفُوا إدارة المال بالخدم والعبيد، فلا يحتاجون إلى سفر يخشى عليهم فيه من مخاطر السفر ومغبته، فهم عند أبيهم، وهو يتعزَّز بهم إذا جاءه ضيوف أو حلَّت به مصيبة، والعرب كانت تفاخر بكثرة البنين.
* {وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيدًا }:
تقول: هذا طريق ممهَّد، أي: مذلَّل مسهَّل ليس فيه عقبات، ومنه: مَهْدُ الصبي؛ لأنه يُمهد فيه، ومنه قوله تعالى: {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُون } [الروم: 44]، فالمهد، والمهاد، والتمهيد: التسهيل، أي: سهَّلتُ له تسهيلًا، فكل شيء مسَهَّل له؛ المال والصحة والفراغ والولد والأزواج والجاه، كل ما يريد وما يتمنى موجود.
* {ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيد }:
أي: بعد هذا كله يطمع أن أزيده في الدنيا، فهو يفكِّر كل يوم بالمزيد من الأرباح والمكاسب والصفقات، ولا يخشى النقص أو الفوات، ولا يفكِّر بالخسارة في ماله أو في ولده أو صحته وعافيته.
و«الطمع يُذهب ما جمع»، وهذا نهي عن أن يكون الإنسان طمَّاعًا طموحًا في أمر الدنيا مع ما رزقه الله، وأنه ينبغي أن يكون طمعه وطموحه في أمر الآخرة، فالإنسان لا يُذم بأن يكون عنده طموح أخروي، بل بالطمع الدنيوي الذي يفضي إلى التعدي على حقوق الآخرين، أو بنسيان الآخرة والغفلة عنها.
والتعبير بالطمع فيه معنى الذَّم والعيب؛ لأن الطمَّاع مثال الدَّناءة والخِّسَّة، بخلاف طمع الآخرة، فهو رُقِيٌّ ونُبل، كما في استخدام لفظ: الطمع في مثل قوله تعالى: {إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَن كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِين } [الشعراء: 51]، وقوله سبحانه: {وَالَّذِي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّين}[الشعراء: 82]، وقوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُون } [الأعراف: 46].
وفيه إشارة إلى أنه يدرك أن المال من الله سبحانه؛ ولهذا فهو يطمع من الله أن يزيده، فهم مُقِرُّون أن الأصنام لا ترزقهم، وإنما يعبدونها لتقرِّبهم إلى الله زلفى، كما قال تعالى حاكيًا عنهم: {لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى } [الزمر: 3].
 
سلسلة كتب:
إشراقات قرآنية (4 أجزاء)
للدكتور سلمان العودة
متوفرة الآن على موقع الدكتور علي محمَّد الصَّلابي:


مقالات ذات صلة

جميع الحقوق محفوظة © 2022